IMLebanon

معلومات جديدة عن لغز “اختطاف” التشيكيين

 

Czechs kidnapped

 

 

كتبت صحيفة “السفير”: لم يتبدد نهائياً لغز اختطاف التشيكيين الخمسة في لبنان بعد. عشرون يوماً مرّت واللغز يسير في نفق أمني ـ ديبلوماسي، بسرّية شديدة تبدأ فصولها ومعلوماتها من واشنطن إلى براغ ثم بيروت، وصولاً إلى كييف: ثلاث دول تتابع مكاتبها الأمنية القضية ساعة تلو ساعة، بينما دولتنا مغيّبة عن الملف قسراً، فلا معلومات لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية من جانب الوفد الأمني التشيكي، الموجود في بيروت منذ ليل 22 تموز الماضي ويضمّ ثلاث ضبّاط من المخابرات الخارجية.

القصة بدأت مساء الخميس في 16 تموز الماضي، أي قبل عشرين يوماً: 5 تشيكيين معهم سائق لبناني اسمه صائب منير طعّان فيّاض، فُقد أثرهم نهائياً، وفق كاميرات المراقبة لدى الأمن، في أحد مطاعم زحلة، فيما عثرت القوى الأمنية على السيارة التي يملكها فيّاض عند طريق كفريا في البقاع الغربي، ليل الجمعة، أي بعد يوم واحد من اختفائهم.

كاميرات المراقبة رصدت السيارة التي كانت تقلّهم حتى زحلة، لكنها لم تتمكن من رصدها حين تم ركنها في كفريا، بطريقة مشبوهة، فاتصل أحد المواطنين ليل الجمعة بالدرك وأبلغهم عن السيارة، وهي حافلة صغيرة، ثم توجهت دورية من «شعبة المعلومات» إلى المكان وفتّشت محتوياتها. عُثر في السيارة على جوازات سفر التشيكيين الخمسة إلى جانب كاميرات تُستخدم للتصوير الصحافي، وبعض الأموال النقدية وأجهزة كومبيوتر محمولة.

آنذاك، بدا واضحاً للضبّاط المعنيين في الشعبة أن ما حدث ليس عملية خطف مقابل فدية مالية، وتبين لهم أن سائق السيارة صائب فيّاض هو شقيق الموقوف في تشيكيا منذ نيسان العام 2014 علي فيّاض، بتهمة الاتجار بالسلاح والمخدرات، إلى جانب كل من اللبنانيين فوزي جابر وخالد المرعبي، الذين أوقفوا بناء على مذكرة أميركية تسلمتها تشيكيا عبر «الانتربول».

ومنذ تلك اللحظة، بدأ اللغز يزداد تعقيداً، بينما فرضت «شعبة المعلومات» حظراً مشدداً على مجريات التحقيق لديها، ما أدى إلى اختفاء الموضوع في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، خلافاً لما حصل سابقاً في قضية اختطاف الأستونيين السبعة في العام 2011 بالبقاع، حيث تفرّغ الإعلام لتفاصيل العملية ومستجداتها يوماً بيوم طيلة أربعة أشهر تقريباً.

لكن خطف الأستونيين آنذاك لم يكن يحمل لغزاً مثل لغز التشيكيين اليوم: يومها نفّذت مجموعة أصولية عملية الخطف مقابل الحصول على فدية مالية، ثم سرّبت فيديو يظهر صوراً لجوازات سفر الأجانب السبعة أرفقته لاحقاً بفيديو آخر، إلى أن أطلق سراحهم مقابل حصولهم على 7 مليون يورو من الدولة الإستونية، فيما ملف التشيكيين الخمسة أصبح مؤكداً أنه بعيدٌ عن الخطف مقابل فدية مالية، وإنما بهدف مقايضة المخطوفين بعلي فيّاض، الذي رجّحت مصادر أمنية رسمية لـ «السفير» ارتباطه بجهة سياسية لبنانية.

المحامي خطف نفسه ؟

يتشدد الضباط المعنيون في «شعبة المعلومات» واستخبارات الجيش على عدم التصريح إعلامياً عن أي تفاصيل توصلوا إليها في التحقيقات. إلا أن أحد الضباط المخضرمين الذي التقى الوفد الأمني التشيكي أخيراً، يقول لـ «السفير»: «سألتُ ضابطاً من الوفد عما إذا كانوا يتواصلون مع الجهة الخاطفة، فكان ردّه أنه لا يستطيع الإجابة. حينها قلت له شكراً، وأخبرته أنني حصلتُ على الجواب».

يوضح الضابط، الذي يعمل في جهاز أمني رسمي، قائلاً: «ثمة تكتم من جانب الأمن التشيكي. إنهم لا يجيبون على أسئلتنا، تماماً مثلما يفعل معنا الأميركيون»، مؤكداً أن «خاطفي التشيكيين محترفون، وتركوا لنا أدلّة لنتبعها في اتجاه معيّن يؤدي إلى تشتيت المعلومات، بينما يقومون بالتفاوض مع المعنيين في الدولة التشيكية، ويُرجّح أن جهة سياسية لبنانية تدعم الخاطفين بسبب ارتباطها بالموقوف اللبناني علي فيّاض، الذي يحمل الجنسية الأوكرانية ولديه شبكة تهريب أسلحة عالمية».

وفي حين يرفض الضابط توضيح سبب ترجيحه بـ «أن جهة سياسية لبنانية خططت لعملية الخطف ونفذتها بطريقة احترافية»، يقول مصدر ديبلوماسي واسع الإطلاع على ملف التحقيق: «لا معلومات مؤكدة حتى الساعة عن تورّط جهة سياسية محلية في عملية الخطف، وإنما مجرّد تحليلات تستند إلى معطيات غير مكتملة، بينما المؤكد أن التشيكيين لديهم قناة تواصل مباشرة مع الخاطفين أو المندوبين عنهم، علماً أن جهازاً أمنياً لبنانياً أفادنا بأن التواصل التشيكي قائم مع جهة غير رسمية لكن لديها ارتباط مباشر مع مدبّري عملية الخطف».

ويكشف المصدر الديبلوماسي لـ «السفير» عن معلومة وصفها بـ «الخطيرة» و «المؤكدة» حتى الآن، مفادها أن «أحد المخطوفين التشيكيين الخمسة، وهو محامي الدفاع عن علي فيّاض (اسمه Svarc Jan)، متورّط بشكل أساسي بعملية الخطف، بالتنسيق مع صائب فيّاض، أي أنه شكلياً يُعدّ مخطوفاً، لكنه في الواقع شريكٌ بالعملية لقاء مبلغ مالي كبير».

وتُظهر معلومات «السفير»، استناداً إلى برقيات موثّقة، أن المحامي المذكور زار لبنان مرّتين في العام 2014. المرة الأولى جاء وحيداً، والتقى بعائلة فيّاض وبعض المحامين اللبنانيين، ثم اصطحب معه في الزيارة الثانية أحد المخطوفين التشيكيين الخمسة حالياً، وهو المترجم آدم حمصي (سوري ويحمل الجنسية التشيكية).

أما المخطوفين التشيكيين، وخلافاً لما تردد في وسائل الإعلام، فهم لم يقصدوا لبنان مرّات عدة، بل مرّتين فقط: أول مرة في حزيران الماضي، أي قبل نحو شهر من عملية الخطف في تموز. وحينها كانوا أربعة أشخاص، المترجم والمحامي وصحافيان اثنان.

في تلك الزيارة التي استغرقت أياماً معدودة، تفيد معلومات «السفير» بأن صائب تولّى رعاية التشيكيين الأربعة واصطحبهم إلى قلعة بعلبك، ثم عرّفهم إلى دليل سياحي في المنطقة يُدعى م.و.، قائلاً له إنهم يعدّون تحقيقات صحافية عن أوضاع النازحين السوريين في البقاع، وطلب منه مساعدتهم بتأمين مقابلات صحافية مع مسؤولين في عرسال.

بعد ذلك، التقى التشيكيون بمحافظ بعلبك ـ الهرمل بهدف إجراء مقابلة صحافية، ثم قصدوا اللبوة، وإثرها توجهوا إلى عرسال، لكن الجيش منعهم من الدخول إلى البلدة.

الزيارة الثانية والأخيرة

في الزيارة الثانية، انضم شخصٌ جديد إلى التشيكيين الأربعة، يعمل في مجال الأمن الاستقصائي في بلده، علماً أن انضمامه إليهم يُعدّ لغزاً لم تُكشف تفاصيله بعد. آنذاك، وتحديداً يوم الأربعاء في 15 تموز الماضي، وصل التشيكيون الخمسة إلى فندق الـ «كورال بيتش» في الجناح، وليس إلى البقاع من المطار مباشرة كما تردد في وسائل الإعلام، ثم اصطحبهم صائب فيّاض صباح اليوم التالي إلى البقاع، حيث كان هو يقود الحافلة الصغيرة، والتقوا في اللبوة بأشخاص من البلدية، قائلين لهم إنهم يعدّون تحقيقاً صحافياً عن النازحين السوريين في لبنان.

وعندما انتهت جولتهم في اللبوة، قصدوا بلدة الفاكهة واجتمعوا مع أحد وجهائها (من عائلة محي الدين)، فيما كان يرافقهم في الجولة الدليل السياحي م.و، بعدما اتصل به صائب قبل يوم واحد طالباً منه ملاقاتهم في البقاع. ومجدداً، حاولوا الذهاب إلى عرسال، لكن الجيش منعهم من دخول البلدة.

في إفادته أمام الجهات الأمنية المعنية، قال م.و. إنه ترك التشيكيين الخمسة مع صائب إلى جانب طريق دورس البقاعية باتجاه زحلة ـ بيروت، عند الساعة الخامسة والنصف عصراً، علماً أنهم كانوا سيغادرون لبنان صباح الجمعة، ثم أظهرت كاميرات المراقبة أن آخر مكان قصدوه، موثّقاً بالصورة، هو أحد مطاعم زحلة، وبعدها فُقد أثرهم نهائياً في تلك الليلة، أي مساء الخميس 16 تموز، بينما عُثر على السيارة ليل الجمعة.

بطاقة أمنية رسمية

يكشف المصدر الديبلوماسي المطلّع على مسار التحقيقات في بيروت وواشنطن، عن «معلومة مؤكدة وردت إلينا من جهاز أمني محلي، مفادها أن شخصاً لبنانياً تربطه صلة قربى وثيقة جداً بمسؤول لبناني رسمي بارز، قام بتزويد علي فيّاض ببطاقة أمنية رسمية، تقول إن علي يعمل مخبراً لدى جهاز أمني في الدولة اللبنانية، وذلك بهدف تسهيل مرور وعمل فيّاض في لبنان، قبل توقيفه في تشيكيا».

يضيف المصدر: «عُرض على علي فياض عرضاً تجارياً في السوق السوداء، من جانب منظمة الفارك، وهي منظمة كولومبية تعمل في تجارة المخدرات، يقضي بتسليمهم كميات من السلاح مقابل استلامه منهم كميات من المخدرات»، لافتاً إلى أن «فيّاض، وفق معلوماتنا، أتى إلى لبنان ونقل العرض الكولومبي إلى الشخص اللبناني، فطلب منه الأخير استدراج أفراد المنظمة إلى لبنان».

في تلك الأثناء، كانت السلطات الأميركية قد وضعت علي فيّاض والمرعبي وجابر تحت المراقبة المشددة، بعدما بلغتها معلومات من مخبريها بأن الثلاثة يجهزون لإنجاز صفقة مخدرات «ضخمة» مع الـ «فارك»، يُشبته بأنهم سيهرّبوها إلى الولايات المتحدة الأميركية. بعد ذلك، أرسلت السلطات الأميركية مذكرة رسمية إلى تشيكيا عبر «الانتربول»، طالبت فيها بتوقيف اللبنانيين الثلاثة حين وصولهم إلى العاصمة براغ في نيسان، وتحويلهم إلى واشنطن.

وبعدما تم توقيفهم في تشيكيا، رفضت محكمة الاستئناف هناك تسليمهم إلى أميركا، لكن حين كادت الضغوط الأميركية تقترب من التوصّل إلى استلامهم، وقعت عملية خطف التشيكيين الخمسة في البقاع الغربي، علماً أن «جهازاً أمنياً أجنبياً تقاضى مليون وأربعمئة ألف يورو من أحد اللبنانيين الثلاثة، لقاء عرقلة تسليمهم إلى الولايات المتحدة»، وفق إفادة مصدر ديبلوماسي غربي لـ «السفير».

ويشير المصدر إلى أن «الهدف من عملية خطف التشيكيين في لبنان هو ليس منع تسليم اللبنانيين الثلاثة إلى واشنطن، بل المقايضة بين المخطوفين وبين علي فياض، ويكون بحوزة السلطات في تشيكيا تبرير واقعي أمام القضاء الأميركي مفاده أن 5 من مواطنيها تعرّضوا للخطف»، لافتاً إلى أن «الوفد الأمني التشيكي وردته معلومات أمنية مؤكدة أن المخطوفين موجودون حالياً في إحدى بلدات الجنوب اللبناني، وقاموا بزيارة مسؤول جهاز أمني لبناني رسمي وطلبوا منه، بما أنه من الجنوب، أن يتعاون معهم في الملف، لكنه قال لهم إن القضية لدى القضاء اللبناني، وأنا مستعد للتعاون معكم لكن بناء على طلب الدولة اللبنانية فقط».

قبل العملية وبعدها

ثمة أسئلة عدة ترتبط بسياق عملية الخطف، سواء قبل تنفيذها أم بعدها، أبرزها: 1 ـ هل فعلاً توجد جهة سياسية لبنانية متورطة بالخطف، ولماذا؟ 2 ـ بما أن المعطيات الأمنية المتوافرة تؤكد وجود تخطيط مسبق لعملية الخطف، فلماذا لم تتم العملية خلال زيارة التشيكيين الأولى إلى لبنان في حزيران الماضي؟ 3 ـ ما هي مهمة رجل أمني تشيكي بين وفد صحافي، ولماذا لم يكن موجوداً في الزيارة الأولى، بينما حين جاء معهم تمت عملية الخطف؟ 4 ـ لماذا ترك الخاطفون السيارة في كفريا، بينما كان يمكنهم ركنها في اللبوة أو بلدة غير بعيدة مقارنة بكفريا؟

5 ـ لماذا ترك المحامي التشيكي ملفاً كاملاً في غرفته في الفندق، يتضمّن معلومات مفصّلة و «حساسة» عن علي فيّاض؟ 6 ـ هل يستطيع صائب فيّاض بمفرده تنفيذ عملية يصفها الضباط المعنيون بـ «المحترفة والمنظمة»؟ 7 ـ هل تمّ استدراج التشيكيين في الزيارة الأولى بذريعة إجراء تحقيقات صحافية؟ 8 ـ ما هو مضمون التحقيقات، هذا إذا كان فعلاً دقيقاً أنهم أتوا بهذا الهدف؟ 9 ـ إذا كان فعلاً هدف الزيارتين إجراء تقارير صحافية، فهل هي عن قصة علي فيّاض وبالتالي مقابلات مع عائلته اللبنانية؟ 10 ـ إذا كانت عن فياض، فلماذا قصدوا بلدات بقاعية وقالوا لمن التقوهم إنهم يعدّون مواضيع صحافية عن النازحين السوريين؟ 11 ـ ما هي النتيجة المُحتملة لعملية الخطف، هل سينجح الخاطفون بمقايضة المخطوفين بعلي فيّاض، من دون علم الدولة اللبنانية إلا بعد تنفيذ الاتفاقية؟

وإلى حين الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، وتبديد الغموض الراهن، ثمة سؤال لا مفرّ منه: متى تتوحّد الأجهزة الأمنية اللبنانية، من مخابرات الجيش إلى شعبة المعلومات والأمن العام، أقلها عبر تشكيل غرفة عمليات مشتركة، علّها تعيد إلينا بعضاً من «الاحترام» أمام الدول الغربية الكبرى، التي يتعاطى مسؤولوها في الأمن مع الأجهزة الأمنية اللبنانية، مثلما يتعاطى مسؤولوها في السياسة مع «زعماء» السياسة في بلدنا: «نحن أسيادكم»، يرددون دوماً..