IMLebanon

النرويج .. الضرورات الاقتصادية تدفع حماية البيئة إلى المقعد الخلفي

norway-
ريتشارد ميلن

مع وجود الحيتان القاتلة التي تسبح في مياه المضيق الذي لا يزال يحتفظ بنقائه الأصلي، ونسور البحر المحلقة فوقه، يوفر ذلك المشهد صورة جميلة للنرويج. تقول آن-لاين ثينجنيس فورساند، التي ولدت وتربت في فيفرينج، بجانب مضيق فورد: “إنها جنة حيث تستطيع الطبيعة أن تنمو دون أي عائق”.

لكن في العام الماضي وافقت السلطات النرويجية على خطة تسمح بأن يتم إلقاء ملايين الأطنان من النفايات الصناعية في المضيق، ما أدى إلى ظهور انتقادات بأن تلك المنطقة النقية سوف تتضرر. تقول الشركة المطورة للمشروع، نورديك ماينينج، إنه في المقابل سوف يتم استحداث 170 فرصة عمل من أجل التنقيب عن أكسيد التيتانيوم، وهو معدن يستخدم في تبييض الأسنان وغيرها من الاستخدامات.

أثارت تلك الخطوة غضب السكان المحليين ودعاة حماية البيئة وأطلقت العنان لموجة من الانتقادات ضد النرويج، التي تعتبر منذ فترة طويلة واحدة من الإضاءات الرائدة لحركة التغير المناخي بسبب الهبات التي تقدمها لرعاية المشاريع الخضراء في الخارج ـ قدمت مليار دولار لإيقاف إزالة الغابات في البرازيل ولديها خطة مماثلة في إندونيسيا.

تقول نينا جنسِن، رئيسة الصندوق العالمي للطبيعة في النرويج: “نحن نخبر الجميع ما ينبغي عليهم فعله، لكننا لا نفعل ذلك بأنفسنا”. في مجالات متنوعة مثل قطاع استخراج الفحم، والتنقيب عن النفط والغاز، والانبعاثات الناتجة عن الوقود الأحفوري، تُتَّهَم النرويج بعدم ممارسة ما تدعو إليه. يقول النقاد إن ذلك النوع من السلوك الذي تعارضه في الخارج -منح فرص العمل والنمو أولوية قبل حماية البيئة- هو بالضبط ما تفعله في الداخل، ما يؤدي إلى اتهامات بالنفاق.

يقول أريلد هيرمستاد، رئيس مجموعة “المستقبل في أيدينا”، وهي جماعة ضغط بيئية رائدة في النرويج: “نحن نشعر بالإحباط في معظم الوقت لأن الوظائف تحتل أولوية على البيئة. إلى حد ما هذا نفاق. أحيانا، يبدو من السهل تحقيق أمر ما في الخارج من تحقيقه في النرويج”.

الوعظ البيئي

ليس دعاة حماية البيئة فقط هم الغاضبون من ذلك. يقول الرئيس التنفيذي لشركة صناعية سويدية، طلب عدم كشف هويته: “دائما ما يأتي ذكر النرويج كواعظ أخلاقي في المسائل البيئية، لكني أعتقد أن هناك أمورا كثيرة تعرِّضُها للانتقاد في الداخل كونها بعيدة عن الكمال”.

الرهانات مرتفعة في أعقاب اتفاق المناخ الذي تمت الموافقة عليه في باريس في كانون الأول (ديسمبر) -الذي تم التوقيع عليه رسميا في نيويورك في 23 نيسان (أبريل)- للحد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب بمقدار يقل عن درجتين مئويتين زيادة عما كانت عليه قبل الثورة الصناعية. وكان يُنظَر إلى النرويج بصورة إيجابية على اعتبار أنها كانت تعمل أكثر من أي بلد آخر تقريبا على محاربة التصحر ومكافحة إزالة الغابات، إضافة إلى منح العمل في مجال قضية التغير المناخي مكانة في صميم عمل صندوقها للثروة السيادية الذي تبلغ قيمته 855 مليار دولار.

في فيفرينج، وهي بلدة يسكنها 300 شخص فقط، تصف فورساند، رئيسة فريق العمل المحلي ضد المناجم، الخطة بأنها “ضرب من الجنون”. ويعد المضيق البحري مكان تفريخ شائع للأسماك، وهو موقع لعديد من مزارع السلمون إضافة إلى كونه مقصدا للسفن السياحية. وتحدثت عدة مجموعات معنية بالسياحة والمأكولات البحرية -اثنتان من أكبر الصناعات بعد النفط في النرويج- حول الخطط، في الوقت الذي أطلق فيه عالم أحياء بحرية بريطاني على مشروع التطوير وصف “الجنون” و”أنه يشبه العودة إلى القرن الـ18″.

تقول فورساند: “إنه أمر لا يصدق إننا ندفع كثيرا جدا من أجل حماية الغابات المطرية، في حين أنهم يريدون السماح بإلقاء نفايات التعدين في المضيق -الذي هو عبارة عن غابة مطرية تحت الماء- في النرويج. يا له من نفاق كبير”.

وتعمل شركة نوردك للتعدين على الترويج للمشروع كمثال يوضح كيف يمكن للنرويج البقاء على قيد الحياة في الوقت الذي يختفي فيه كل من النفط والغاز ببطء، ولكن بشكل حتمي من مزيج الطاقة. وتجادل الشركة بأن النفايات سوف يتم طرحها في قاع المضيق، على عمق 300 متر، وهو مكان أدنى كثيرا من الموقع الذي يوجد فيه الموئل الطبيعي لسمك السلمون البري. وتعد النرويج من البلدان القليلة التي تسمح لنفايات التعدين بأن تلقى في البحر. وتقول الشركة إن الدراسات تظهر أن الحياة البحرية يغلب عليها أن تعود إلى قاع مثل هذا المضيق البحري في غضون بضع سنوات. وقال روالد كفامين، القاطن في فيفرينج، لوسائل الإعلام المحلية: “هذا أمر إيجابي. نحتاج إلى تلك الوظائف”.

ومضيق فورد أبعد ما يكون عن كونه حادثة منفصلة، إذ يشير دعاة حماية البيئة إلى سلسلة من المشاريع تفوقت فيها فرص العمل في المجتمعات المنعزلة على غيرها من الاعتبارات. وتلك المشاريع تعزى جزئيا إلى اقتصاد النرويج المتباطئ، الذي شهد توقفا في النمو وارتفاعا في البطالة بمقدار الثلث خلال العامين الماضيين في الوقت الذي يشعر فيه البلد بأثر الانخفاض الحاد في أسعار النفط. وهناك اقتراح بفتح مساحات شاسعة من البحر داخل الدائرة القطبية الشمالية من أجل التنقيب عن النفط. ويجري الآن بالفعل ضخ الغاز والنفط من بحر بارنتس الواقع في الجنوب، لكن هذا العام سيتم لأول مرة منذ 20 عاما ترسية مناقصات على مساحات تنقيب جديدة، لاسيما على طول الحدود القطبية الشمالية للنرويج مع روسيا.

دعم المستكشفين

تتلقى شركات الطاقة المساعدة من خلال تخفيضات ضريبية تبلغ نسبتها 78 في المائة مقابل تكاليف الاستكشاف، وهو أمر تسميه جنسن “إعانات مخفية” تصل وفقا لحساباتها إلى 140 مليار كرونة (17 مليار دولار) في جولة منح التراخيص لهذا العام. وتضيف: “لا يجدر بك أن تستثمر أموالك في قطاع ستعمل على إنهائه”.

ويعترض مسؤولو الحكومة على فكرة أن التدابير الضريبية هي إعانات، محتجين بأنها تساعد في ضمان الاستكشاف. ويشيرون إلى المملكة المتحدة، على الجانب الآخر من بحر الشمال، حيث تعاني الصناعة، باعتبارها مثالا على ما يمكن أن يحدث دون وجود الحوافز الصحيحة.

الأمر الأكثر إثارة للجدل حتى من ذلك هو الجهود الرامية إلى فتح جزر لوفوتن وأرخبيل فستيرالين شمالي النرويج للتنقيب عن النفط.

مع وجود أكبر الشعاب المرجانية في المياه الباردة في العالم، تعتبر لوفوتن وعلى نطاق واسع المكان الأكثر جمالا في النرويج. واستبعدت حكومة يمين الوسط الحالية إجراء أي عمليات حفر هناك أثناء وجودها في السلطة.

مع ذلك، دعا كل من إلدار سايتر، الرئيس التنفيذي لشركة شتات أويل التي تسيطر عليها الحكومة، ووزير النفط في أوسلو أخيرا إلى أن يتم فتح المنطقة بعد انتخابات العام المقبل. وحذر سايتر من أنه ما لم يتم رفع الحظر عن عمليات الحفر، سوف يستمر التراجع الحاد في إنتاج النفط في النرويج -انخفض إلى النصف منذ عام 2000.

تقول جنسن: “مثل هذه الدعوات تدفعك للتفكير: لماذا نفعل هذا؟ إن فتح جزر لوفوتن قد يكون تفكيرا قصير الأجل يتغلب على التفكير طويل الأجل”.

كذلك سُمِعت أيضا صيحات تصف المسؤولين بالنفاق عندما فتحت شركة مملوكة للدولة منجما للفحم في أرخبيل سفالبارد في اليوم التالي عام 2014، تماما في اليوم الذي بدأ فيه البرلمان النرويجي مناقشاته حول ما إذا كان ينبغي لصندوق الثروة السيادية الانسحاب من استثمارات الفحم.

يقول أحد كبار المسؤولين الحكوميين: “صحيح أن هناك قدرا معينا من الكيل بمكيالين هنا. لكننا نعتقد أن من الأفضل اتخاذ موقف بشأن التغير المناخي مع صندوق النفط من عدم فعل أي شيء، ومنجم الفحم في حد ذاته صغير جدا”.

يقول فيدار هيلجيسين، وزير البيئة، إن النرويج تمثل “دولة متناقضة” بسبب مكانتها كأكبر منتج للنفط والغاز في أوروبا الغربية.

ويضيف: “لدينا ثروة كبيرة مشتقة من الوقود الأحفوري، لكن في الوقت نفسه نحن مختبر سياسات لإنتاج الأفكار التي تسعى لإضعاف سوق النفط”. مثالا على ذلك، يستشهد بالإعانات الكبيرة المقدمة للسيارات الكهربائية، التي ساعدت النرويج في تسجيل مبيعات قياسية بالنسبة لكثير من الموديلات. وفي وقت مبكر من العام الماضي، أكثر من ثلثي المبيعات الأوروبية من سيارات “إي جولف” من شركة فولكسفاجن كانت في النرويج.

بالنسبة للانتقادات الأوسع نطاقا، يقول هيلجسن إن الحكومة ترغب في ضمان تحول تدريجي بعيدا عن الوقود الإحفوري، إضافة إلى استحداث فرص العمل. ويضيف: “في الحالات الفردية، ستكون هناك مقايضات ما بين الصناعات. وهذه ليست مسألة نفاق. وإنما هو ذلك النوع من المعضلات التي توجد في أي بلد”.

الوزير يصف الادعاء الذي مفاده أن النرويج لا تفعل في الداخل ما تعظ به في الخارج بأنه “افتراض معيب في الأساس – نحن لا نملي على إندونيسيا أنه لا ينبغي عليها تحقيق المكاسب من خلال غاباتها”.

سجل هزيل

لعل الانتقاد الأكثر دلالة على سجل النرويج هو في المجالات ذاتها التي تسعى فيها للحصول على تأثير في الخارج: الغابات ومستنقعات الخث.

قدمت النرويج الدفعة النهائية من منحة مقدارها مليار دولار للبرازيل في أواخر العام الماضي لتخفيض معدل إزالة الغابات بنحو ثلاثة أرباع. وقدمت أيضا مبالغ كبيرة إلى ليبيريا لحماية 30 في المائة من غاباتها بحلول عام 2020، إضافة إلى بلدان أخرى مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية.

لكن أنصار حماية البيئة يبدون قلقهم إزاء حماية غابات النرويج. على اعتبار أن معظم غاباتها صغيرة السن نسبيا، إذ إن 2.4 في المائة منها فقط تتجاوز أعمارها 160 عاما وتصنف نباتات قديمة، وهي النوع الذي يدعم معظم التنوع البيولوجي. يقول هلجيسن إن تحسنا حدث في الآونة الأخيرة، لكنه يعترف بأنه كان انطلاقا من “قاعدة ضعيفة”. وبالمثل، تشجع النرويج إندونيسيا على حماية مستنقعات الخث، وهي إحدى مصادر الغازات الدفيئة عند حرقها، كما حدث في حرائق العام الماضي الكبرى في ذلك البلد الواقع جنوب شرقي آسيا. لكن النرويج في حد ذاتها عملت على استنزاف ثلث مستنقعات الخث الخاصة بها خلال السنوات الـ100 الماضية، في الوقت الذي يجري فيه حماية أقل من 5 في المائة منها. وهذا يقل عن الهدف البالغ 17 في المائة، المحدد ضمن أهداف الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي عام 2020.

يقول هيلجسن: “إن نظرت إلى القرن الماضي، سترى كثيرا لدينا لإصلاحه”. ويضيف: “التدابير التي من شأنها إلحاق الضرر بقطاع الزراعة أو الغابات يصعب تنفيذها من الناحية السياسية. من الواضح تماما أنه عندما تكون هناك تدخلات حكومية لحماية البيئة تتعارض مع سبل العيش التقليدية، فمن المؤكد أنك ستلقى مقاومة”.

بدلا من ذلك، يدعي أن إنفاق كرونة واحدة يقطع شوطا أطول في مكافحة التغير المناخي في الخارج منه في النرويج. ويقول أيضا: “الاقتصاد في التكاليف هو أحد الاعتبارات. إن كان بالإمكان أن ينتج عن المال النرويجي تخفيضات أكثر في ثاني أكسيد الكربون في الخارج من تخفيضاته في النرويج من خلال اتخاذ تدابير مماثلة، يكون هذا أفضل بالنسبة للمناخ العالمي. لكن هذا لا يعني أننا لا نريد تنفيذ عملية التحول والانتقال في النرويج أيضا”.

النرويج واحدة من البلدان الأوروبية القليلة حيث معدل انبعاثات غازات الدفيئة أعلى مما كان عليه في عام 1990. وتعد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أعلى بنسبة 23 في المائة مما كانت عليه في عام 1990، في الوقت ارتفع فيه إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 2.4 في المائة إلى حد كبير بسبب نمو قطاع صناعة الغاز والنفط، لكن جزئيا بسبب زيادة حركة المرور أيضا.

في المقابل، عملت كل من ألمانيا والمملكة المتحدة على خفض الانبعاثات لديهما بمعدل الربع خلال الفترة نفسها.

يقول هيرمستاد: “نحن نفوز بالبطولة على ما نقوم بفعله بيئيا في الخارج، لكن في داخل بلدنا يبدو وكأننا لسنا حتى من المشاركين في المنافسة. عندما يتعلق الأمر بالقرارات الصعبة والأشخاص الذين ربما سيشعرون بالغضب قليلا، حينها لن نتمكن من فعل أي شيء”. في فيفرينج، تواصل فورساند قتالها ضد المنجم. وقد تمت الموافقة على إذن التصريف أخيرا في شباط (فبراير) بعد أن رُفِض الاستئناف. تقول: “إن كانت النرويج مستعدة لهذا (فتح المنجم)، يمكنها أن تمارس الضغط على البلدان الفقيرة من أجل التخلي عن معاييرها البيئية. إذا لم تستطع النرويج أن تفعل ذلك، فمن الذي يستطيع؟”.