IMLebanon

النخَّاسون

syria

 

كتب بول شاوول في صحيفة “المستقبل”:

الأسد على خطوط متوازية من الفشل، سواء سياسياً، أم عسكرياً؛ فبعد تمسك أميركا برحيله، يأتي انتصار المعارضة باسترجاع ما احتله عبر القوة الروسية والطيران، وإيران و”حزب الله” و”الحرس الثوري” وما هب ودب من المرتزقة من كل فج عميق. هذه الخطوط يطول أحدها هنا ويقصر، يستقر ثم يتراجع، يتراجع ثم يتقدم، يتقدم ثم القهقرى.

وهذا يعني ان كل ما ارتكبه الأسد من موبقات وجرائم في حق أهله، لم يؤتِ ثماره. لا شيء. معلق بين حقيقتين الرحيل والبقاء سجين قصره. فالأسد، منذ اندلاع الربيع السوري ضد طغيانه بدأ عده العكسي. إلى الوراء، فإلى بعض الأمام وكله إلى الوراء. وقد تقول إن ابن حافظ الأسد، قد حارب، بجيشه وشبيحته، للحفاظ، على الأقل، على ما يعتقد انها حقوقهم. لكن هذا القول يُبتذل عندما نعرف مدى استهتار هذا الرجل ببلده. فسوريا الأسد، لم تعد لا سوريا، ولا الأسد. ولا شيء منهما. ذلك أنه عرض كل ما فيها إلى البيع لقاء بقائه، باوكازيون مجنون لا مثيل له في التاريخ. فهو الذي قال جملته المُذلة والمهينة “سوريا لمن يدافع عنها وليس لمن يسكنها”. أي انها تحولت أراضي مفرزة توهب لكل مرتزق خارجي ينخرط في قتل شعبه.

بمعنى آخر، وزعت ارض سوريا على الدول والمجموعات والأحزاب التي تشكل درعه الواقية، حتى باتت كالكلمات المتقاطعة أو كمفردات تحولت ملكية لغير السوريين. فالرئيس يوزع المغانم والخيرات والأموال والإدارات والأحياء والمدن على كل “شُذّاذ” الآفاق. فمنظوره ان سوريا “مستباحة” معروضة للسبي والنهب بشعبها وممتلكاتها وتاريخها… وجغرافيتها، وحدودها. لا شيء اسمه سوريا لأنه يرى ان أهلها لا يستحقونها وليسوا منها. بل غرباء، مرذولون، منبوذون، محرومون من حقوقهم الوطنية والمدنية… فلا هوية لأي سوري: “اسقطوا هوياتهم” وامنحوها لكل وافد، مجرم، ومرتزق، فهو أجدى بها.

وهكذا، فقد وزّع بشار بجود لا حدود له ممتلكات الشعب السوري، والدولة، على الأحزاب، والتنظيمات الأجنبية التي تحارب في صفه. ومنح كل طرف “مناضل” كـ”حزب الله” والإيرانيين والحرس الثوري مناطق مستقلة لهم، جُعلت “كانتونات” مدموغة بأسمائهم. هنا يحكم “الإيرانيون” على أرضهم وهناك الروس. وهناك (اسرائيل في الجولان)، وهناك مركز عسكري وهناك نقطة أمنية خارج سيطرة “دولته” مرتبطة بمرجعياتها أو الجهات التي أرسلتها. حتى منازل ملايين النازحين إما دمرت أو نُهبت لكي لا يعودوا إليها، باعتبارهم رحلوا. لا شاميين ولا درعاويين ولا حلبيين. فليذهبوا! “أوليس نحن من هجّرهم، وشردهم ونفاهم… فلماذا نعيدهم؟ فهؤلاء لا قيمة لهم ولا حساب ولا تاريخ ولا سجل نفوس ولا ذكريات ولا أسماء ولا حنين ولا أمل بالعودة: فبدلاً من أن يدافعوا عن سوريا الأسد فضلوا الموت في المراكب والسفن أو السكن في مخيمات تمتد من لبنان والأردن وتركيا إلى المانيا، ومصر.. فهم لا يستحقون لا مواطنة ولا وطناً. فلنبع ممتلكاتهم وأراضيهم وهوياتهم لمن صمدوا كمجاهدين في الجمهورية ليدافعوا عن رئيسها”. رحل معظم الشعب اذن. وما زالت الجمهورية (المشتقة من الجمهور) اسماً بلا مسمى، بيعت أو منحت الأرض وما زال هناك من يتكلم على الدفاع عن “التراب” السوري في تلفزيوناته. انه زمن البدائل والاستعارات. فهناك إما الإيرانيون جاهزون يتم تجنيسهم بعشرات الألوف بديلاً من الشعب السوري والموظفون جاهزون ايضاً من بلاد أخرى يحلون محل السوريين: حتى لتفاجأ عندما تسمع في بعض الدوائر الحكومية ممن يتولون الشؤون، لهجة روسية، أو فارسية، أو باكستانية، أو أفغانية! انها العولمة بأبهى صورها الانفتاحية! وتزول المفاجأة بحكم العادة عندما يتسلم الأمن على الحواجز داخل دمشق، وفي بعض المناطق “عسكر” ميليشيوي من “حزب الله” يسأل السوري عن هويته واسمه وفصله ووجهته وانتمائه! وقد اقتبس نظام الأسد هذه الممارسات من وجوده في لبنان: “الهواوي يا شباب”. يقصد اللبنانيين. بل أكثر! فالمحاكم الأمنية أو المدنية أو العسكرية، أحيلت أيضاً على من يدافعون عن “سوريا الأسد” أي ميليشيات الحرس الثوري الذين يحق لهم محاكمة كل من يشكّون بإخلاصه “الجهادي” فيخطفونه أو يسجنونه أو يصفونه. فهؤلاء الغرباء باتوا هم السوريين والسوريون باتوا الغرباء.

الفرمان

وهم، بكل دقة، ينفذون “وصية” الأسد وفرماناته اليائسة: “سوريا لمن يدافع عنها” وهذا ما شهدناه في لبنان على امتداد نصف قرن تقريباً: فإسرائيل احتلت لبنان وأفرزت اللبنانيين بين “مخلص” لاحتلالها ضد “الارهاب” الفلسطيني وبين “ارهابي” يقاومها وسجونها غصت باللبنانيين. وهذا ما ارتكبته منظمة التحرير الفلسطينية عندما اعتبرت انها تحكم لبنان، وقراره وأجزاء منه (فتح لاند) وهي التي توزع شهادات العروبة والوطنية وحتى المناصب ومناطق النفوذ؛ وهذا ما ابدع فيه جيش النظام السوري في لبنان، عندما استبدل رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب بمسؤولين أمنيين سوريين كمفوضين ساميين: غازي كنعان ورستم غزالي اللذين باتا الدولة يوزعان “الهدايا والمغانم والوزارات والنيابات على ودائعهم في لبنان” فهذه الودائع في الحكومة وفي البرلمان وفي المصارف والمطار والمرفأ… هي الحاكمة بأمرها. وكل لبناني يخرج على هذا الواقع، يدان، ويتهم بالعمالة، وبالخيانة فيقتل أو يسجن (ما زال هناك 15 ألف لبناني في سجون آل الأسد) فمنطق “سوريا لمن يدافع عنها” عرفناه في بلدنا بصيغة “لبنان لمن يدافع عن الوصاية السورية” وهكذا تم اغتيال العديدين ونفي رموز كبيرة إلى الخارج: ريمون اده، أمين الجميل، ميشال عون، وصائب سلام، تقي الدين الصلح الذين ما كانوا يستحقون، بحسب النظام البعثي، لا هويتهم ولا عروبتهم ولا بلدهم ولا حريتهم!

وهذا ما استكمل مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. وبعض رموز 14 آذار. فلنمحُ كل من ليس يخضع لوصايتنا؟ فهو منزوع الحقوق والحياة والبلد…

لمن يحتله

فمنطق البلد لمن يحتله لا يختلف عن مقولة الأسد “سوريا لمن يدافع عنها”. أو ليس هذا ما يجسده “حزب الله” (ووراءه إيران)، فالحزب يتصرف بمقولة “استعمارية” قديمة، ويعتبر أن “انتصاره” في الجنوب اللبناني وتحريره من اسرائيل، يؤهلانه لأن يحتل ما “قد حرر” أي يسلم إيران ما احتل، لتحتله؛ وهذا يفسر تصريحات بني فارس: “ان لهم موقعاً متقدماً في الجنوب في مواجهة اسرائيل” (أقصد في مؤازرة اسرائيل) . أي الجنوب لمن حرره… ودافع عنه… وكذلك البقاع وسواه.

لكن مصادرة الأرض جزء من منطق الهيمنة السياسية أيضاً: فمن يحرر “أرضاً” مُحرَرة يحتل مجلس النواب والحكومة ورئاسة الجمهورية، فالبرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية لمن “دافع عن الجنوب” وافتعل حرب 2006 المشؤومة. وله الحق في وضع فيتو على من يشاء أو يشطب من يشاء أو يقتل من يشاء أو يؤيد من يشاء. فالناس والأحزاب والتنظيمات والأمن العام والجيش هي كلها لمن “دافع عن لبنان”… ويسري ذلك على علاقة لبنان بالعرب، فيما أن لبنان صار من ملكيات حزب إيران، فمن الطبيعي ان يتحكم الحزب بهذه العلاقات فيمنع من يشاء من العرب من المجيء إلى لبنان ويسمح لمن يشاء بالدخول: حاجز فضائي، بري، جوي، يذكرنا بالحواجز الميليشيوية على الهوية. وبما أن الحزب هو عميل خالص محض لإيران فعلى اللبنانيين، وبحكم سطوته، ان يحملوا “هوية” إيرانية، في مواقفهم واتجاهاتهم وأفكارهم ومواقفهم. فهناك “مربط خيله” وهناك يجب أن يربط اللبنانيون بأرسان أو بحبال في حظائر خامنئي.

المقولة المرتدة

لكن مقولة الأسد “الذهبية” ترتد على أصحابها. فالشعوب كلها تمر بلحظات مشؤومة، منهم ما تسمح له ظروفه بالمواجهة وآخرون يصمدون على الرغم من كل الويلات التي يتعرضون لها، والذل والجوع والحصار والتعذيب والترهيب… الفرنسيون حرروا بلدهم من الاحتلال النازي والإيطاليون من الاحتلال الفاشي والجزائريون من الاستعمار الفرنسي… انه منطق التاريخ والجغرافيا. من الصعب استبداله بمنطق آخر هو اللاتاريخ واللاجغرافيا. والدليل ان ما جرى في سوريا كان نتيجة ثورة الشعب بربيعه المشع على استبداد آل الأسد… أي العودة إلى “الواقع”. أي حياتهم. وقد اجتمع العالم كلّه ضدهم ليدفن أحلامهم: من أوباما إلى اسرائيل إلى روسيا إلى إيران. كلهم تنادوا بترساناتهم الحربية وطائراتهم ومرتزقتهم وارهابهم لتشويه حلمهم.

الصامدون

لكنهم صمدوا بأسلحة بدائية ومن دون غطاء يقيهم قصف “السوخوي” وعصابات إيران وزحف “داعش”. وها هم، أمس، يسجلون ملحمة عسكرية في حلب بهذه الأدوات المتواضعة، ويرتدون على الحصار والتجويع والقنابل الكيماوية والغاز والبراميل المتفجرة… كأنهم يصرخون “لا! هذه الأرض أرضنا لن نتخلى عنها وان تحولت رماداً. فبالرماد أحياناً نبعث بلادنا! فكأنهم يرّدون على مقولة الأسد “الخيانية” وعلى منطق الفرس بكل ما أوتوا من أرماق وتضحيات. انه ايمانهم بوطنهم هو الذي وفّر لهم انتصارهم الأخير الذي نتمنى ان يحافظوا عليه. الإيمان بالوطن هو السلاح الأمضى. وهنا تكمن “معجزة الشعوب المنكوبة، المغلوبة على أمرها: الصمود! أو ليس هذا ما فعله الربيع اللبناني عندما رفع مستوى الإيمان بالوطن وقيمه وتاريخه وسيادته إلى ما يجعله “معجزة”: ثورة 14 آذار طردت الوصاية السورية واذلت قواتها وجيشها بقوة الناس لا بقوة السلاح. وهنا بالذات يمكن الرد على عنجهية حزب إيران الذي يستقوي بالخارج الفارسي ليحتل لبنان بطريقة أو أخرى.

فمنطق الأسد سقط في سوريا.. طبعاً، وسقط في لبنان. فالبلدان ليست لمن يحتلها ويرهبها ويذلها ويصادر إرادتها. هنا بالذات، تأتي المقاومة المدنية بكل مرونتها الرمزية “العنيفة” لترد ارهاب السلاح. وما انتفاضة 14 آذار إلا لتدحض ما أراد فرضه حزب ايران من أن لبنان لمن يدافع عنه بسلاحها. بل وان “هاجس” جعل لبنان ولاية “فقهية” (والذي يصب بمنطوق الأسد) يتهاوى ويتفكك حتى في المناطق التي جعلها السيد حسن نصرالله إيرانية. والغريب أن نصرالله، الذي يتكبد في سوريا هزائم وخسائر لم يفهم حتى الآن سر الشعوب العربية وغير العربية. والحسابات التي أجراها بعد اغتيال الحريري، بأن السّنة قوم لا ينتفضون جاءت مخيبة له. فسوريا قلبت حساباته رأساً على عقب: وها هو الحزب من لاعب “رئيسي” في سوريا لينفذ مآرب ايران الإسرائيلية إلى لاعب ثانوي، يلهث وراء الوجود الروسي الذي خطف دوره ودور إيران. وكذلك في اليمن والبحرين والكويت والسعودية وظنهم بأن هذه الأخيرة لا تجيد الحروب أو الدفاع أو الرد، قد خاب بعدما توهموا انهم يسرحون ويمرحون ويعيثون فساداً في العالم العربي.

النخاسون

اليوم، وعلى الرغم من كل شيء، فإن العرب والمسلمون السنة، استدركوا، وانتفضوا وقالوا للأسد وأربابه الفرس والروس: “لا ليست الأرض لمن يحتلها أو ينتهكها”. وعلى الرغم من الاعتداد الإيراني والاستعلاء الأجوف تأكد هؤلاء ان فكرتهم عن العرب والمسلمين ضّلت وضلّت معهم بوصلتهم. ولقائل ان البلد الفارسي بات موجوداً داخل المنطقة العربية كالسرطان، ربما هو السرطان وأكثر لكن وجوده بات ككابوس في “ليلة صيف”… ولا أظن ان أحداً تمكن من الانتصار على أرض الشعوب الأخرى. فالأرض غالبة.

وإذا اردنا مقاربة تلك الرؤى اللوناتيكية لكل الطغاة بأن الشعوب ليست “كائنات” بل مكونات من تركيبها. وليست على وعي كاف، بل نحن من نرسم لها غيابها، وليست على وجود بل مجرد “أشياء” بدون مضمون، ولا تاريخ ولا مكان ولا زمان ولا حضور، فإن هذا المنطق التشييئي بدا فهماً مقلوباً. فالناس، عرفت أن وجودها لا يكون إلاّ بنزع الصفة الاستيهامية عنه ووعي شروطها وتحديد اختياراتها مهما استغرقت هذه العملية من وقت.

“سوريا لمن يدافع عن الأسد” تعني سوريا مجموعة أدوات غيبية، غافلة، قابلة لاتخاذ كل الأشكال التي تحضر فيها جامدة، ساكنة، اليفة كالنبات، والخضوع والنقل لا تمتلك هوياتها ولا كائنها ولا قسماتها ولا جذورها ولا تمردها ولا مصيرها!

سوريا لمن يدافع عنها، لا تعني سوى ان الأسد نفسه صاحب هذه المقولة “الالغائية” هو الملغى، وهو الذي صار من تفاصيل الأشياء المنقطعة عن الحياة وعن الوجود…

ذلك ان بشار بات من “مكونات” من استدعاه ليحافظ على وجوده.

فوجوده بات جزءاً من وجود الآخرين: أي اللاوجود في أقصى غيابه! وجماده ولاجدواه…

فالذين ظنوا ان سوريا وشعبها وارضها مجرد بضاعة للبيع في اوكازيونات…. مفتوحة تحول نفسه بضاعة كاسدة!

انهم النخَّاسون باعة العبيد والجواري في سوق الرقيق. فشعوبهم مجرد بضاعة يعرضونها للقتلة أو للتجار كما في الزمن السابق أو الحديث: الاستعمار تعامل مع “المستعمَرين” كمواد وأشياء وامتعة يرمونهم في البحر اذا زادت الحمولة في السفن. تطور الأمر اليوم مع الطغاة وخصوصاً مع الأسد الذي يبيع شعبه فقط لتجار الرقيق.. دائما أرضه للمحتلين لقاء بقائه في السلطة: فنخاس إيران لا يختلف عن نخاس اسرائيل أو سوريا أو روسيا!

انه حقاً زمن النخَّاسين!