IMLebanon

أزمة الحريري في عكّار: وجوه متعددة لمشروع واحد

 

saad-hariri

 

كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:

التفاصيل العكارية كثيرة: مسؤول أساسيّ حرد إثر وقف تيار المستقبل المساعدات التعليمية لأبنائه بعدما غيّر مدارسهم ومكان إقامته، قبل أن يقطع المستقبل الحبل به. مسؤول آخر استقال من وظيفته في شركة كبيرة مطمئناً إلى مستقبله الماليّ في التيار.

آخرون انتظروا دعماً معنوياً ومالياً في الانتخابات البلدية، لكن لا الأموال أتت ولا منسق تيار المستقبل أحمد الحريري. أجندة النشاطات توحي بتحويل المستقبل ترخيصه من جمعية سياسية إلى جمعية كشفية وناد رياضي. لا تكاد تمر ثلاثة أشهر على تعيين مسؤول مستقبليّ حتى ينضم إلى «قائمة الفاشلين» الطويلة. وفي ظل الأوضاع المالية والخدماتية الحالية، ما عاد أحد ممن كانوا يتسابقون على المناصب يريد تحمل أي مسؤولية تسوِّد وجهه مع أهل منطقته.

من بلدة إلى أخرى، عبثاً تبحث عن ناشط واحد لا يزال يفيض حماسة أو يتعامل مع الحريري كإله لا يخطئ. لكن الانهيار الحالي ليس آخر الدينا بالنسبة إلى تيار المستقبل. فأحد مسؤوليه الحاليين كان شيوعياً في السابق، وهو يرى التاريخ يكرر نفسه معه: حين انهار الاتحاد السوفياتي، توقف الدعم الماليّ للحزب الشيوعي اللبناني والمنح التعليمية والمساعدات الاستشفائية وغيرها. لكن لو عاودت روسيا، أو أي دولة أخرى، ضخ الأموال في الحزب الشيوعي بعد أربع أو خمس سنوات لكان في وسعه استعادة الجزء الأكبر من نفوذه الكبير السابق. فتيار المستقبل أطفأ معظم محركاته العكارية قبل أربع أو خمس سنوات. لكن أحداً لم يتحرك في المقابل أو يسعى إلى بناء تنظيم جديد فوق أنقاضه. ولا شك، في هذا السياق، أن حجم طرابلس الصغير يسمح للواء أشرف ريفي بالحلول محل المستقبل، فيما حجم عكار الشاسع يصعّب مهمة النائب خالد ضاهر الذي استقطب معظم اللاعبين الأساسيين في ماكينة المستقبل، وخصوصاً في منطقة القيطع. لكن تكريس نفوذه في كل عكار يتطلب مالاً وخدمات وقدرات يصعب تأمينها. ويشير أحد المتابعين إلى أن عكار والمنية والضنية أقرب إلى ريفي من البقاع طبعاً، لكنه يبحث بجدية أكبر عما يمكنه فعله في البقاع الأوسط والغربي لأن عدد الناخبين أقل بكثير من الشمال وفعاليتهم أكبر في المعادلة السياسية. وبعيداً عن ضاهر، يبدو واضحاً أن حال خصوم المستقبل أسوأ من حاله، فقد انحنى وجيه البعريني ومخايل الضاهر للعاصفة قبل عشر سنوات، إلا أن الانحناءة أعجبتهم فآثروا مواصلتها، علّ الحريري يضطر إلى الاستعانة بهم لكسر خالد ضاهر كما فعل مع الرئيس نجيب ميقاتي في مواجهة ريفي، علماً بأن الحديث في منازل هؤلاء يصل سريعاً أيضاً إلى ما تريده المملكة.

يشغل موقف المملكة بال الجميع؛ عين المستقبليين عليها طمعاً برواتبهم وعودة الخدمات. عين الخصوم السابقين عليها أملاً بإلزام الحريري باستيعاب جميع مكونات الطائفة، وعين الخصوم الجدد عليها لمعرفتهم بأن خطوط إمدادهم تمر جميعها بالرياض. ولا شك، يضيف أحد النواب الشماليين، أن عين حزب الله وحلفائه على المملكة أيضاً لمعرفة إن كان قد آن أوان طي الصفحة الحريرية بالكامل أو من شأن ذلك استفزاز المملكة مجدداً. فالحريري خيب آمال السعودية، يتابع المصدر نفسه، لكن من يستثمر في مشروع لا يعمد إلى تدميره حين يعجز عن جني الأرباح منه. وبالانتقال من منزل سياسي إلى آخر، يبدو واضحاً أن لا أحد يشك اليوم بأن المملكة تعيد النظر بخطة عملها السابقة في لبنان، لكن لا أحد يصدق أنها ستنسحب بالكامل، وخصوصاً أنها خسرت الدور الكبير الذي أعطي لها قبل بضع سنوات في الأزمتين السورية والعراقية وبات اسمها يرتبط فقط بتمويل المجموعات التكفيرية أولاً، وثانياً فشلها الأخلاقيّ والعسكريّ في اليمن، علماً بأن حالة الانتظار تنهك المستثمرين الذين هدّت فوائد القروض المصرفية قواهم. لكن المقربين من الحريري يجزمون أنه أكثر من أنهكه الانتظار المرتبط بمستقبله الماليّ والسياسيّ ومستقبل آلاف العائلات المرتبطة به. ومن يتحدثون عن «لبننة الحل» و»استقلالية الحريري» وغيره لا يفهمون شيئاً من شيء، يقول أحد نواب بيروت الحريريين. فأساس النفوذ السعودي في البلد يرتبط بمجموعة عقود طويلة الأمد بين المقاولين اللبنانيين والإدارات الرسمية السعودية. وحسم الحريري قرار المضي قدماً في حياته السياسية بمعزل عن التوجيهات السعودية يعني إنهاءه بنفسه كل عقود العمل بين المملكة وشركاته وخسارته الديون المترتبة على المملكة في ذمته، علماً بأن الحريري حرص عند تقاسم إرث والده مع أشقائه على الفوز بتركة والده السعودية وإعطائهم معظم الشركات العاملة في عواصم أخرى. وهو استكشف خلال الأشهر القليلة الماضية ما يمكنه فعله سواء في قطر أو تونس أو تركيا أو الأردن وعاد خائباً. ويرى النائب البيروتيّ وجوب التذكير بأن رئاسة الحكومة هي مجرد وسيلة حريرية لتوسعة الأعمال، لا غاية في حد ذاتها، وعليه فإن الأعمال تأتي أولاً سواء في السعودية أو في حمص أو في طهران ورئاسة الحكومة ثانياً. ولا بدّ هنا من التوضيح أن أرباح الصفقات المحلية المختلفة وجميع تلزيمات الوزارات اللبنانية التي يسعى البعض إلى ترغيب الحريري بواسطتها لا تتجاوز أرباح مشروع كبير واحد تديره «سعودي أوجيه» في المملكة.

بالعودة إلى عكار، ثمة مشكلة حريرية لكن لا أزمة أو كارثة. فالتوزيع الاستخباري الذكي للأدوار بين الحريري وريفي وضاهر ضبط إيقاع الجمهور، فما كاد أحدهم يخرج من الباب الحريريّ حتى يعود إلى الصالون نفسه من شباك ريفي أو غيره. استبدل المستقبل مسؤولين لم يسمع أحد بأسمائهم من قبل بمسؤولين جدد لم يسمع أحد بأسمائهم أيضاً، علماً بأن الانتقال من ضفة الحريري إلى ضفة ريفي أو ضاهر لا يعني شيئاً طالماً أن الحريري وريفي وجهان لمشروع وهابيّ واحد، وإكمال مسرحيتهما بلقاء مصارحة ومصالحة وارد في أي لحظة. من كان يفترض به الاستفادة من التراجع الحريريّ لم يستفد، وقد حرصت المملكة عبر حمايتها خطوط إمداد ريفي وشركائه في المناطق على عدم خسارتها شيئاً، مهما كانت مدة معاقبتها للحريري.