IMLebanon

التقشف والإعلام الجديد يعرضّان حياة «بي بي سي» للخطر

BBC
هنري مانس

لم يكن اقتراح فيلم “مارفيلوس” اقتراحا واعدا تماما. فهو يروي القصة الحقيقية لنيل بالدوين، المهرج الفاشل الذي يعاني صعوبات تعلم، الذي يريد تولي إدارة نادي ستوك سيتي لكرة القدم.

قال باتريك سبينس، رئيس شركة الإنتاج “فيفتي فاثومز”، “لو كانت هيئة الإذاعة البريطانية قد رفضت هذا الفيلم، لما كنا حصلنا على هذا العرض في أي مكان آخر. لم تكن لدينا خطة بديلة. لم يكن بإمكان أي هيئة إذاعة أخرى القيام بذلك”.

لم ترفض هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” الفيلم. وتم عرض “مارفيلوس” على القناة الثانية للهيئة العام الماضي، وشاهده 1.5 مليون شخص، وحاز على جائزة بافتا لأفضل فيلم تلفزيوني.

إن فكرة أن يكون بإمكان هيئة الإذاعة البريطانية وحدها التعاقد لإنتاج وإذاعة برامج معينة هي فكرة متأصلة الآن في الذات البريطانية – مثلها مثل الحافز العميق للاعتذار، والاعتقاد بأن الأسماء الوسطى الخاصة بملوك المستقبل هي عبارة عن موضوع مقبول في الحديث بين الناس.

فقط “بي بي سي” هي التي تحول صناعة الكيك إلى مشاهدة تلفزيونية ذات استقطاب واسع (برنامج الخبز البريطاني العظيم) والمحاضرات المتعلقة بالحلي الصغيرة القديمة إلى برنامج شعبي على الراديو (تاريخ العالم في 100 جسم). فقط “بي بي سي” هي التي تغطي الأحداث الرياضية الكبرى، مثل بطولة ويمبلدون ودورة الألعاب الأولمبية، دون فواصل إعلانية مزعجة. فقط منظم “بي بي سي” هو من يتلقى أكثر من ربع مليون شكوى سنويا.

لكن خلال السنوات المقبلة ربما ستقدم هيئة الإذاعة العامة الأكثر شهرة في العالم برامج أقل. بموجب صفقة تمويل جديدة، تم الاتفاق عليها في تموز (يوليو)، سوف تستوعب تدريجيا التكلفة السنوية البالغة قيمتها 725 مليون جنيه استرليني لتراخيص التلفزيون المجانية لمن هم فوق الخامسة والسبعين، مقابل زيادة في رسوم الترخيص وفقا للتضخم وتوسعا ليشمل أؤلئك الذين يشاهدون البث عبر الإنترنت فقط. بصورة إجمالية سوف تبقى ميزانية الهيئة ثابتة تقريبا. لكن هذا يعني خفضا نسبته 10 في المائة تقريبا بعد الأخذ في الحسبان المرتبات المرتفعة والتكاليف الأخرى، حيث يشكل هذا التراجع تقريبا التكلفة الإجمالية الحالية لمحطات الراديو الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة مجتمعة.

يقول باتريك باروايز، وهو معلق إعلامي وأستاذ فخري للإدارة والتسويق في كلية لندن للأعمال، “أنا أشعر بصدمة حقيقية”. بإمكان “بي بي سي” مواصلة خفض التكاليف لكنها، وفقا لشركة برايس ووترهاوس كوبرز للخدمات المهنية، تنفق فعليا أقل بكثير على البنود الثابتة غير المباشرة مقارنة بهيئات القطاع العام الأخرى. وإذا استمرت في إنتاج الحجم نفسه، أو الكمية نفسها من البرامج التلفزيونية والإذاعية “سوف تتضاءل النوعية” بحسب مارك أوليفر، المستشار الإعلامي ورئيس الاستراتيجية السابق للهيئة. على الرغم من أن القصة تعتبر مألوفة نوعا ما – تتعلق بحكومة يمينية ومؤسسة عامة كان ينظر إليها منذ فترة طويلة على أنها مؤسسة يسارية ومتضخمة – إلا أن الظروف الحالية تجعلها أيضا قصة استثنائية، الهيئة على وشك تحمل الضغوط المالية الأطول منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.

رسوم الترخيص

على مدى ستة عقود، منذ عام 1946، ارتفعت رسوم الترخيص أكثر وأكثر – وعندما لم ترتفع، ارتفع عدد الأسر التي تمتلك أجهزة تلفزيون الذين بالتالي عليهم دفع الرسوم. حتى مارغريت تاتشر، التي اتهمت “بي بي سي” بالتصرف بطريقة “غادرة” خلال حرب جزر فوكلاند وتساءلت لماذا استوديوهات الهيئة مليئة بالموظفين، أقرت زيادة مقدارها 12 جنيها سنويا (ما يعادل زيادة نسبتها 26 في المائة) في عام 1985. الآن، على أية حال، بعد تجميد الرسوم لمدة خمس سنوات، تعد رسوم الترخيص أقل في القيمة الحقيقية ما كانت عليه عندما أصبحت تاتشر رئيسة للوزراء.

إن محنة هيئة الإذاعة البريطانية ليست فريدة من نوعها، إذ تناضل الإذاعات العامة حول العالم من أجل الانتقال إلى عصر وسائل الإعلام الجديد. في الولايات المتحدة هذا الشهر، خسرت محطة الإذاعة العامة PBS أفضل الحقوق لبرنامج “شارع السمسم” بعد 45 عاما لأن بإمكانه فقط تغطية نحو عشر تكلفة العروض. وقبل أسابيع تفوقت شركة ديسكفري للاتصالات، مالكة يوروسبورت، على الإذاعات العامة في أوروبا في مزادات على حقوق بث دورة الألعاب الأولمبية.في المملكة المتحدة، في الوقت الذي يتم فيه قصقصة أجنحة هيئة الإذاعة البريطانية والحد من نشاطها، يستعد منافسوها للانطلاق. إذ عينت خدمات البث التابعة لشركة أمازون جيريمي كلاركسون، الذي طرد أخيرا من برنامج السيارات “توب جير” التابع للهيئة، بسبب تسديده لكمه لأحد منتجي البرنامج. وسيدفع لكلاركسون، ومقدمَا البرنامج اللذان يشتركان معه، ومنتجهم نحو 160 مليون جنيه استرليني مقابل ثلاثة مسلسلات لبرنامج جديد على أمازون. في الوقت نفسه، الميزانية الإجمالية لهيئة الإذاعة البريطانية لجميع مقدمي برامجها وممثليها ومغنيها – بدءا من جاري لينيكر إلى البرامج الإضافية في المسلسل البريطاني “إيست إندرز” – هي 188 مليون جنيه استرليني سنويا.

بالنسبة لبعضهم، يشير نمو أمازون ونيتفليكس وغيرهما إلى أنه ينبغي حماية حجم الهيئة – للحفاظ على محتوى الخدمات العامة البريطانية قادرا على المنافسة. وتراود الحكومة فكرة مغايرة هي أن المشهد الأكثر ازدحاما يقلل الحاجة إلى وجود الهيئة، التي تتلقى 3.7 مليار جنيه استرليني من المال العام كل سنة. وقال جون ويتينجديل، وزير الثقافة المعين حديثا، أمام البرلمان الشهر الماضي، “مع مزيد من مثل هذه الخيارات المتعلقة بالمواد التي تستهلك وكيفية استهلاكها، يجب علينا على الأقل التساؤل عما إذا كان ينبغي للهيئة محاولة أن تكون كل شيء لكل الناس”، مطلقا بذلك مشاورات بشأن مستقبل الهيئة.

هذا يقودنا إلى تساؤل آخر، في عصر وسائل الإعلام الإلكترونية المتاحة والمتوافرة بشكل غير متناهٍ، ما الأجزاء في الهيئة التي يمكننا الاستغناء عنها؟ عندما تتقلص الشركات، يخفض ما هو غير محبوب لدى الجمهور، لكن ربما على هيئة الإذاعة البريطانية اعتماد النهج المعاكس تقريبا.

شعبية جارفة

فبحسب معظم المقاييس، يعد إنتاجها شعبيا بطريقة غير معقولة. تعد القناة الأولى للهيئة القناة التلفزيونية الأكثر مشاهدة في بريطانيا، وراديو 2 هو المحطة الإذاعية الأكثر استماعا، وقناة أخبار الهيئة الإلكترونية هي الموقع الإخباري الأكثر استخداما. ونحو 97 في المائة من الراشدين البريطانيين يستخدمون هيئة الإذاعة البريطانية كل أسبوع. لكن المقصود من هيئة الإذاعة العامة أن تكون مختلفة. ينبغي لها أن تجعل “الجيد شعبيا، والشعبي جيدا”، بحسب السير هو ويلدون، المدير الإداري لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بين عامي 1968 و1975. يعتقد نقاد الهيئة الأكثر تعمقا أن الهيئة تحاول أن تكون شعبية فقط. كتب جاسون كولي، محرر مجلة “نيو ستيتسمان”، الشهر الماضي، “ينبغي لها تقدم أقل بكثير مما تقدمه، وأن تقدمه بشكل أفضل”. وأضاف متسائلا، “لماذا يعمل موقع الهيئة الإلكتروني كما لو أنه في تنافس مع الصحف والمجلات الوطنية، التي تخضع للحقائق الباردة للسوق؟”.

عندما ظهرت الهيئة في العشرينيات من القرن الماضي، لم يعد بارونات الصحف في بريطانيا أن ذلك يشكل تهديدا لهم. وربما طمأنتهم تعليقات المدير العام المؤسس للهيئة، جون رايث. قال رايث عند إطلاق “خدمة الإمبراطورية” Empire Service في عام 1932، “لن تكون البرامج جيدة جدا ولن تكون مثيرة للاهتمام كذلك”. في الواقع، تحولت الخدمة لتصبح الخدمة العالمية، التي وصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، بأنها “ربما أعظم هدية من بريطانيا إلى العالم”.

اليوم، في الوقت الذي تتقارب فيه وسائل الإعلام والأسواق، تستهدف كل من الصحف وهيئة الإذاعة البريطانية جمهورا منفردا عبر الإنترنت، والمنافسة أمر حتمي. وتشتكي الصحف المحلية من أن الهيئة تسرق مواضيعها وجماهيرها. ويعتقد وزير المالية، جورج أوزبورن، أن الموقع الإلكتروني للهيئة، بتقديمه ميزات ووصفات طعام (12023 وصفة ولا يزال العد مستمرا) “يصبح سلطويا أكثر في طموحاته”.

بالرغم من أن الوصفات يمكن أن تختفي – مثلا كاري الكاتسو غير صالح للأكل إلى حد ما على أية حال – لا أحد يعتقد أن هذا قد يحل مشكلات نماذج الأعمال التجارية للصحف، أو تقليص التمويل للهيئة. ويكلِف تشغيل الموقع الإلكتروني للهيئة نحو 100 مليون جنيه استرليني، ويتطلب أحدث تمويل تحقيق وفورات قدرها ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. إن خفض تمويل محطتي الراديو الأولى والخامسة، اللتين يمكن تكرار نتاجهما جزئيا من خلال محطات راديو تجارية، قد يكون غير كافٍ كذلك.

وأية تخفيضات جادة في نتاج الهيئة لا بد أن تبدأ من التلفزيون الذي يمثل ثلثي إنفاقها. أحد الخيارات، المقترحة من قبل المستشار مارك أوليفر في عام 2009، قد يكون في عدم تنافس الهيئة في المجالات التي يمكن للآخرين فيها تقديم عمل مماثل. وينبغي ألا تحاول الحصول على حقوق بث بطولة الدوري الإنجليزي، لأن قناة ITV تعرض المباريات بشكل مماثل. وينبغي لها عدم دفع أموال كثيرة للنجوم، مثل جراهام نورتون، إذا كان هناك شخص آخر يود التعاقد معه. هذا الأمر من شأنه أن يحل مشكلات الميزانية في الهيئة. وسيترك في الوقت نفسه فجوة ضخمة في جاذبيتها. يقول ديفيد ليديمينت، العضو السابق في مجلس أمناء “بي بي سي”، الذي يشرف على الإذاعة منذ عام 2007، والمدير السابق للبرامج في القناة، “نريد من الهيئة أن تقدم جدولا يشارك فيه عدد كبير من السكان. للقيام بذلك، ينبغي أن يكون لديك خليط من الأشياء”.

مع ذلك، يرغب ليديمينت وغيره في أن تقدم الهيئة برامج أكثر تميزا. يقول واحد من المسؤولين التنفيذيين في هيئة إذاعية منافسة، “هل يفعلون ما يكفي لتغيير وجه التلفزيون عندما يكون لديهم الدخل المضمون؟”.

لنأخذ “بولدارك”، وهو مسلسل تلفزيوني تجري أحداثه في كورنوول في القرن الثامن عشر، وفيه يكون البطل غير قادر على قص العشب بالمنجل وهو يرتدي قميصه في آن واحد. سخر النقاد من أن ذلك لم يكن تحسينا على مسلسل سابق للهيئة – تم بثه في السبعينيات. ويقول المسؤول التنفيذي المنافس، “إنه عمل غير طموح بشكل يبعث على الكآبة”. لكن هناك ستة ملايين مشاهد للعمل. وفي أبحاث الهيئة نفسها، قال 60 في المائة إنهم يوافقون بشدة على أن “بولدارك” كان جديدا.

أما برنامج الرقص “هيا نرقص”، منافسة الرقص المشهورة التي تبث على القناة الأولى للهيئة، فيجتذب بانتظام عشرة ملايين مشاهد، وهي ليست أقل إثارة للفُرقة. قال جون ويتينجديل في مقابلة مع صحيفة “الجارديان”، قبل أن يصبح وزيرا للثقافة، “هل هناك حجة لدى الخدمة العامة لعرض هذا البرنامج؟ هذا أمر قابل للنقاش”.

خيارات التخفيض

وثمة نهج آخر قد يكون فقط في تخفيض الميزانيات لأكبر القنوات في الهيئة والأمل أن تبقى فقط البرامج الأفضل. يقول نيل ميدجلي، وهو معلق إعلامي لدى فورز دوت كوم، “بإمكانك إلغاء ما قيمته عشرات الملايين من الجنيهات في برامج الهيئة البريطانية كل سنة ولن يلحظ ذلك أي أحد”. لكن هناك حدود. لتوفير المال، قامت القناة الثانية في هيئة الإذاعة البريطانية، منذ كانون الثاني (يناير) 2013، بتكرار برامجها فقط خلال فترة بعد الظهيرة من أيام الأسبوع. وخفضت القناة الأولى إنفاقها على الدراما البريطانية بمقدار الثلثين منذ عام 2008، وجمهورها آخذ في الانخفاض. إن خفض الميزانيات قد يقلل من شهية الهيئة للابتكار.

وثمة مسار آخر وهو أن تغلق الهيئة الخدمات الأصغر حجما وتوقف تشغيلها. وهي تخطط فعليا لجعل القناة الثالثة، وهي قناة موجهة للشباب، قناة إلكترونية عبر الإنترنت فقط. وهذا يوفر نحو 30 مليون جنيه استرليني سنويا – لكن على حساب فقدان عديد ممن تراوح أعمارهم بين 16 و34 عاما الذين لا يشاهدون أيا من قنوات الهيئة الأخرى، وفقا لمجلس أمناء الهيئة. ووقع نحو 270 ألف شخص على عريضة ضد هذا القرار، مشيرين إلى أن هيئة الإذاعة البريطانية تهدف إلى تقديم المزيد للمشاهدين الصغار.

الخطوة التالية قد تكون قناة الأخبار لهيئة الإذاعة البريطانية، التي تبلغ تكلفتها 63 مليون جنيه استرليني سنويا، أو 2.50 جنيه لكل أسرة. بدت الأخبار المتداولة وكأنها المستقبل قبل عشر سنوات، لكن الآن يمكن القول إنه يجري تجاوزها من قبل شبكة الإنترنت. ويشاهد خُمس الراشدين البريطانيين قناة أخبار هيئة الإذاعة البريطانية كل أسبوع، لكن بإمكانهم التحول إلى سكاي نيوز، أو في الواقع قناة الجزيرة، أو فوكس نيوز. ومن ثم هناك القناة الرابعة التي تكلف أيضا 63 مليون جنيه استرليني سنويا. تم إطلاقها في عام 2002 بشعار “كل شخص يحتاج إلى حيز للتفكير” وبهدف أن تكون “القناة التلفزيونية المجزية فكريا وثقافيا”. وفي كل مساء تبث مجموعة من الأفلام أو البرامج الوثائقية التي يعدها كثير من الناس بمنزلة تعريف لخدمات البث العامة. ولديها أعلى مستوى رضا جماهيري مقارنة بأي قناة تلفزيونية أخرى للهيئة. ولديها كذلك أغنى المشاهدين وأكبرهم سنا.

يقول البروفيسور باروايز، “إن الناس الذين يحبون القناة الرابعة – مثلي أنا – هم أشخاص يصوتون ويطلقون الكثير من الضوضاء. إن الاستغناء عنها قد يسبب ردود فعل واسعة النطاق، أكبر بكثير مما لو حدث ذلك للقناة الثالثة”. لكن جمهور القناة الرابعة يتلقى بالفعل خدمات جيدة من هيئة الإذاعة البريطانية؛ القناة الثانية والمحطتين الإذاعيتين الثالثة والرابعة. ويقول داني كوهين، مدير التلفزيون في الهيئة، “تحصل الجماهير الأصغر سنا، المتنوعة عرقيا، والأقل ثراء على قيمة أقل مقابل رسوم تراخيصهم من الجماهير الأكبر سنا”. وفي نهاية المطاف، على الهيئة أن تقرر أي الجمهورين سوف تخيب آماله. إذا أغلقت القناة الرابعة، فإن فئات الثرثرة سوف تحتج. وإذا استثمرت أقل في الرياضة أو الترفيه الشعبي، سوف تتساءل أعداد أكبر عن سبب دفعهم رسوم التراخيص. هناك شيء ما عليه أن يذهب. وعندما يحصل ذلك، سيكون هناك التماس لإنقاذه.

أنموذج “نيتفليكس”

ومن ثم ماذا عن نيتفليكس؟ في هذا العصر المضطرب، بالتأكيد ينبغي لهيئة الإذاعة البريطانية ليس فقط أن تكون في حالة عبث بالأفكار – وإنما ينبغي أن تكون في حالة إعادة تخيل. يشترك نحو أربعة ملايين من أصل 27 مليون أسرة في المملكة المتحدة في نيتفليكس، خدمة البث التي أطلقت في بريطانيا قبل ثلاث سنوات. واستغرق الأمر عقدا من الزمن لكي تحقق سكاي، أكبر شركة تلفزيون مدفوع في بريطانيا، الرقم نفسه.

أرسلت نيتفليكس بالفعل إشارة لقطاع صناعة التلفزيون في الولايات المتحدة وذلك عن طريق إظهار ذوق الجمهور لبديل رخيص عن حزم الكابل الكبيرة التي يشترك فيها 90 في المائة من الأسر الأمريكية. أما أول تحد ضمني لها بالنسبة لهيئة الإذاعة البريطانية فهو تحدٍ ظاهر كليا، إذا كان هناك كثير من الناس على استعداد لدفع 5.99 جنيها شهريا للاشتراك في خدمة نوعية، لماذا نحتاج إلى خدمة إلزامية أكثر تكلفة؟ في الوقت الحاضر، عندما يتم استطلاع آراء الجمهور، فإنه يدعم إلى حد ما رسوم التراخيص – على الرغم من أن ذلك يعتمد على ما إذا تم وصفها بأنها تبلغ 145.50 جنيه في العام، أو 12.13 جنيه في الشهر أو 40 قرشا في اليوم.

أما التحدي الثاني لنيتفليكس فهو أكثر عمقا. فأنموذجها الخاص بالأعمال لا يؤدي إلى مستويات استثمار “بي بي سي” في التلفزيون البريطاني. حتى لو اشترك نصف الأسر في المملكة المتحدة، قد تكون رسوم الاشتراك الإجمالية أقل من التكلفة الحالية للقناة الأولى. وإذا حلت نيتفليكس مكان الهيئة، فإن كمية المواد التلفزيونية الأصلية البريطانية ستتقلص – ويتقلص معها قطاع الإنتاج الحيوي في المملكة المتحدة، الذي صدّر العام الماضي ما قيمته 1.3 مليار جنيه من البرامج. وحينها فإن كتالوج نيتفليكس الذي يحوي برامج قديمة في معظمه سيكون من غير المحتمل قادرا على إرضاء المشاهد البريطاني العادي، الذي يمضي أكثر من ثلاثة ساعات ونصف الساعة في مشاهدة التلفزيون يوميا.

لكن أنموذج نيتفليكس يسمح فعليا بالإنفاق على القليل من الصفقات العالمية، مثل “هاوس أوف كاردز”. في النهاية قد يساعد في دفع الهيئة لإخراجها من ساحة الدراما الرئيسة، تماما كما أخرجت سكاي هيئة الإذاعة البريطانية من الرياضة الرئيسة. (تكلفة حقوق بث مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز للموسم المقبل ستكون 1.8 مليار جنيه في العام، بقدر الإنفاق الكلي للهيئة على البرامج التلفزيونية).

سأل عمدة لندن، بوريس جونسون، ذو الشعر الأشعث الشهر الماضي، “لماذا لا يمكن إنتاج شيء يكون رائعا جدا مثل مسلسل بريكينج باد؟”. هذه الفكرة نصفها كلام فارغ، بريكينج باد، مسلسل أمريكي يدور حول معلم كيمياء يتعامل بتجارة المخدرات، كان برنامجا هامشيا جدا للجماهير البريطانية بحيث تم سحبه من التلفزيون الأرضي بعد بث حلقتين. لكن جونسون وقع أيضا على قضية كبيرة.

أما البرامج الأكثر نجاحا على الصعيد الدولي للهيئة – شرلوك، وتوب جير، والدكتور هو، ووثائقيات ديفيد أتينبره – فهي برامج تعود إلى عشرات السنين. وهي في الأغلب يتم تمويلها من خلال إيرادات المبيعات الدولية. بالنسبة لمسلسل “قصة حياة” الذي قدمه ديفيد أتينبره لموسم عام 2014، مثلا، كان 71 في المائة من التمويل من خلال بيع حقوق البرنامج في جميع أنحاء العالم، وإيرادات تجارية أخرى. لكن لا يزال على هيئة الإذاعة البريطانية أن تثبت أن لديها ما يكفي من المال والإبداع لجعل التلفزيون قطعة مميزة. هناك عدد أقل من المسرحيات عالية الجودة التي تعرض في بريطانيا، من ذلك النوع الذي يتشارك فيه فئات كبيرة من الناس. بالنسبة لمؤيدي الهيئة، ربما يكون هذا حجة لتمويل عام إضافي. بدلا من ذلك، تعكف المؤسسة على وضع خطط من أجل مزيد من عوامل الكفاءة. ويقول البروفيسور باروايز، “حين تنظر إلى تحليل منطقي للسياسة، فإنك ببساطة لن ينتهي بك الحال في هذه المكان”. وبالتالي على المدير العام للهيئة، توني هول، أن يحقق ما يشبه المستحيل. في السابع من أيلول (سبتمبر) سيعلن عن رؤيته للطريقة التي سيتم بها تقليص “بي بي سي”. فهل يستطيع إقناع الصحافة والسياسيين بأنها تتغير – وفي الوقت نفسه طمأنة الجمهور أنها ثابتة على مبادئها؟