IMLebanon

ماذا بقي من السريّة المصرفية في ضوء مشاريع القوانين المطروحة؟

BanksAssociation

 

الكسندر نجار وبول مرقص

 

عندما عرض العميد ريمون إده “اقتراح قانون سريّة المصارف” على مجلس النواب بتاريخ 26 تموز 1956 لم يَخَلْ أن هذا القانون، الذي ساهم مساهمةً أكيدة في إزدهار لبنان (إذ ازدادت الودائع بنسبة 467 % بين عامي 1950 و1961 وارتفع عدد المصارف من 31 عام 1955 إلى 72 عام 1968 وزاد حجم الودائع في خلال الحرب من 1975 إلى 1990 نحو 375 مرة!)، سيلقى حتفه على أيدي نواب ممدّد لهم مرّتين خلافاً للدستور، اجتمعوا تحت عنوان “تشريع الضرورة” للتصويت على “مشروع قانون تبادل المعلومات الضريبية” وعلى “مشروع قانون تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال” تحت وطأة الضغوط الحاصلة من بعض المنظّمات الدولية، من دون أن يناقشوا برويّة وحكمة مدى قابلية السريّة المصرفية للعيش والاستمرار في ظلّ هذين المشروعين.

تتعرض المصارف اللبنانية الى ضغوط، لذا نعي دقة موقف مصرف لبنان والهيئات الرقابية، كما نعلم أن ثمّة ثغراً أحدثت سابقاً في جدار السريّة المصرفية، خصوصاً لجهة مكافحة تبييض الأموال (القانون رقم 318/2001 وتعديلاته)، فضلاً عن مقتضيات تطبيق قانون الامتثال الضريبي الأميركي والمتعلّق بالحسابات الأجنبية FATCA الذي أوجب على المصارف اللبنانية التصريح عن حسابات زبائنها حاملي الجنسية الأميركية وحاملي بطاقات الإقامة الدائمة وسواهم ممّن تنطبق عليهم مؤشرات القانون المذكور. وندرك أيضاً أن سويسرا نفسها، التي كانت تعتبر “معقل” السرية المصرفية، قدّمت تنازلات في هذا المجال ما أثار حفيظة عدد كبير من رجال الإقتصاد أمثال Jean-Christian Lambelet صاحب كتاب:
“?Qui a tué le secret bancaire” وكان لبنان نجح سابقاً، عام 2001، في التوفيق بين متناقضات، وتجاوز ما كان يبدو أنه حائط مسدود، يوم نجح في حذف اسمه من لائحة “الدول والأقاليم غير المتعاونة في مكافحة تبييض رؤوس الأموال” بعدما أدخل استثناء مدروساً على نظام السرية المصرفية بالقانون 318/2001، بدراية من حاكم مصرف لبنان ونائبه محمد البعاصيري يومذاك.
لكن كيف يذهب مجلس النواب للموافقة على القوانين التي تطيح السريّة المصرفية، بطريقة تدريجية ومنظّمة، من دون أن يطرح مستقبلها وانعكاسات إلغائها أو تقليص دورها على القطاع المصرفي وعلى الاقتصاد اللبناني عموماً، كعنصر جاذب وضامن للودائع لا سيما في ظلّ الأزمة الخانقة التي تعانيها البلاد وإمكان التوفيق بين السرية المصرفية والمقتضيات الدولية الرامية
إلى مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومن التهرّب الضريبي.
يتبيّن لنا من قراءة “مشروع قانون تبادل المعلومات الضريبية” أنه مشروع يحمل في طيّاته تداعيات لا يستهان بها:
1) تجيز المادة الأولى من المشروع لوزير المال إبرام إتّفاقات ثنائية أو متعدّدة الطرف لتبادل المعلومــات المتعلّقـة بالتهــرّب الضريبي أو الاحتيال الضريبي وفقاً للأصول التشريعية ومع مراعاة الشروط المحــدّدة فــي القانون. إن هذا البند خطير إذ يفوّض وزير المال، أياً كان، صلاحية إدخال لبنان في إتّفاقات كالإتّفاق المتعلّق بالـ (Common Reporting standard) (Norme commune de déclaration) الذي من شأنه المساس بالسريّة المصرفية، أو زجّ لبنان في معاهدات هو في غنى عنها. بينما المفروض تفويض وزير المال حق إبرام إتّفاقات محدّدة تدقق
فيها مسبقاً اللجان النيابية والجهات المالية والقانونية المختصّة بدل تفويضه بصلاحيات مطلقة.
2) تنص المادة الثانية من المشروع على وجوب إجابة طلب المعلومات المتعلّق بالتهرّب أو الاحتيال الضريبي إذا كان مستنداً إلى:
(أ) – حكم مبرم بتجريم المستعلم عنه بالتهرّب أو بالإحتيال الضريبي.
(ب) – “وقائع جدّية” أو “قرائن دامغة” على ارتكاب المستعلم عنه المذكور جرم التهرّب أو احتيالاً ضريبياً في البلد مقدّم الاستعلام، بالإضافة إلى معلومات وافية عن الحسابات المصرفية ذات الصلة العائدة له في المصارف العاملة في لبنان.
إذا كان من الممكن القبول بالفقرة (أ) من هذه المادة ، فالفقرة (ب) منها غير مقبولة على الإطلاق، إذ لا يمكن لبنان القبول بطلب مبني على قرائن (présomptions) كما لا يسعه التأكّد من “الجدّية” المزعومة أو من أن القرائن المزعومة وهي فعلاً “دامغة”، طالما أنه غير مطّلع على كامل ملف التحقيق في الخارج، علماً أن المستعلم عنه لم يُجرّم بعد بموجب حكم قضائي مبرم وهو بالتالي بريء حتى إثبات العكس.
إن أي تساهل أو توسّع في هذا المجال سيؤدّي عملياً إلى إفشاء السريّة المصرفية عند ورود أي طلب من هذا القبيل بدون أن يكون لبنان مسلّحاً للتثبّت مما هو منسوب إلى المستعلم عنه وعلى الرغم من عدم صدور أي قرار نهائي في حق هذا الأخير. كما يُخشى أن تستعمل هذه الوسيلة للاطّلاع على حسابات بعض السياسيين أو الأحزاب أو الشخصيات العامة بالاستناد إلى قرائن مزعومة أو مفبركة لا تمت إلى الواقع بصلة.
صحيح أن هذا الطلب سيُحال الى هيئة التحقيق الخاصة المنشأة بموجب القانون 318/2001 إنما يتعذّر على الهيئة قبول أي طلب مبني على “وقائع جدّية” (ما هو معيار الجدّية؟) أو “قرائن” لعدم تمكّنها من التحقّق من ذلك وطالما أن المستعلم عنه لم يجرّم بعد في البلد مقدّم الاستعلام، مع تنويهنا بدقّة عمل هذه الهيئة.
علماً أن المادة الرابعة ألزمت الهيئة التقيّد “بالاتّفاقات الدولية المتعلّقة بتبادل المعلومات المتعلّقة بالتهرّب أو بالاحتيال الضريبي”، وهذه الإحالة ستكبّل حتماً الهيئة المذكورة التي ستستجيب حكماً، في ضوء الصيغة المطروحة للمادة الرابعة المذكورة، إلى غالبية الطلبات مما يعرّض السريّة المصرفية في لبنان للاضمحلال فعلياً. أما اللجوء إلى مجلس شورى الدولة فسيشكّل خرقاً إضافياً لأحكام المادة 2 من قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3 أيلول 1956 التي تحرّم على السلطات الادارية والعسكرية والقضائية الاطّلاع على قيود زبائن المصارف، وهو، في مطلق الأحوال، لن يحمي المواطن اللبناني طالما أن الفقرة (ب) من المادة الرابعة من “مشروع قانون تبادل المعلومات الضريبية” تفتقر إلى المعايير الموضوعية التي تمكّن مجلس الشورى من ممارسة رقابته بطريقة فاعلة.
3) أما الأسباب الموجبة للقانون، فهي لم تتناول أبداً السريّة المصرفية وكأنها غير موجودة (!) في حين أنها العمود الفقري للنظام المصرفي اللبناني. كما أغفلت الأسباب الموجبة مسألة “القرائن” مكتفيةً بالإشارة إلى ” صدور حكم مبرم” للطمأنة، فجاءت هذه الأسباب مبتورة ومضلّلة.
* * *
أما مشروع قانون تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318/2001، فيثير الملاحظات الاتية:
1) ألغت المادة الأولى الجديدة المادة القديمة ووسّعت نطاق “الأموال غير المشروعة” على نحو لافت، لتشمل 21 جريمة جديدة بدلاً من الـجرائم السبع الأساسية المنصوص عليها في القانون الحالي، علماً أن مفهوم “الإرهاب” هو مفهوم مطاط يمكن توسيعه أو تضييقه وفق مقتضيات السياسات الدولية، عملاً بقاعدة:”Qui veut noyer son chien l’accuse de la rage” (“من أراد إغراق كلبه اتّهمه بالكَلَب”) .
2) تنص المادتان الخامسة والسابعة من المشروع على أنه يتعيّن على المحاسبين المجازين وكتّاب العدل ومفوّضي المراقبة تطبيق موجبات الحيطة والحذر عند إعدادهم أو تنفيذهم عمليات تتعلّق ببيع وشراء العقارات أو إدارة أموال العملاء أو إدارة الحسابات المصرفية إلخ، وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة فوراً عن تفاصيل العمليات المنفّذة والتي يشتبهون بأنها تتعلّق بتبييض أموال أو بتمويل الإرهاب. كما يخضع المحامون (وهذه سابقة خطيرة في لبنان) للموجبات عينها وفقاً لآلية تضعها نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس “وتأخذ في الاعتبار خصوصية مهنة المحاماة وأنظمتها”. وقد إستثنت المادة السادسة هؤلاء من مراقبة هيئة التحقيق الخاصة وأحيلت الى “أحكام الفقرة الثانية من المادة 17 من القانون” غير الموجودة أصلاً (والمقصود: المادة 15 من القانون، وكأن من أعد هذا المشروع لم يُمعن في قراءته فلم يصحّح هذا الخطأ البديهي!) .
3) إن إحالة المادتين 4 و5 من مشروع قانون تبادل المعلومات الضريبية إلى قانون مكافحة تبييض الأموال المذكور أعلاه، يعني، عملياً، أن التهرّب الضريبي أصبح في لبنان حالة من حالات تبييض أموال، الأمر الذي لم يكن ملحوظاً في السابق في القانون 318/2001، مما يعني أن السريّة المصرفية يمكن أن ترفع من الآن فصاعداً في كل القضايا التي تتضمّن شكوكاً حول تهريب ضريبي مزعوم. يقتضي التنبّه إلى هذه الأحكام التي قد تفتح الباب أمام ملاحقات عديدة وتؤثر على أموال المغتربين وتحويلاتهم التي تقدّر بنحو 8 مليارات دولار سنوياً وتمسّ السريّة المصرفية.
في ضوء هذه الملاحظات الأوّلية، يتّضح جلّياً أن التصويت على المشروعين المذكورين أعلاه كما هي ومن دون مراعاة وتوفيق بين المتطلبات الدولية والخصوصيات سيؤدّي عملياً إلى زعزعة السريّة المصرفية في لبنان، وهذا ما يطمح إليه أعداء لبنان منذ زمن طويل من أجل إضعاف إقتصاده وإطاحة خصوصيته.
في حال تجاوز عدم دستورية انعقاد المجلس لكونه “هيئة انتخابية لا اشتراعية” (المادة 75 من الدستور) ومبدأ “الميثاقية (مقدّمة الدستور) وطرح المشروعين المذكورين للتصويــت، لا بد من التريث في البحث حتى لا تتهموا باغتيالكم السريّة المصرفية .