IMLebanon

الأوروبيون يستلهمون أسلحة “النموذج اللبناني”

germany-refugees

 

 

كتب وسيم ابراهيم في صحيفة “السفير”:

صار اللاجئون ملعباً سياسياً بامتياز في أوروبا، خصوصاً على أبواب موسم الانتخابات في دول مهمّة بالنسبة للقضية. لم يعد الأمر يقتصر على أحزاب اليمين المتطرف، فالأحزاب التقليدية تسعى جاهدةً إلى تقليل مكاسب خصمها الشرس، لكن أيضاً بالمزايدة في المستوى نفسه. بوسعهم أيضاً التشدد تجاه قضية اللاجئين، ما جعل الأمر، بطرق مختلفة، تنافساً على مَن هو صاحب القلب الأكثر قساوة.

حينما كان مسؤول أوروبي، معني بالقضية، يستعرض هذه المعارك، أقرّ بأن المسألة لم تعد تتعلق فقط ببعدها الانتخابي، موضحاً خلال حديث مع «السفير» أن هناك «اتجاهاً متنامياً» لتحويل اللاجئين أيضاً إلى أداة مشاحنات عابرة للدول. الخلاصة التي ينقلها هي أن دولاً أوروبية باتت تقتدي بالنموذج اللبناني للتعامل مع اللاجئين، لتقوم بتطويره بعيداً عن ظروفه، وبلا مجال للمقارنة بين «الأعباء».

ما يحدث مع اليونان يبدو المثال الفاقع على سياسة استخدام اللاجئين كصندوق بريد أسود. قبل أيام، اعتبرت الحكومة اليونانية أن مديح برلين لها، وتبشيرها بتحسن أوضاع اللاجئين هناك، ليس أقل من إهانة. انزعجت أثينا وانتقدت بشدّة وزير الداخلية الألماني توماس دو ميزير، المكلّف أخيراً شؤون الحزب مع حزب «البديل لألمانيا»، حينما أعلن أن الأوروبيين قدموا لليونان مساعدات معتبرة قادرة على تحسين أوضاع اللاجئين في النهاية.

لكن بيت القصيد ليس هنا. الهدف من تفاؤله باليونان كان طرح خطط لإعادة إرسال اللاجئين إليها، ما دامت الظروف هناك ستكون حكماً، برأيه، أفضل. تلك الخطط المزمعة تستند إلى اتفاقية دبلن، التي كانت ألمانيا جمَّدتها مع بداية التدفقات قبل أن تعيد العمل بها أخيراً. ووفق الاتفاقية، ينبغي على اللاجئين تقديم طلبات الحماية في أول بلد أوروبي يدخلونه، وفي حال انتقلوا إلى بلد آخر يصير ممكناً إعادتهم إلى بلد الوصول الأول.

عملياً، حصلت اليونان بالفعل على مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي لتحسين ظروف استضافة اللاجئين. مئات ملايين اليورو تمّ إقرارها على دفعات لهذا الغرض، آخرها 115 مليون يورو أعلنت يوم الإثنين. كان الهدف إنشاء مراكز تسجيل فعالة لآلاف المتدفقين يومياً، حينما كانت تركيا لا تزال تفتح بواباتها. لكن بعد الصفقة مع أنقرة صارت المهمة الرئيسية توفير الحاجات الأساسية لأكثر من خمسين ألف لاجئ علقوا في اليونان بعد إغلاق طريق البلقان.

مرت أشهر ولم تشهد مخيمات رسمية شمال اليونان، بعد إزالة مخيم «أيدوميني» العشوائي مع مقدونيا، تحسينات يمكنها لجم الانتقادات الكثيرة التي وجهتها منظمات حقوقية دولية. تحولت تلك المخيمات بامتياز إلى مراكز احتجاز، تحرسها قوات الشرطة والجيش، ليعيش الآلاف في ظروف تعيسة داخل مخازن ليست مجهزة للاستخدام الإنساني. النتيجة العملية واضحة: كل شيء إلا أن يحسّ اللاجئون، أو يُقال عنهم، إنهم يعيشون ظروف حياة جيدة. إبقاء النقص، قسوة المعيشة والسكن، كانا حافزاً دائماً للمغادرة، إضافة لاستخدام ذلك إعلاناً سلبياً يردع من يفكّر بسلوك الطريق نفسها.

الأموال موجودة، أعداد اللاجئين ليست خيالية، مرت أشهر، لكن الأحوال على سوئها، يزيد أو ينقص. سألت «السفير» المفوض الأوروبي المسؤول عن المساعدة الإنسانية كريستوس ستيليانيدس عن القضية، فأقرّ بوجود تقصير: «بالطبع نعرف جيداً أن الكثير من الأمور يمكن أن تتغير من أجل تحسين الوضع، لكن جهودنا ومحاولاتنا تركز على هذا الهدف، وأنا متفائل بالنسبة لتحسين أوضاع اللاجئين في اليونان، كما أني متأكد أن لدينا الأدوات لذلك».

لكن الأدوات ذاتها كانت موجودة سابقاً، مع عبارات حسن التعاون ذاتها مع حكومة أثينا. هناك من يقول إنهم ينسخون «النموذج اللبناني» لجهة الأدوات، بمعنى «لا تتركه يرتاح كي لا يفكر بالاستقرار» (سياسة «رفض التوطين»)؟ يرتبك المفوض الأوروبي، ليرد باقتضاب محرَجًا: «ليس من الجيد بالنسبة لي أن أعقد مقارنات في هذا السياق».

قياساً بأهدافها السياسية المعلنة، يصير تحسين أوضاع اللاجئين ليس في مصلحة حكومة اليونان. هناك خلافات جوهرية مع دول أوروبية عديدة. المشكلة الأولى تتعلق برفض تلك الدول أي مساهمة في برنامج توزيع اللاجئين من اليونان، وإيطاليا، وفق نظام الحصص. تلك الجبهة المتعنتة ترفض أيضاً تغيير نظام دبلن، لنقل مسؤولية استقبال اللاجئين من دولة الوصول إلى آلية توزيع دائمة. إبقاء الظروف سيئة يبقى عامل ضغط لمنع دفن نظام الحصص. فوق ذلك، لو فكرت ألمانيا أو غيرها بإعادة لاجئين إلى اليونان، سيمكنهم اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية لرفض ذلك، على اعتبار أن ظروف الاستضافة سيئة، وهذا ما حصل في سنوات سابقة.

يختصر كل تلك السياسة ما كرره مسؤولون يونانيون، على رأسهم رئيس الوزراء اليكسيس تسيبراس، من أنهم يرفضون أن تتحول بلادهم إلى «مستودع للأرواح… لبنان أوروبا». بمعنى آخر، لن يقبلوا أن تتحول بلادهم إلى دولة لجوء حتى لو موّلتها دول أوروبية أخرى. المسألة ليست مجرد هاجس، فالحكومة النمساوية طرحت سابقاً فكرةً رأتها قابلة للتنفيذ، لتحويل جزر يونانية غير مأهولة إلى مستوطنات لجوء تغني أوروبا عن خدمات تركيا.

حكومات أوروبية عديدة شاركت أيضاً في تغذية نسخ النموذج اللبناني في اليونان. امتنعت عن تنفيذ تعهداتها بمساعدة أثينا، للمزايدة المحلية بتشددها تجاه القضية برمتها، حينما كانت التدفقات في أوجها. اتفق الأوروبيون حينها على إرسال الدعم اللوجستي اللازم للسيطرة على التدفق، لمعرفة كل من يصل لاعتبارات أمنية أيضاً، لكن لم يتم إرسال سوى قسم ضئيل من آلات التدقيق والمترجمين وموظفي الهجرة اللازمين للمهمة (من أصل 400 خبير وصل فقط 19 بحسب أثينا).

لكن النسخ المشوه لأدوات تطبيق «الحل اللبناني» لا يقتصر على اليونان. دول أخرى تستلهمه بطرق مختلفة. ألمانيا باتت تعيد يومياً ما يقارب مئة لاجئ إلى النمسا، لتبلغ أعداد من أُجبروا على سلوك طريق الإياب نحو 12 ألف لاجئ، منذ بداية العام حتى نهاية تموز الماضي. بدورها، تهدد النمسا حكومة المجر الجارة بأنها ستلجأ إلى المحاكم إذا واصلت رفض استعادة اللاجئين الذين انطلقوا منها.

كلا البلدين يتنافسان الآن في سياسات الصدّ، ولديهما استحقاقان سيقامان قريباً: ستعاد انتخابات الرئاسة النمساوية، مع حظوظ قوية لمرشح اليمين المتطرف، في حين تقيم المجر استفتاءً سيرفض فيه، على الأرجح، نظام الحصص الأوروبي لتقاسم اللاجئين.

لا تتوقف المطالبات لأوروبا بتحمّل مسؤولية جدية. أحد مرددي ذلك ديفيد ميليباند، رئيس «لجنة الإنقاذ الدولية» والرئيس السابق لحزب العمال البريطاني. منظمته غير الحكومية باتت تدير برامج في لبنان والأردن، لكن أيضاً في اليونان. قال إنه لم يتخيّل إرسال دعم إغاثي لها، كدولة في أكبر تكتل اقتصادي في العالم. يردد أنه يدرك الفرق الشاسع بين وضع لبنان ووضع أي دولة أوروبية، الفرق بين أن تكون نسبة اللاجئين ربع السكان، وبين أن تكون أقل من واحد في المئة لتشمل جميع الواصلين إلى الاتحاد الأوروبي خلال ما اعتبره «أزمة اللاجئين».

حينما سألت «السفير» مليباند، قال إنه لا يتفق مع المقارنة، مفضلاً الإيضاح المسهب: «نحن ندير عمليات في اليونان وكذلك لبنان. أعتقد أن اليونان خلال أربع أو خمس سنوات حاولت حثّ أوروبا على تحمل المسؤولية بالنسبة لأعداد اللاجئين، ولم يكن هناك اهتمام كبير، لذلك كان علينا أن ننشر فرقاً هناك، لكن لا أعتقد أن الناس تُركوا في أوضاع صعبة لعدم تشجيعهم».

ديبلوماسية متوقعة من مدير منظمة، غير حكومية، تعنيه حكماً مواصلة العمل، والحصول على التبرعات، في لبنان ومن أوروبا. مع ذلك، لم يتمكن من إخفاء الإرقام. سجل أوروبا سلبي جداً. الأمم المتحدة ضربت وطرحت، مجربة الخروج بسياسة «واقعية». النتيجة: حصة أوروبا من إعادة توطين اللاجئين الأكثر ضعفاً، في العالم، بلغت نحو مئة ألف سنويا، لبرنامج على خمس سنوات، لكن الدول الأوروبية لم تقم بإعادة توطين سوى ثمانية آلاف لاجئ.

السياسات إلى مزيد من التشدد. الضغط على دول «اللجوء» و «العبور» سيتواصل، مع ربط أوروبا مستوى الشراكات، والمساعدات المالية، بصدّ اللاجئين عن قارة الحريات والحقوق. اتفاقيات «خزانات اللجوء» المزمعة تشمل دولاً في الشرق الأوسط وأفريقيا. حكومة لبنان تحاول تحصين سياسة «منع التوطين»، بوضع «صمام أمان» ما تسميه مسودة اتفاقية الشراكة المرتقبة وملحقها «العودة الآمنة» للاجئين السوريين، مقابل تسهيلات مضبوطة بالنسبة لظروف العمل والحياة.

القوة الأوروبية المشتركة التي يجري إتمام تشكيلها، لحرس الحدود وخفر السواحل، مرشحة لأن تكون وكالة ترحيل للاجئين الواصلين، آلاف المرفوضين. آلية تطلبها اليونان أيضا لأنها تنوء تحت أعباء الترحيل. كل هذا الصدّ يجعل مخاطرة اللاجئين أكبر، عمل المهربين أغلى، فبعد إغلاق طريق البلقان يبحث العالقون عن طرق بديلة، كما أن طريق المتوسط من ليبيا عاد إلى الازدهار رغم حراسة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.