IMLebanon

تهريب البشر.. تجارة تخلو من المجازفة!

Migrants-Boat

حجم التجارة المخالفة للقانون تراوحت بين ثلاثة وستة مليارات دولار في 2015، والمهربون يستخدمون قوارب متهالكة لتحقيق أكبر مكسب.

في ليلة ثلاثاء من شهر يونيو/حزيران عام 2015 تلقى تيسفوم مهاري منغستو وهو عامل توصيل طلبات إريتري في منطقة ألباني بنيويورك اتصالا هاتفيا من رقم لا يعرفه وحين رد وجد أخاه غيرماي البالغ من العمر 16 عاما على الخط.

كان غيرماي يتصل من ليبيا. كان قد قضى لتوه أربعة أيام في عبور الصحراء الكبرى وقال إن الرجال الذين هربوه عبر الصحراء سيوصلونه إلى العاصمة طرابلس خلال أيام بعدها سيعبر البحر المتوسط إلى إيطاليا.

قال غيرماي لأخيه “أوروبا ليست بعيدة” لكنه يحتاج إلى المال لسداد تكلفة المحطة التالية من رحلته.

كان تيسفوم (33 عاما) أقل حماسا. قبل ذلك بأربع سنوات دفع فدية قيمتها 17 ألف دولار لتحرير شقيق آخر اختطف خلال عبوره صحراء سيناء في مصر. في مرة أخرى أرسل ستة آلاف دولار إلى مهرب كان يحتجز أخته رهينة في السودان. يعلم تيسفوم أن الوضع في ليبيا شديد الخطورة. في شهر أبريل/نيسان من ذلك العام أعدم متشددو تنظيم الدولة الإسلامية 30 إثيوبيا وإريتريا ونشروا مقاطع فيديو لذلك على الإنترنت.

حتى من يحالفهم الحظ وينجون من الرحلة عبر الصحراء سالمين يفشل كثير منهم في الوصول إلى أوروبا.

وكان تيسفوم قد حذر شقيقه الأصغر بالفعل “إما ستغرق في البحر أو تموت في الصحراء… أو ربما تذبح مثل الشاة في طريقك إلى هناك. لا يمكن أن أسمح لك بأن تفعل هذا في أمنا”.

لكن تيسفوم كان يعلم أنه ليس بيده حيلة. ربما يعذب المهربون غيرماي إذا لم يدفع المال. وافق على إرسال النقود وطلب من شقيقه أن يعاود الاتصال به ليبلغه بالتعليمات. مرت أربعة أسابيع دون أن يتلقى اتصالا منه. الرقم الهاتفي الذي استخدمه غيرماي غير موجود بالخدمة. في منتصف يوليو/تموز أي بعد أسابيع من بدء في تتبع حكاية غيرماي شعر تيسفوم بأنه لن يرى شقيقه مرة أخرى.

جهود تيسفوم على مدى شهور لمساعدة أخيه على الوصول إلى أوروبا من خلال مبالغ مالية سددها في أربع دول على الأقل وعبر ثلاثة حسابات بنكية مختلفة وباستخدام ثلاث وسائل لتحويل الأموال تكشف تفاصيل خفية لعصابات التهريب التي تقدر قيمة أنشطتها بمليارات الدولارات وتذكي أزمة المهاجرين في أوروبا.

وتقول وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) إن حجم تجارة تهريب البشر تراوح بين ثلاثة وستة مليارات دولار العام الماضي.

ويجمع أقارب اللاجئين والمهاجرين من مختلف أنحاء العالم معظم الأموال اللازمة للرحلة ويقومون بتحويلها.

وينعش اللاجئون والمهاجرون بورصة تجارة تهريب البشر.

وتتصيد عصابات التهريب زبائنها على مبعدة آلاف الكيلومترات.. فهم مهاجرون يتوقون للحرية أو لاغتنام فرصة وأسرهم في الديار وفي الغرب مستعدة لدفع المال كي يحققوا هدفهم.

وتظهر مقابلات مع نحو 50 لاجئا واثنين من المهربين وممثلين للادعاء من أوروبا إلى جانب مراجعة وثائق نشرتها السلطات الإيطالية والاتحاد الأوروبي نظاما معقدا مبنيا على شبكة واسعة من المهربين في أفريقيا وأوروبا.

تعتمد التجارة على تحويل المال بطريقة لا تستدعي التدقيق. ويقدم المهربون عروضا مغرية للمجموعات على سبيل المثال قيام شخص بالرحلة مجانا مع كل عشرة. وفي موسم الهجرة الرئيسي خلال فصل الصيف ترتفع الأسعار بشدة. ويقول لاجئون إن تكلفة عبور الراكب الواحد للبحر المتوسط في قارب بلغت 2200 دولار في أغسطس/آب ارتفاعا مما كانت عليه قبل عام حين كان متوسط المبلغ 1500 دولار.

وتحاول حكومات ومسؤولون في أجهزة إنفاذ القانون في أنحاء أوروبا وقف المهربين.

وتقول وكالة (يوروبول) إنها قامت وشركاؤها منذ مارس/آذار 2015 بتحديد هويات نحو ثلاثة آلاف شخص يعملون بالتهريب.

وألقت الشرطة الإيطالية وحدها القبض على أكثر من 20 شخصا يعتقد ممثلون للادعاء في باليرمو أنهم ساعدوا في تنظيم آلاف الرحلات بالقوارب بين ليبيا وصقلية.

أعلن ممثل الادعاء في صقلية كالوغيرو فيرارا اسمين هما إيرمياس غيرماي وهو إثيوبي وميدهاني يهديغو وهو إريتري كعنصرين رئيسيين في عصابة للجريمة المنظمة مسؤولة عن نقل آلاف اللاجئين إلى إيطاليا.

وقال فيرارا إن الرجلين يتحكمان في عملية “أكبر كثيرا وأكثر تعقيدا وتنظيما مما كان متصورا في البداية” حين بدأ النظر في أمر المهربين. ولم يتم إلقاء القبض على المشتبه بهما حتى الآن.

وقال فيرارا إن الاثنين يشتريان مهاجرين مخطوفين من مجرمين آخرين في أفريقيا. كما أنهما ثريان. وبحساباته فإن كل رحلة بقارب يحمل 600 شخص تدر على المهربين ما بين 800 ألف ومليون دولار قبل حساب التكاليف. وجنى مهرب آخر يحقق فيرارا في أنشطته نحو 20 مليون دولار في عشر سنوات.

ويخفض المهربون النفقات لتحقيق أكبر مكسب. فهم يستخدمون قوارب رخيصة ومتهالكة ونادرا ما يكون بها ما يكفي من الوقود.

ويعتمدون على فرق البحث والإنقاذ الأوروبية. وقال الأمين العام للأمم المتحدة بان غي مون إن عملية للبحرية الإيطالية أنقذت نحو 150 ألف شخص في عام واحد.

وتم تعليق تلك العملية في أواخر 2014 توفيرا للمال وحلت محلها عملية أوروبية على نطاق أضيق.

وإذا غرقت شحنة من البشر فإن الخسائر التي يتكبدها المهربون تكون محدودة.

وقال فيرارا “لا تنطوي التجارة على مجازفة”. وأضاف “إذا هربت مخدرات وفقدت المخدرات فعليك أن تسدد ثمنها. أما إذا غرقوا (المهاجرون) ومات معظمهم فإنك لا تخسر أموالا”.

وحتى الآن تفادت العصابات أجهزة إنفاذ القانون إلى حد بعيد لأنها تقوم على خلايا مجهولة منتشرة في دول كثيرة. ولا يريد المهاجرون الذين يسعون للحصول على خدمات المهربين أو العائلات التي تتحمل النفقات جذب الانتباه لكيفية عمل هذه العصابات. ورفض غيرماي نفسه إجراء مقابلة من أجل هذا التقرير.

كان غيرماي يبلغ من العمر عامين حين رآه تيسفوم آخر مرة في أسمرة عاصمة إريتريا. كان هذا في عام 2001 بعد عشر سنوات من حصول البلاد على استقلالها. وعقب حرب مع إثيوبيا بدأت عام 1998 أعلنت حكومة إريتريا حالة الطوارئ ومددت الخدمة في الجيش لأجل غير مسمى.

تم تجنيد تيسفوم بعد تخرجه في المدرسة الثانوية مباشرة واقترض 30 ألف ناكفا (1900 دولار تقريبا) دفعها للمهربين لإيصاله إلى السودان. وبعد أن رحل سجنت السلطات والده -وهو معلم بمدرسة- لثمانية أشهر وغرمته ما يساوي ثلاثة آلاف دولار. وألقي القبض على تيسفوم في مصر فيما بعد وتم ترحيله إلى إريتريا.

وفر مئات الآلاف من الإريتريين في السنوات العشر الماضية ليصبحوا رابع أكبر مجموعة من اللاجئين تدخل أوروبا العام الماضي بعد السوريين والأفغان والعراقيين وفقا لما ذكرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

وسدد اللاجئون الإريتريون الذين أجريت مقابلات معهم من أجل هذا التقرير في المتوسط 5400 دولار لكل منهم للقيام بالرحلة في النصف الثاني من العام الماضي. ويعادل هذا تقريبا ثمانية أمثال تقدير البنك الدولي للدخل السنوي للفرد في إريتريا.

ووصف تقرير للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2015 إريتريا بأنها “بلد يعتقل فيه الأفراد ويحتجزون تعسفيا بشكل روتيني ويعذبون ويختفون أو يعدمون خارج النظام القضائي”.

واتهمت الأمم المتحدة الحكومة بانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان التي “ربما تشكل جرائم ضد الإنسانية”.

وقال غيرما أسميروم مندوب إريتريا لدى الأمم المتحدة “البيان جائر ولا يعكس الواقع في إريتريا”.

وفي مقابلة في نيويورك قال أسميروم إن الناس يهربون من الفقر. وألقى باللائمة على الدول الغربية في تشجيع الإريتريين على المغادرة بعرضها اللجوء الفوري بها. وقال إن دافع هذا الدول هو إضعاف وتهميش الحكومة الإريترية لخدمة مصالحها السياسية في المنطقة.

وأضاف “الأوروبيون والأميركيون يساهمون في الحراك الذي يشهده تهريب البشر وفي البؤس”.

لكن تيسفوم يحكي قصة أخرى. فبعد أن أجبر على العودة إلى إريتريا يقول إنه قضى ثلاثة أعوام في السجن بتهمة الفرار من الجيش واحتجز في زنزانة دون نوافذ لنصف مدة عقوبته. ثم أرسل بعد ذلك للقتال على نقطة اشتباك حدودية مع جيبوتي. وفر من الجيش مجددا لكنه احتجز في جيبوتي لمدة تزيد عن العامين كأسير حرب. وفي 2010 وبينما هو شديد الإنهاك والإعياء منح حق اللجوء في الولايات المتحدة بعد أن نظم ناشطون في مجال حقوق الإنسان حملة لمنح حق اللجوء للأسرى الإريتريين. وفي أغسطس/آب من ذلك العام سافر إلى ألباني لبدء حياة جديدة.

وفي بيته الجديد يقضي تيسفوم ساعات على الإنترنت في غرف الدردشة متحدثا لمنشقين إريتريين آخرين ويحضر مسيرات في واشنطن ونيويورك تحاول جذب الانتباه إلى محنة أبناء وطنه.

وعلى الرغم من المسافة التي تفصله عن أسرته يقول إنه ما زال يشعر بالمسؤولية تجاه أشقائه. وفي 2011 حاول أخوه هبتاي الهجرة إلى إسرائيل لكنه خطف من أجل الحصول على فدية وعذبه بدو في صحراء سيناء. وتفاوض تيسفوم مع وسطاء لإطلاق سراح هبتاي الذي يبلغ عمره الآن 25 عاما ويعيش في إسرائيل.

واستعانت أخته سارة البالغة من العمر 20 عاما بمهرب في إريتريا جاء بها إلى السودان ورفع ثمن رحلتها ستة أضعاف ثم هدد ببيعها لقبيلة بدوية. ودفع تيسفوم 6000 دولار لإرسالها إلى إثيوبيا حيث تعيش كلاجئة.

وشكلت تلك المبالغ ضغوطا مادية على تيسفوم. وقال إنه كان يعمل 70 ساعة في الأسبوع في توصيل البيتزا وقيادة شاحنة نقل لكسب ما يزيد قليلا عن قيمة الإيجار ورسوم التأمين على سيارته النيسان ألتيما. ولم يكن يتوقع أن يتورط في هروب شقيق آخر.

لكن في أواخر 2014 سجن غيرماي بعد أن خرج من الدراسة الثانوية لتجنب الخدمة العامة. وفي مايو/أيار من العام الماضي هرب وتسلل إلى السودان.

والسودان بالنسبة لأغلب الإريتريين الذين يهدفون للوصول إلى أوروبا هو أول محطة كبرى. وأحد طرق الوصول إلى هناك هو عبر مخيمات اللاجئين في شمال إثيوبيا. ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يمر آلاف الإثيوبيين عبر تلك المخيمات كل شهر. ومن هناك يدفع المسافرون ما يصل إلى 1600 دولار للوصول إلى العاصمة السودانية الخرطوم.

لكن غيرماي اتخذ مسارا مختلفا عبر الحدود الغربية لإريتريا إلى مخيم الشجراب للاجئين في شرق السودان. ومن هناك اتصل بوالديه لطلب نقود لمهربين لتمريره من نقاط التفتيش في الطريق إلى الخرطوم.

قال تيسفوم ” كان والدي منفعلا… قال لي ’ما كان ينبغي أبدا أن أترككم ترحلون. كان بالإمكان أن يبقى كل أبنائي هنا معي”.

وكان تيسفوم غاضبا أيضا لكنه لم يستطع ترك أخيه هكذا بلا عون. فما كان منه إلا أن جعل صديقا له في السودان يشتري ما قيمته مئتي دولار من دقائق الهاتف المحمول المدفوعة مسبقا وأرسل الكود الخاص بها لأخيه عبر رسالة نصية. وتستخدم دقائق المحمول المدفوعة مسبقا كعملة في أجزاء عديدة من أفريقيا خاصة في الأماكن التي تندر فيها البنوك أو تكون غير موثوق بها. وتمكن جيرماي بسهولة من استبدال الدقائق بعملة نقدية.

ثم طلب تيسفوم من غيرماي أن يلحق بأختهما في إثيوبيا. لكن قلب غيرماي ظل متعلقا بأوروبا. وتشاجر الشقيقان عبر الهاتف.

ووبخ تيسفوم أخاه وقال “إذا استمعت إلي سأساعدك… وإذا لم تستمع إلي ستكون مسؤولا عن نفسك بالضبط كما كنت عندما تركت المنزل”.

في البداية ظن تيسفوم أنه خرج من الجدال منتصرا ووافق عندما طلب منه غيرماي إرسال نقود إلى الخرطوم المركز المالي الذي تمر منه أغلب نقود هذه التجارة.

والحوالة هي نظام الدفع الأساسي للمهربين في الخرطوم. وتعتمد الحوالة على علاقات شخصية مقربة بين الأشخاص الذين تفصلهم مسافات شاسعة. فليس هناك عقود موقعة والقليل من عمليات التحويل هو الذي يكتب في السجلات.

ويقوم وكيل في دولة غربية عادة بقبول مبلغ مدفوع مقدما ويتصل أو يرسل بريدا إلكترونيا لشريكه في الخرطوم ليخبره بالمبلغ الذي تلقاه.

ويقوم الوكيل في الخرطوم بعد ذلك بدفع المبلغ المذكور إلى الشخص الذي أرسلت له النقود مخصوما منه رسوم تحويل وعادة بسعر تحويل عملة أفضل من الذي قد يقدمه البنك.

وفي النهاية يقوم الوكيلان بتسوية تحويلاتهما من خلال البنوك. وعلى الرغم من أنها وسيلة غير رسمية إلا أنها طريقة قانونية لتحويل الأموال وفي الأغلب يستخدمها المهاجرون الآسيويون والأفارقة في الغرب. ويقول محققون إيطاليون إن المهربين يستخدمون نظام الحوالة في 80 بالمئة من تعاملاتهم المالية.

وفي أواخر مايو/أيار سحب تيسفوم 1720 دولارا كانت كل ما في حسابه ببنك أوف أمريكا وقصد وكيلا سودانيا في سكينكتادي بنيويورك لتحويل المبلغ.

وخصم الوكيل 120 دولارا كرسوم وأبلغ زميله في الخرطوم بإيداع المبلغ في نيويورك.

وفي الخرطوم حصل غيرماي على 8.30 جنيه سوداني نظير كل دولار وهو سعر أفضل بكثير من المعروض في البنوك حينها.

ولم يتضح إن كان الوكيل في سكينكتادي- الذي رفض تيسفوم الكشف عن هويته- أو غيره ممن يمتهنون هذا العمل يعرفون أي شيء عن نشاط التهريب أو يشاركون فيه بغير قصد.

وقال جيانلوكا إياتسولينو وهو باحث بجامعة إدنبره يدرس شبكات تحويل الأموال الصومالية في نيروبي “يقدم الوكلاء الخدمة دون النظر للاعتبارات الأخلاقية. لا يعنيهم ما يفعله الناس بهذه الأموال بعد ذلك”.

وما إن استلم غيرماي المال بدأ في البحث عن مهرب في الخرطوم ووجد ضالته في رجل اسمه تسيجاي.

ويتمتع الوسطاء مثل تسيجاي- الذين يشتهرون عادة بالاسم الأول مخافة افتضاح أمرهم- بثقة اللاجئين الساعين لعبور الصحراء.

يعمل هؤلاء مع شركاء سودانيين وليبيين يتكفلون بتأمين الطريق لهم. وأهم ما يحرص عليه هؤلاء الوسطاء هو السمعة الحسنة- سواء استحقوها أم لا- ويريدون أن يوصفوا كرجاء ونساء أمناء يتحدثون بلغات من يحصلون على خدماتهم ويدينون بنفس دياناتهم وينحدرون عادة من نفس المدن أو القرى. ويستعين هؤلاء بأشخاص يطلقون عليهم “الموردين” للترويج لحرصهم على سلامة من معهم ولاستقطاب الراغبين في السفر من الوافدين الجدد.

ويمتهن الموردون في العادة أعمالا كتأجير المنازل وبيع المواد التموينية وهي مهن يرجح أن تتيح لهم التواصل أكثر مع الوافدين الجدد. ويروج الموردون للمهربين الذين يدفعون لهم نظير ذلك ويتولون ترتيب الصفقات بين اللاجئين والمهربين. وفي بعض الأحيان يحصلون على أجرة المهربين لكنها تبقى لديهم إلى أن يصل اللاجئون إلى ليبيا. بل إن لاجئين في الفترة الأخيرة أفادوا أن معاملاتهم اقتصرت على الموردين دون أي تواصل مباشر مع المهربين.

في الخرطوم رتب تسيجاي لتسلل غيرماي و300 آخرين إلى ليبيا مقابل 1600 دولار لكل منهم. وفي الجانب الآخر من الصحراء يتم تسليم اللاجئين لمهربين ليبيين وفقا لما قاله غيرماي لشقيقه عبر الهاتف.

وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن عبور الصحراء لا يقل خطرا عن عبور البحر المتوسط لكن غالبية الحوادث لا يتم التبليغ بها. ويسقط بعض اللاجئين من على متن الشاحنات التي تقلهم ولا يعبأ بهم أحد بينما تواصل القافلة طريقها في الصحراء.

وتشيع الحوادث في هذه المنطقة لكن أكبر المشاكل هي الجفاف.

وقال جيبراسيلاسي ويوش وهو لاجئ إريتري خضع للاستجواب في كاتانيا بإيطاليا بعد عبور الصحراء في أغسطس /آب “بقينا بلا غذاء ولا ماء يومين كاملين. واضطررنا لأن نشرب بولنا”.

ويجوب مسلحون الصحراء بحثا عن أي بشر هائمين. وأفاد إريتري سعى للجوء في ألمانيا إن رجال قبائل خطفوا مجموعته وباعوه لزعيم عسكري في سبها بليبيا مقابل 500 دولار. وتعرض الرجل للتعذيب لأن عائلته عجزت عن دفع فدية قدرها 3400 دولار. وقال الرجل إن المرأة التي كانت في المجموعة تعرضت للاغتصاب في كل مرة بيعت فيها المجموعة لمالك جديد. وفر الرجل حين اندلع قتال في المدينة.

ولأن الرحلة في الصحراء محفوفة بالمخاطر يسمح المهربون للاجئين بالاحتفاظ بأموالهم لحين الوصول إلى أجدابيا على ساحل ليبيا المطل على البحر المتوسط. وتكثر في أجدابيا المباني المهجورة والمساحات الخالية وفيها يتمكن المهربون من احتجاز المهاجرين إلى أن ينجح كل منهم في دفع ثمن عملية التهريب.

ويقدم بعض المهربين للاجئين هواتفهم المحمولة المزودة بتطبيقات للاتصال عبر الإنترنت مثل فايبر وسكايب وواتس آب ليكون بمقدورهم التواصل مع عائلاتهم. وتساعد هذه التطبيقات على توفير المال اللازم لإجراء مكالمات دولية والأهم أنها تساعد في الإفلات من رقابة الشرطة.

وتنجح بعض العائلات في تدبير المال فور التأكد من أن ذويها لا يزالون على قيد الحياة. وأحيانا يكون هذا الاتصال الهاتفي هو أول ما يعرف الأسرة بوجود ابنها في ليبيا.

وذُهلت فريويني وهي إريترية تقيم في الدنمرك حين اتصل شقيقها من أجدابيا في مايو/أيار يتوسل إليها لتنقذه.

وقالت فريويني التي طلبت ألا يذكر اسمها كاملا لأن بقية العائلة لا تزال في إريتريا “قالوا إنهم سيسلمون شقيقي للدولة الإسلامية ما لم أدفع لهم”.

كان أمامها أربعة أيام لإرسال المال لذا اتصلت بأصدقاء لتسأل عن كيفية إرسال المال إلى السودان. أرشدها أحدهم إلى رجل يدير متجرا للتوابل في كوبنهاغن. التقاها تاجر التوابل على ناصية مزدحمة حيث أعطته 28 ألف كرونة (4135 دولارا) لإرسالها إلى وكيله في السودان. وسخر الرجل منها حين طالبته بإيصال. وبعدها بأيام قليلة اتصل بها التاجر مرة أخرى ليبلغها أن المبلغ ناقص ألفي كرونة.. فالتقيا مجددا.

بعد ثلاثة أسابيع عبر شقيقها البحر المتوسط وهو الآن يطلب اللجوء في ألمانيا.

عندما لم يتمكن غيرماي من التواصل بعد مكالمته في يونيو/حزيران حاول شقيقه أن يكتشف ماذا حدث بعدما تلقى مكالمات قلقة من والدتهما. هيبتاي ذو الخمسة والعشرين عاما الذي يعيش في إسرائيل أرسل رسالة نصية إلى تيسفوم على الفايبر وبها رقم تسيجاي.. ذلك المهرب الذي يعمل بالخرطوم.

وأجرى تيسفوم اتصالا مع تسيجاي في ذلك الأسبوع. وكان حديث المهرب مقتضبا وإن كان يبعث على الطمأنينة. وقال تسيجاي إن غيرماي سيكون في طرابلس خلال يومين ووعد بمعاودة الاتصال لإبلاغه بالمزيد من التفاصيل. وفي تلك الليلة فصل تسيجاي هاتفه. ولم يرد على أي من اتصالات رويترز المتكررة.

واتصل إخوة غيرماي الأكبر سنا في يأس بمن يعرفونهم في السودان وليبيا. وقال أحدهم إن ثلاث شاحنات كانت في القافلة التي تضم جيرماي لكن اثنتين منهما فقط وصلتا إلى طرابلس. وطلب أحد المهربين من تيسفوم أن يكون صبورا لأن هناك من سيتصل به في النهاية لطلب فدية.

وعادة ما يجمع المسلحون الليبيون اللاجئين ويحتجزونهم في مخيمات لحين دفعهم هم أو عائلاتهم في الخارج مبالغ لإطلاق سراحهم. ويتراوح السعر بين 1200 و3400 دولار. وهذا إجراء شائع حتى أن مهربا إريتريا -تنصتت الشرطة الإيطالية على مكالماته الهاتفية في 2013 في إطار تحقيق المدعي العام فيرارا- وصف المفاوضات مع الخاطفين بأنها جزء معتاد في عمله.

وقال المهرب الذي يدعى جون ماهراي في تسجيل لإحدى المكالمات “أقوم بإبلاغ (اللاجئين) قبل أن ينطلقوا… إذا سقطتم من السيارة وانكسرت أرجلكم فهذه إرادة الله. الطرق قد تقطع وهذه إرادة الله. لكن إذا تعرضتم للخطف وطلبوا منكم المزيد من الأموال فإنها مسؤوليتي لأني… سأدفع كل ما أملك لتأمين حريتكم”.

واستعدادا لطلب فدية افترض تيسفوم أنه سيحدث اقترض نقودا في يوليو/تموز وأرسل 3000 دولار لأخيه في إسرائيل. وبعد يومين أكد أخوه وصول المبلغ مخصوما منه رسوم التحويل أودع في حسابه في تل أبيب.

في يوليو/تموز أي بعد شهر من اختفاء غيرماي لم تصل عنه أي أخبار. استبد القلق البالغ بتيسفوم. وفي الليل استرجع محادثتهما الأخيرة وندم على كلماته الغاضبة. وأصعب جزء كان سماع توسلات والدته في إريتريا. ظلت تسأل “عرفوني إن كان قد مات”. وتوقف تيسفوم عن الرد على مكالماتها.

وفي صباح جمعة في منتصف أغسطس/آب اتصل غيرماي بأخيه من طرابلس. وقال إن جماعة مسلحة احتجزته وإنه هرب عندما اندلع القتال قرب موقع احتجازه ومشى لأيام قبل أن يصل إلى المدينة. وقال إنه لم يذق طعاما منذ يومين.

وبعد أخذ ورد رأى الشقيقان أن على غيرماي تسليم نفسه لمهرب إريتري معروف يعيش في ليبيا ويدعى أبو سلام.

استفاد رجال من أمثال أبوسلام من موجة خروج الإريتريين من بلادهم. ففي الأرض الغريبة يميل اللاجئون إلى الثقة في مواطني بلدهم. وكان أبوسلام وزملاؤه يوما مهاجرين أيضا لكنهم لم يخرجوا من ليبيا. وهم يتواصلون مع وكلاء التحويلات والموردين الليبيين للقوارب وأوراق الانتقال.

وليس واضحا من الذي يتحكم في تهريب المهاجرين عن طريق البحر. فهو نشاط بدأ منذ فترة طويلة ترجع إلى ما قبل سقوط معمر القذافي عام 2011. وأظهر تحقيق أجرته الشرطة الإيطالية في منتصف العقد الماضي أن خمس قبائل ليبية هيمنت على هذه التجارة من قواعد في طرابلس ومدينة زوارة المطلة على البحر المتوسط. كان بعضهم ضباطا سابقين في المخابرات الليبية ولدى معظمهم مزارع يحتجز فيها اللاجئون قبل نقلهم إلى أوروبا.

وتقول باولا مونتسيني التي درست تجارة تهريب البشر عبر البحر المتوسط لأكثر من عشر سنوات إن الفراغ الأمني في أعقاب الإطاحة بالقذافي غير هذا الوضع.

وأضافت “يمكن أن تمنح الميليشيات الحماية لأي أحد وبالتالي أصبح من السهل الدخول في هذه التجارة… لكن مما رأيته مازال الليبيون يسيطرون على عمليات المغادرة عن طريق البحر”.

وبعد سداد 2200 دولار هي تكلفة الرحلة بالمركب أرسل أبوسلام غريماي إلى مركز احتجاز قرب البحر حيث كان لاجئون آخرون من إريتريا وإثيوبيا ينتظرون سفينة. ويمنح كل لاجئ رقما حتى يتسنى للمهربين تعقب من الذي سدد الأتعاب ومن الذي لم يسددها. كما تحدد لهم أماكن على القارب.. فوق السطح حيث احتمالات النجاة هي الأعلى وتحت السطح حيث يعني غرق القارب الموت المحقق في أغلب الأحيان.

في الأيام التي سبقت خروج غيرماي في رحلته لعبور البحر المتوسط ازدادت خطورة البقاء في ليبيا وعلى سواحلها. وغرق قارب قرب زوارة وجرفت المياه مئات الجثث إلى الشاطئ. وتقول المنظمة الدولية للهجرة إنه في عام 2015 غرق ما يقدر بنحو 3800 شخص أو فقدوا خلال عبور البحر. ولقي حوالي 410 آخرين حتفهم أو فقدوا هذا العام.

وفي أول أربعاء من سبتمبر/أيلول وفي الواحدة صباحا تقريبا ركب غيرماي قاربا صغيرا مكتظا مع 350 آخرين وفقا لما ذكره اثنان من اللاجئين كانا ضمن الركاب. وخلال ساعات رصدت سفن الإنقاذ القارب. وفي اليوم التالي وصل إلى إيطاليا.

انتقل غيرماي سريعا إلى ألمانيا ومنها إلى السويد. ويقول شقيقه إنه يسعى للحصول على حق اللجوء هناك.

وفي الوقت الذي وصل فيه غيرماي إلى إيطاليا دخل والده السجن في إريتريا مرة أخرى. وأفادت تقارير بأنه تم الإبلاغ عنه في مكتب لتحويل الأموال بينما كان يصرف نقودا أرسلها تيسفوم من نيويورك. بعد ذلك بأسبوعين تم الإفراج عنه بكفالة قدرها 200 ألف ناكفا (12360 دولارا تقريبا).

قال تيسفوم “هذه هي معاناتنا… لا أول لها ولا آخر”.