IMLebanon

جنبلاط: عون يفتقد المبادرة عكس جعجع

 

walid-jumblatt

 

 

كتب المحرر السياسي في صحيفة “السفير”:

إنه موسم الشح. للمرة الأولى منذ عقود طويلة، ينحسر النبع الآتي من الباروك إلى قصر المختارة. لا يقتصر «التصحر» على الطبيعة، بل يتسلل إلى كل مفاصل البلد.

لا يخفي وليد جنبلاط حقيقة أنه يختبئ هذه المرة في معقله السياسي. جاءه التهديد أولا من «خليفة المسلمين» أبو بكر البغدادي. يردد ضاحكا: «كنا بغنى عن هذا الموضوع أن يحلم بنا أبو بكر البغدادي».

التهديد الثاني متعدد الأبعاد. اللبناني يوسف فخر الملقب بـ «الكاوبوي». الاشتراكي السابق. الأميركي الجنسية. العميل الإسرائيلي. المتصل بالمعارضة السورية. صاحب القنوات غير المباشرة مع المخابرات السورية. تقاطع يجعل جنبلاط حائرا في التفسير. كيف تقاطعت هذه وتلك على استهدافه؟ التقاء مصالح ومتضررين وحسابات سياسية وأمنية وشخصية وغيرها جعلت منه هدفا. «إنها قصة غريبة عجيبة فعلا». التهديدان استوجبا السفر لفترة قصيرة ومن ثم الإقامة لفترة طويلة في المختارة.

لم تعد استقبالات وليد جنبلاط في «القصر» هي الحدث. الأولوية لتيمور. يستقبل نجله في نهاية كل أسبوع الوفود الآتية من الجبل ومناطق لبنانية كثيرة. المطالب اجتماعية وخدماتية. يحيط به في أغلب الأحيان شقيقه أصلان الذي يتميز باندفاعه نحو الناس والعلاقات الاجتماعية. لا تفارق عينا داليا كل ما يجري من تفاصيل واستقبالات. تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن جدتها لوالدها الست مي إرسلان، وهي تبدو إلى حد كبير مؤهلة للعب الدور التصويبي والتوجيهي نفسه.

أما تيمور، فما زال مترددا. يقوم بدوره كأنه مجرد «واجب». حقق الشاب قفزة كبيرة، لكنه يوحي لوالده والمحيطين به أحيانا أنه يرغب بأشياء عكس تلك التي يقوم بها. يريد أن يصنع شخصيته بمعزل عما يرسم له غيره من «أدوار». هو في ذلك يشبه إلى حد كبير والده الذي لطالما كان متمردا على والده كمال جنبلاط، مع فارق جوهري متصل بالظرف والزمان.

نشأ وليد جنبلاط في زمن كانت فيه قضايا كثيرة. العروبة. فلسطين. الحركة الوطنية. الثورة الفلسطينية. عندما فرض عليه الدم أن يبكّر في ارتداء عباءة الزعامة، قرر أن لا يشبه أحدا إلا نفسه. غرف من «الجنبلاطية التاريخية» وحاول دائما أن يضيف إليها شيئا من ثقافته الخاصة. هذه «النكهة الخاصة» هي المطلوبة من تيمور. بينها أن تكون له تعبيراته ومحاولة صياغة موقف في لحظة ما. أن لا يكتفي بإزاحة عبء الاستقبالات والواجبات عن والده. بهذا المعنى، ثمة «صوت سياسي» لا بد أن يسمعه الناس.. وعسى ألا يتأخر تيمور في التجاوب مع إلحاح والده ومعظم المحيطين به.

تصحّر وتدمير ذاتي

عندما يتحدث جنبلاط عن الفارق في الزمان والظرف، يقول «سنكرّم غدا (اليوم) في طرابلس «أبو راشد» (توفيق سلطان). القامة الشمالية واللبنانية والعربية. بالأمس، رحل المناضل الشيوعي جورج بطل وهو من رعيل كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي».

يشرح أسباب إقامة مسجد باسم شكيب إرسلان في المختارة، بكل ما تعنيه رمزية هذا الرجل إسلاميا وعربيا. «عليك أن تحافظ على ما تبقى من وجودك. والأهم هو التذكير بالتراث العربي والإسلامي العريض الذي يشكل الدروز جزءاً منه. نعم، أنا خائف من المستقبل. هناك تصحر وتدمير ذاتي لكل شيء اسمه عروبة وفلسطين وقضايا وطنية وقومية مشتركة. بدل السوق العربية المشتركة صارت هناك أسواق لبعض الدول، وبدل الوحدة العربية نذهب إلى التشرذم والتفتيت. كنا نتحدث عن حركة عدم انحياز وكان هناك معسكر غربي ومعسكر شرقي واليوم هناك فوضى دولية وإقليمية».

يستعيد جنبلاط أسماء قادة دوليين وإقليميين ومسلمين وعرب ولبنانيين سابقا. يقارنهم بالحاليين. يترحم على تلك الأيام الغابرة. تصوروا حتى في عز زمن الحرب الأهلية كانت هناك دولة في لبنان. في الجبل كانت الناس تلجأ للدرك والدولة برغم وجود إدارة مدنية. لم نكن نعيش في حالة فوضى. حتى في زمن الوصاية السورية كان الوضع أفضل. كان الجميع يقيم وزنا للدولة ومؤسساتها. كان السوري مطبقا بالسياسة والأمن على البلد، لكن لم نصل إلى هذه الدرجة من التردي والفساد والفراغ. ضوابط الحد الأدنى للهدر والسرقات باتت مفتقدة. هناك فجور غير مسبوق.

شكرا للأمن.. والليرة

يستثني جنبلاط الأمن في لبنان من تلك الصورة السوداوية المتصحرة. يشيد بإنجازات الجيش اللبناني الأمنية وآخرها إلقاء القبض على أمير «داعش» في عين الحلوة عماد ياسين. «حتى التنسيق والتعاون بين الأجهزة الأمنية موجود أقله لمحاربة الإرهاب، وهذه نقطة جيدة ويجب أن تستمر». الموقف الجنبلاطي من الفراغ في المؤسسة العسكرية يتطابق إلى حد كبير مع موقف الرئيس نبيه بري، بالقول «هذا خط أحمر، ويجب ألا يكون هناك شغور، وفي الوقت نفسه، لا بد من قرار واضح بتعيين رئيس أركان جديد».

وكما استثنى الأمن، يقارب جنبلاط بإيجابية دور مصرف لبنان بالحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي، حتى الهندسات المالية الأخيرة، لا يراها إلا من منظور التحصين وشراء الوقت الإضافي.

لذلك، يردد جنبلاط ضرورة أن نسارع إلى تخفيف الضغط على الأمن والليرة من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية. أقله يؤدي وجود رئيس إلى تحريك الوضع وإحداث صدمة إيجابية للبلد وإعادة فتح المؤسسات من دون استثناء. وبرغم «فسحة الأمل»، يعتقد جنبلاط أن الرئاسة مؤجلة وفق معطيات اللحظة الراهنة، خصوصا أن لا أحد في الخارج «فاضي لنا». حاول الفرنسي مساعدتنا. قامت باريس بثلاث مبادرات، الأولى عند إرسال السفير جيرو إلى طهران والثانية مع زيارة الرئيس فرنسوا هولاند إلى بيروت والثالثة تتمثل بإرسال وزير خارجية فرنسا جان مارك إيرولت إلى بيروت. حاول الفرنسيون التواصل مع عواصم أخرى لإحداث خرق رئاسي. هم منشغلون بأمورهم الداخلية وتحديدا مواجهة خطر الإرهاب وتحديات أخرى تواجههم وكل أوروبا وخصوصا قضية اللجوء.

دليل التطرف السياسي

يحترم رئيس «الاشتراكي» خيار «حزب الله» بالتمسك بترشيح ميشال عون علناً. لا يدري إذا كان المضمر شيئا آخر، لكنه يعتقد أن للرئيس نبيه بري موقفا مغايرا وصارح به العماد عون. يحرص على إيجاد صيغ توفيقية مع حليفه الرئيس سعد الحريري، ويأمل أن تكون خيارات الأخير قادرة على حماية ما تبقى من رصيده، خصوصا في ظل تخمة الراغبين بوراثته ضمن «تيار المستقبل»، ممن يحاولون المزايدة عليه في شارعه واختراع حيثيات من خلال الخطاب المتطرف.

ثمة تقدير في المختارة بأن أي بديل لسعد الحريري سيكون بديلا متطرفا، وبالتالي، يجد أن هناك مصلحة وطنية عند كل القوى، بما فيها «حزب الله»، بحماية خيار الاعتدال الذي يمثله زعيم «تيار المستقبل»، وإلا يصبح الدليل السياسي: «بدك تصير وزير أو نائب سني. بدك تربح مخترة أو بلدية، عليك أن تعتمد خطاب أشرف ريفي.. أو خالد ضاهر أو ما شابه»!

يميّز جنبلاط موقفه عن موقف «صديقه وحليفه» نبيه بري في ما خص «الجنرال». قد يكون الصديق المشترك جان عبيد هو الخيار الرئاسي المثالي لـ «دولة الرئيس»، ولكن في ظل الاستقطاب الماروني الحالي، تبدو حظوظ عبيد صعبة إن لم تكن مستحيلة.

مقاربته لا تغادر حقيقة أن كلا من ميشال عون وسمير جعجع يملكان تأثيرا وحضورا وازنين في جبل لبنان، الأمر الذي لا ينطبق على المرشح سليمان فرنجية، «برغم احترامي لموقعه وكلمته».

تفاهم معراب خلط كل الأوراق

لا يخفي الرجل عتبه على «الجنرال» لأنه يفتقد عنصر المبادرة، خصوصا أن جنبلاط قام بمبادرات متعددة نحو الرابية، بينما يبدو سمير جعجع أكثر فاعلية وحركية ومبادرة. لا شك بأن تفاهم معراب بين عون وجعجع أدى إلى خلط الأوراق. هذا التفاهم شبيه بتفاهم مار مخايل بين «حزب الله» و «التيار الوطني الحر». لذلك، يمكن القول إنه ما بعد تفاهم عون ـ جعجع ليس كما قبله، وهما غيّرا المعادلة، هناك حالات مثل سيرج طور سركيسيان الذي يحاول التحرر، كما غيره من نواب مسيحيين، من الحريري، وبالتالي التقرب من تفاهم جعجع وعون..

يقول جنبلاط إن تمسك الرئيس نبيه بري بالحوار الوطني لا ينبع من الفراغ، «فالرجل يؤكد في كل جلسة على الطائف، ربما لأنه بات مدركا أن واقعا معينا لا بد أن يتغير في يوم من الأيام.. لا أدري كيف يقارب البعض من المسيحيين المسألة، لكن أخشى ما أخشاه أن يؤدي مسار بعض الطروحات إلى أخذ المسيحيين إلى المثالثة بدل المناصفة.. عندها قولوا لي من سيكون خاسرا غير المسيحي»؟

وإذا كان البعض يعتقد أن صيغة الطائف لم تعد قابلة للعيش، وهو مخطئ في ذلك، يقول جنبلاط، ما هو البديل؟ في الدوحة، كان هناك قرار غربي ودولي بانتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، وجاء اتفاق الدوحة، بفعل قوة دفع دولية وعربية.. «الآن ما حدا فاضيلنا، وإذا أطحنا الموجود، سيكون البديل هو المجهول، وأعتقد أن «حزب الله» هو أحرص من غيره على الاستقرار.. والنماذج التي تدل على ذلك كثيرة. نبيه بري يحاول التأكيد على الطائف، لكن بسبب المزايدات، لا أحد يريد سماع صوت العقل».

هرمنا.. وختيرنا

يتوقف جنبلاط أكثر من مرة عند تفاهم معراب. يطرح التفاهم المسيحي المستجد علامات استفهام كثيرة حول صورة التحالفات النيابية إذا اعتمد «قانون الستين» في الانتخابات النيابية المقبلة «سنكون حتما أمام مشهد انتخابي مختلف غير مسبوق».

يقول جنبلاط ضاحكا «هرمنا وختيرنا وصار لا بد من التغيير». بطبيعة الحال، سيترشح تيمور عن مقعد والده في الشوف. «أنا وعلاء الدين ترو وأكرم شهيب صرنا نوابا منذ انتخابات العام 1992. غازي العريضي صار نائبا بدءا من دورة 1996. التغيير صار ضروريا ولكن جنبلاط لا يستطيع حسم الأسماء منذ الآن». يأمل أن يكون لأيمن شقير حظاً في المقعد الدرزي في بعبدا (المتن الأعلى).

اللقاء ضروري مع «السيد» ولكن

للمناسبة، فإن قنوات التواصل والتنسيق مفتوحة بين «حزب الله» و«الاشتراكي» وثمة إطار قيادي وزاري ونيابي وحزبي دوري للتعاون في عدد من الملفات، وأنا ألتقي الحاج وفيق صفا دوريا ونتبادل من خلاله الرسائل بيني وبين السيد نصرالله. طبعا اللقاء الثنائي له معنى مختلف وربما يكون ضروريا ومهما ومفيدا في هذه المرحلة، ولكن أعتقد أن الظرف والتوقيت ليسا ناضجين في ظل احتدام الاشتباك السعودي ـ الإيراني.

يبدي جنبلاط قلقه مما يجري عند عتبة حاصبيا والعرقوب من جهة الحدود الشرقية مع سوريا، خصوصا في ظل الضخ الإسرائيلي لأجل افتعال فتنة درزية ـ سنية. يخشى كثيرا من الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي. الضخ من البعض من فلسطين، باتجاه الدروز في لبنان، لا بد أن يترك أثرا ما، برغم كل محاولات التحصين والتهدئة. صار جنبلاط متهيبا من دور «مواقع التدمير الاجتماعي». هذا ما يفسر إلى حد كبير تراجع حضوره «التويتري» في الآونة الأخيرة… عندما يُسأل عن السبب، يقول «إنها كذبة كبيرة»!

لا خطر على آل الأسد

وفق تقديرات جنبلاط، فإن الخطر على النظام في سوريا، وتحديدا على آل الأسد، في الوقت الحاضر ابتعد بعد ست سنوات من الحروب والتدخلات من كل حدب وصوب. الخطر من الجنوب انتفى، وكذلك من الشمال. لكن يبقى اللعب الإسرائيلي في جبل الشيخ ذا الأهمية الاستراتيجية القصوى. السؤال الذي ما زال مطروحا برأيه هو سؤال وحدة سوريا: هل يكون بشار حاكما لكل سوريا أو لسوريا المفيدة أو أكثر. ما هو مستقبل الأكراد؟

يستعرض أسماء المعارضين السوريين. من يعرفهم ومن لا يعرفهم. يقول إن معظم هؤلاء تبين أنهم لا يملكون حيثية على الأرض. يضحك ويروي واقعة حصلت بينه وبين مناف طلاس عندما غادر سوريا: «التقيته في عاصمة أوروبية. طرح رقما لضباط قال إنهم يوالونه في الجيش وسألني شو عندك ضباط دروز بالجيش السوري… وعندما أجبته على سؤاله، قال لي «ما تكشفهم رح نحتاجهم قريبا وقريبا جدا، عندما يسقط النظام»!».

غرب الفرات خط أحمر تركي

يسخر من كل شيء اسمه اتفاق أميركي ـ روسي، ويقول: مئات الاجتماعات منذ ست سنوات، أفضت إلى اتفاق حول معبر «الكاستيلو» وتمرير بعض قوافل المساعدات. هذه نكتة كبيرة. وضع الأتراك يدهم على جزء من الشمال السوري، بمساندة ما تبقى من «الجيش السوري الحر»، وعلى الأرجح بموافقة الروس والإيرانيين. دخلوا إلى جرابلس وقسم من الشمال السوري، الأمر الذي أدى إلى انسحاب تنظيم «داعش» من المنطقة، لاحقا قيل للأكراد ممنوع التمدد من شرق الفرات إلى غربه. هذا خط أحمر. لعبة أمم أخرى.

العلاقة واضحة بين اهتزاز ما يسمى الاتفاق الأميركي ـ الروسي والانتخابات الأميركية. هناك فريق موجود في أكثر من دائرة قرار لا يريد أي تفاهم قبل الانتخابات الرئاسية. «قد يصل الجنون إلى البيت الأبيض.. ويجب ألا تستبعدوا احتمال حروب جديدة، بما فيها حروب نووية محدودة، وسنترحم على باراك أوباما وكل من أتى قبله إلى الرئاسة في الولايات المتحدة».

«فيزا» أميركية لجنبلاط

يتوقع جنبلاط أن يبادر تيار فاعل حول ترامب، ومن ضمنه الأميركي من أصل لبناني وليد فارس، إلى إعادة فتح ملف التفاهم النووي. «هؤلاء من دعاة إعادة النظر بالتفاهم، وهذا المناخ موجود حتى عند بعض الديموقراطيين».

يقول إن الولايات المتحدة التي تدّعي أنها دولة المؤسسات الأولى في العالم «مقتلين فيها بعضهم البعض. الجمهوريون والديموقراطيون، وداخل كل حزب. صاروا أضرب منا بكل شي.. وخلافاتهم ترتد على سياستهم الخارجية بما فيها ملفات المنطقة وخصوصا سوريا».

أخيرا، أعطى الأميركيون وليد جنبلاط «فيزا» لمدة سنة. وفق روزنامته الأولية، سيتوجه إلى واشنطن في تشرين الثاني أو ربيع العام 2017.