IMLebanon

نموذج الرعاية الصحية البريطانية يكافح للبقاء على قيد الحياة

NHS-Hospital-ElderlyMan-Britain-UK-HealthCare
سارة نيفيل

أدينبروكس واحد من المستشفيات التعليمية الأكثر شهرة في بريطانيا، أوراق اعتماده لامعة بسبب البحوث الرائدة في العالم في العلل العالمية التي تجري في حرمه الجامعي في كامبريدج. بالنسبة إلى عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يتلقون العلاج في كل عام ضمن أجنحة المستشفى، أو يستفيدون من اكتشافاته الطبية، فإنه يعتبر أفضل مثال على الخدمات الصحية الوطنية التي يمولها دافعو الضرائب في بريطانيا.

لكنه اضطر في كانون الثاني (يناير) الماضي إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة، جنبا إلى جنب مع نحو 20 مستشفى آخر في المملكة المتحدة، تمثلت في إلغاء جميع العمليات غير العاجلة ومناشدة الجمهور الابتعاد عن قسم الطوارئ. ووضع المستشفى خططا لتجنب تكرار هذا في العام الحالي، لكن ضغوط التمويل في جميع جوانب الخدمات الصحية الوطنية التي تسببت في حالات الطوارئ تلك، بدلا من التراجع، قد تكثفت في الشهور الـ 12 الماضية.

كيث ماكنيل الذي كان يتحدث قبل تنحيه الأسبوع الماضي من منصب الرئيس التنفيذي للمستشفى، وصف إجراء كانون الثاني (يناير) بأنه “نقطة تحول” في المعركة لتلبية احتياجات المرضى في المملكة المتحدة.

إنها ليست صورة فريدة من نوعها. في جميع أنحاء العالم المتقدم تعاني الدول من أجل الحصول على مزيد من القيمة، من موارد أقل، للحفاظ على السكان في صحة جيدة. لكن النسبة العالية نسبيا من المال العام التي تنفق على الخدمات الصحية الوطنية تعني أن آلامها تعتبر أكثر وضوحا من كثير من النظم الصحية الأخرى.

ليس مجرد الخدمات الصحية، ولكن مستودع القيم البريطانية العزيزة على القلوب – التي شبهها أحد وزراء المالية السابقين بأنها “الديانة الوطنية لبريطانيا” – الخدمات الصحية الوطنية احتلت لفترة طويلة وضعا لا يمكن المساس به في الحياة البريطانية.

كاثلين تومسون، في زيارة لزوجها في أدينبروكس، تصف كيف أنها خضعت لعملية في الرئة في مركز بابوورث القريب، وهو مركز لعلاج القلب والرئة، كاشفة عن أنها “لن أكون هنا لولا الخدمات الصحية الوطنية”. ووفقا للمسح البريطاني الأخير للمواقف الاجتماعية، الدعم للخدمات الصحية الوطنية هو الآن عند ثاني أعلى مستوى له منذ بدء الاستطلاع في عام 1983.

لكن هل يمكن لهذا الأنموذج أن يبقى؟ في عام 1948، عندما ولدت الخدمات الصحية الوطنية أثناء موجة من النزعة الجماعية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جاء أكبر استنزاف في خزائنها من حالات مفردة من الأمراض المعدية. الآن هي منهارة تحت وطأة الشيخوخة السكانية والأمراض طويلة الأجل الناجمة عن أنماط الحياة الفقيرة. داء السكري وحده يستهلك نحو 10 في المائة من الميزانية السنوية للخدمات الصحية الوطنية البالغة 116 مليار جنيه استرليني.

كارول بارجويل، المسؤولة قسم التنويم في أدينبروكس – وهي عملية غالبا ما تتأخر بسبب نقص الخدمات المناسبة في أحياء السكن، تقول: “رأيت أن متوسط عمر مجموعة زبائني يرتفع إلى أعلى وأعلى (…) كان من غير المألوف أن يكون لديك شخص فوق سن 95 – لكن هذا لم يعد غريبا الآن. براعة (مستوى الرعاية الصحية للمرضى) ازدادت (…) ونحن نصرف الكثير من المرضى الذين تتطلب حالتهم الكثير من احتياجات الرعاية الصحية والاجتماعية المختلطة”.

وواجهت الخدمات الصحية الوطنية أزمة من قبل، لكن الأزمة الحالية من نوع مختلف. تشير التقديرات إلى أنه سيتعين عليها ملء فجوة في التمويل تقارب 30 مليار جنيه استرليني سنويا بحلول عام 2020. والفشل المالي حاليا متأصل في النظام بأكمله، الأمر الذي تعانيه المستشفيات المرموقة والمستشفيات المتقاعسة سيئة السمعة على حد سواء. وبحسب “صندوق الملك”، وهو معهد أبحاث مستقل مختص في الصحة، فإن ثلثي جميع المستشفيات في المملكة المتحدة تقريبا يمكن أن تكون واقعة في ديون بحلول نيسان (أبريل) 2016. ويبدو من المتوقع أن يصل عجزها إلى أكثر من ملياري جنيه استرليني بحلول نهاية السنة المالية.

أموال غير كافية

من الناحية الدولية، الخدمات الصحية الوطنية لا تعتبر منفقا عاليا. فهي تقع في منتصف الجدول بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وتستهلك نحو 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن الإنفاق العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تقلص في السنوات الأخيرة، ما أحدث تغيرا جذريا في بنية دولة الرعاية الاجتماعية، وهذا يعني أن الصحة قد تستهلك حصة أكبر من وعاء متناقص. الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي مجتمعة تبتلع الآن ثلثي الإنفاق العام، مرتفعة من أقل من النصف في عام 1979.

ولسنوات عديدة، التحولات الجيوسياسية وفي الفكر السياسي اجتمعت للسماح بزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية.

تقول أنيتا تشارلزورث، كبيرة الاقتصاديين في المؤسسة الفكرية “هيلث فاونديشن”: “كانت أجيال من السياسيين والجمهور قادرة على التمتع من زيادة الإنفاق على الصحة بسرعة من دون شعور بأنه كان عليهم دفع ثمن ذلك”. لكن نطاق الذهاب إلى ما هو أبعد دون التسبب بالضرر لخدمات أخرى “محدود جدا”.

إن الإحساس بأن هذه لعبة يربح فيها طرف على حساب طرف آخر – التي ستواجه في نهاية المطاف البريطانيين بحقائق أكثر تزمتا وصرامة حول الثمن الذي يدفعونه للخدمات الصحية الوطنية – يتأكد من خلال الحسابات من “معهد الدراسات المالية”، وهو جهة مستقلة.

وبحسب المعهد، حتى لو كانت الخدمات الصحية الوطنية تلبي هدفها بتحقيق تحسينات إنتاجية تبلغ 2.4 في المائة سنويا بحلول مطلع العقد، سوف تحتاج ميزانية الصحة إلى زيادة بنحو 0.8 في المائة سنويا من حيث القيمة الحقيقية لتلبية الطلب وضغوط التكاليف.

إن تحقيق هذا قد يعني تخفيضات في الإدارات الحكومية الأخرى – التي تعاني بالفعل بسبب التقشف المستمر منذ خمس سنوات – بلغ متوسطها 6.1 في المائة سنويا.

المستشفيات المثقلة

سلسلة من عمليات إعادة هيكلة – الإجراء الأحدث لإزالة طبقات من الإدارة وتسليم مزيد من السيطرة على الميزانية للأطباء والممرضين – لم تفعل، كما يقول النقاد، شيئا يذكر لتخفيف الطلب على تكلفة الرعاية الصحية في المستشفيات، التي تبتلع في المملكة المتحدة نحو نصف ميزانية الخدمات الصحية.

تحويل مركز الجذب في الخدمة بعيدا عن المستشفيات التي تعاني بشكل حاد، نحو الخدمات الوقائية وخدمات أحياء السكن يعد أولوية بالنسبة لسايمون ستيفنز، الرئيس التنفيذي للخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا، الذي قضى عشر سنوات في منصب تنفيذي في “يونايتد هيلث”، شركة التأمين الصحي الأمريكية الخاصة.

وضع ستيفنز مخططا لكسر الصوامع الجامدة التي تفصل أجزاء مختلفة من الخدمات الصحية وساعد في تلبية بعض من الوفورات في تكاليف الكفاءة البالغة 22 مليار جنيه استرليني سنويا، التي وعد بها بحلول عام 2020.

لكنه يفعل ذلك على خلفية خفض كبير في تمويل الرعاية الاجتماعية التي، على عكس الصحة، تتعرض لامتحان من حيث الموارد المالية في المملكة المتحدة.

وزارة الصحة تعتبر من بين عدد قليل من الوزارات التي منحت صفقة تمويل محمية من التضخم. ويجادل بعض النقاد بأن هذا أخر الإصلاح، لكن هذه الخطوة تؤكد الأهمية السياسية للخدمات الصحية الوطنية، التي توظف واحدا من بين كل 20 عاملا من جميع العاملين البريطانيين. وللتدليل على التزامه بالخدمات الصحية الوطنية – حيث امتلك حزب العمال المعارض منذ فترة طويلة فيها ميزة انتخابية – وعد حزب المحافظين الحاكم خلال حملته الانتخابية هذا العام بحقن ثمانية مليارات جنيه استرليني إضافية سنويا في الخدمة بحلول عام 2020.

ومع ذلك، ومع ارتفاع العجز، بات من الواضح أن هذه الأموال لن تكون كافية. كريس هام، الرئيس التنفيذي لـ “صندوق الملك”، يشتم رائحة “الذعر” في وزارة الصحة و”الحرمان” في وزارة المالية.

وفي الوقت نفسه، المطلعون على الخدمات الصحية الوطنية يهمسون بأن الوزراء نسوا بسهولة قراءة التفاصيل الصغيرة في خطة ستيفنز، ويصرون على أنها أوضحت أن مبلغ ثمانية مليارات جنيه استرليني ستكون كافية فقط إذا كانت هناك أي تخفيضات إضافية في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية وليس من المتوقع أن توسع نطاق الخدمات التي تقدمها.

في الواقع، المجتمعات المحلية والدوائر الحكومية المحلية – المسؤولة عن الرعاية الاجتماعية – من غير المرجح أن تخرج سالمة من جولة الإنفاق في تشرين الثاني (نوفمبر)، التي تمثل مرحلة أخرى في برنامج التقشف في بريطانيا من خلال تخصيص ميزانيات لكل وزارة.

بعض العاملين في الخدمات الصحية الوطنية يخشون من أن الوزراء يسعون إلى تأخير ضخ أموال إضافية حتى السنوات الأخيرة من الدورة البرلمانية التي تمتد خمس سنوات، معتمدين على النمو الاقتصادي لتحقيق العائدات اللازمة. إلا أنه لم يتم بعد تحديد الجهة التي سيأتي منها المال بالضبط وأصبحت المهمة أصعب بقرار رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، استبعاد رفع معظم معدلات الضرائب الرئيسية.

بدائل التمويل

السؤال الكبير الآن هو ما إذا كانت خدمة الصحة الوطنية ستضطر إلى البحث عن وسائل أخرى لزيادة الإيرادات ليس فقط من أجل البقاء في وضعها الحالي، لكن أيضا لتلبية الطلب المتزايد على الرعاية الصحية.

الوفورات التي تم تحقيقها على مدى الأعوام الخمسة الماضية كانت تعتمد بشكل كبير على ضغط الأجور – من غير المرجح أن يكون ذلك أمرا مستداما لأن أرباح القطاع الخاص بدأت تتفوق على أرباح القطاع العام – وعوامل أخرى مثل انتهاء براءات الاختراع التي كانت تؤدي إلى تخفيض تكاليف عدد من الأدوية الرئيسة.

بالنسبة لبعضهم، فشل المشاركة في نقاش جدي بشأن الآلية الأكثر فاعلية لتمويل الرعاية الصحية هو نتيجة ثانوية غير مرغوب فيها في ضوء الاحترام الذي يكنه البريطانيون لخدمة الصحة الوطنية.

يقول كريستيان نيميتز، رئيس الرعاية الصحية والاجتماعية في معهد الشؤون الاقتصادية: “هذا يحميها من الانتقاد ويبعد أي أفكار متنافسة”. النتيجة، كما يقول، هي أن خدمة الصحة الوطنية تستمر “بمعايير منخفضة بشكل غير واقعي (…) لأن معظم الأشخاص الذين يتعاملون مع خدمة الصحة الوطنية أصلا لا يرون الأنظمة الأجنبية، لذلك ليس لديهم أي مجال للمقارنة”.

في العام الماضي تم تصنيف خدمة الصحة الوطنية على أنها نظام الرعاية الصحية الأول في العالم، بحسب التصنيفات السنوية التي يضعها صندوق الكومنويلث، الذي أشاد بتدابير مثل الإنصاف، والسلامة، وقدرة عدد كبير من الناس على الاستفادة من الخدمة. لكن عندما تم قياس النتائج بالنسبة للمرضى، الحكم كان أقل إيجابية بكثير. إذ احتلت المرتبة الثانية من الأدنى في عدد من المعايير المتعلقة بما إذا كان المرضى يعيشون حياة صحية. وهذه شملت “نسبة الوفيات التي كان من الممكن التعامل معها ضمن الرعاية الصحية”، أو “إبقاء الناس على قيد الحياة”، بحسب تعبير نيميتز.

وهو يستشهد بأنظمة التأمين الصحي الاجتماعية في هولندا وألمانيا وسويسرا – جميعها احتلت المراتب العليا، أو قريبة منها، في دراسات الصندوق السابقة. ويقول: “أنا لا أعتقد أنك ستقرأ في أي مكان في الصحف [البريطانية] أن النظام السويسري احتل المرتبة الأولى، وهذا دليل واضح على أن التأمين الاجتماعي هو الوسيلة التي يجب اتباعها (…) إنه تأكيد للتحيز”.

ويجادل قادة خدمة الصحة الوطنية بأن احتمال توفير الرعاية الصحية بشكل أرخص وأكثر فاعلية يبقى كبيرا. ويقول ستيفنز إن الخدمة سوف تحقق وفورات من خلال جمع خدمات المستشفيات وخدمات أحياء السكن معا على نحو أوثق، وتسخير التكنولوجيا والتخلص من مجالات الهدر في الإنفاق التي تعمل على إضاعة مليارات الجنيهات. وعلى الرغم من أنه ليس هناك أي عمل مفصل لدعم ادعاءات بأن بإمكانها تحقيق مثل هذه الكفاءة بحلول عام 2020، إلا أنه قد تكون هناك مكاسب يمكن تحقيقها من تغيير طريقة تفاعل الناس مع الأنظمة الصحية.

في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز” في وقت سابق هذا الشهر، أشار ستيفنز إلى مرونة الخدمة، قائلا: “لقد تعاملنا مع وصول المضادات الحيوية، وأجهزة التصوير الشعاعي الجديدة، وأجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية، وعمليات استبدال الورك والركبة، ومضادات الفيروسات العكسية لفيروس نقص المناعة، وفئات جديدة من الأدوية لمرض السرطان، كل منها في ذلك الوقت [كان] يقال إنها بطريقة ما ستؤدي إلى إفلاس خدمة الصحة”. وأضاف: “لكن هذا لم يحدث، لأنه ليس ما يريده الناس في هذه البلاد”.

لكن لأن الخدمات العامة الأخرى سوف تكون مجهدة ماليا عبر خمسة أعوام أخرى من التقشف، فإن الثمن المرتفع لحماية خدمة الصحة الوطنية سوف يصبح واضحا. محبو “الديانة الوطنية” في بريطانيا ربما يجدون إيمانهم في الأنموذج الخاص بهم من الرعاية الصحية “المجانية للجميع” يتعرض لامتحان شديد كما لم يحدث قط من قبل.