IMLebanon

مسيحيو لبنان ليسوا كمسيحيي العراق وسوريا! ( بقلم رولا حداد)

croix

 

تردّدت كثيراً قبل أن أكتب هذه الكلمات، فأنا لست ممن يحبّون الوعظ والإرشاد. لكنّ التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، ويعاني بسببها المسيحيون كثيراً دفعتني الى تخطي حذري.

صحيح أن ما يجري من جرائم وحشية تعصف بالمنطقة ككل، وببعض الدول العربية تحديداً، يفوق كل وصف. لكنها ليست المرّة الأولى التي يعاني فيها المسيحيون من الاضطهاد والقتل والتهجير.

ولنكن صادقين مع أنفسنا فإن مجموعات “داعش” تستهدف السنّة والشيعة تماماً كما تستهدف المسيحيين. ولكنها حتماً ليست أول من استهدف المسيحيين.

“المسيحي” الأول، يسوع المسيح، تعرّض لأشنع اضطهاد وصُلب على الصليب ومات… لكنه قام في اليوم الثالث وغلب الموت بالموت.

“صخرة” الكنيسة القديس بطرس صُلب أيضاً وبالمقلوب حتى لا يتشبّه بمعلّمه.

المبشّر الأشهر في تاريخ المسيحيين مار بولس الرسول، كان من أبرز مضطهدي المسيحيين الأوائل.قبل أن يصبح أشهر مبشّر في تاريخ المسيحية، وبحسب روايات المؤرخين غير المثبتة حتى اليوم فإنه اعتُقل وأُعدم بقطع رأسه (كم تشبه ممارسات “داعش” اليوم).

القديس توما أُعدم بقطع رأسه أيضاً. القديس أندراوس أُعدم صلباً… ولن أُكمل لأن اللائحة لا تنتهي. الثابت الوحيد أن كل تلك الممارسات زادت كنيسة المسيح نمواً وإيماناً، ولم تؤثر على البشارة التي استمرت حتى وصلت الى كل أنحاء العالم. أما الملاحظة فكانت أن جميع الرسل والشهداء كانوا يستشهدون بفرح لأنهم يؤمنون أن المسيح بقيامته “وهب الحياة للذين في القبور”.

ما تقدّم لا يعني على الإطلاق أن “نفرح” بالاضطهاد الذي يتعرّض له مسيحيو العراق. لكننا نؤمن أن بعد الاضطهاد والصلب وقطع الرؤوس قيامة حتمية، لأنه “لولا القيامة لكان إيماننا باطل” كما قال بولس الرسول.

هذا في الإيمان، أما في السياسة فجردة سريعة على التاريخ تثبت أن ما من طاغية وما من مجموعة بشرية أو شبه بشرية استطاعت أن تدوم على حساب دماء الناس.

وفي لبنان مرّت حجافل متعددة، الأمويون والمماليك والعباسيون والعثمانيون… ولم يبقَ منهم غير آثار للتاريخ على صخور نهر الكلب. وأتى الفلسطينيون الذين تحوّلوا في مرحلة الى جيش احتلال ورحلوا، وكذلك دخل السوريون لبنان واحتلوه ثم اندحروا عنه. لم يبقَ على هذه الأرض غير أبنائها.

حفنة من الموارنة قاوموا أعتى الجيوش وتحصنوا في الأودية والمغاور وعلى سفوح الجبال. حفروا الصخور وزرعوها ليبقوا ويصمدوا. تشبثوا بإيمانهم وقاوموا.

قدموا بطاركة ومطارنة وكهنة وراهبات شهداء. البطريرك حجولا استشهد حرقاً على يد المماليك في العام 1367 في طرابلس، لكنّ الموارنة لم يستسلموا.

واستمرّ المسيحيون في النمو الى أن فرضوا قيام دولة لبنان الكبير مع البطريرك الياس الحويّك، بعد أن رفضوا تحجيم دورهم أو تقزيمه.

لم يكن المسيحيون في لبنان يوماً روّاد تقوقع أو انعزال، كما لم يقبلوا يوماً أن يكونوا أهل ذمّة. لم يرتضوا أن يكونوا في موقع المعتدي ولا أن يسكتوا عن أي ضيم أو اعتداء يستهدفهم. لطالما أحبوا الانخراط في المحيط الأوسع مع الحفاظ على إيمانهم وثقافتهم وطقوسهم. إنه منطق التفاعل الحضاري الذي يشبههم، وهو المنطق المعدي والذي نشر العدوى الى جميع اللبنانيين من مختلف الطوائف الإسلامية والموحدين الدروز. إنه منطق العيش المشترك الذي جعل الاختلاط بين الطوائف اللبنانية تجربة قابلة للحياة على قاعدة الوجود المسيحي الذي يمثل صمام أمان للتعايش في لبنان.

أعترف بأن وضع مسيحيي المنطقة يختلف عن وضع مسيحيي لبنان. فهم لم يتقنوا المقاومة، لم يمارسوها. الصلاة والإيمان أساسان راسخان، لكن الدفاع عن النفس يبقى من أبسط الحقوق البشرية. ومن حق مسيحيي المنطقة أن يدافعوا عن أنفسهم بالطريقة التي يرونها مناسبة… أو ربما من الأفضل لهم أن يتعلموا من مسيحيي لبنان عبر التاريخ. وعلى مسيحيي لبنان بدورهم أن يعيدوا قراءة تاريخهم جيداً ليبقوا القدوة والمثال في هذه المنطقة من العالم.

ولنكن على يقين وثقة بالذي قال لنا يوماً: “لا تخافوا فأنا معكم حتى انقضاء الدهر” وطمأن كنيسته أن “أبواب الجحيم لن تقوى عليها”.