IMLebanon

سماسرة تعليم السَوق… من هنا يبدأ الموت!

 

كتبت ناتالي إقليموس في صحيفة “الجمهورية”:

أبَت عائلة ربيع أن تهديَ ابنَها دفتر سَوق من دون أن يخضع للتدريب، على اعتبار “حياة الصبي بالدَق”. فتوجَّه الوالد وابنُه إلى أحد مكاتب تعليم القيادة الكائن على تخوم العاصمة بيروت، مستفسراً عن كلفة التدريب، فكان الجواب: “15 ألف ليرة بيَعملو دقَّين قدِّم ورجاع، ومنعطيه كرتونة عليا إشارتين”. لوهلةٍ ظنّ الوالد أنّه في “لونابارك”، فتقدّم بضعة أمتار واستفسر من مكتب آخر لا بل من رَجل يجلس في “كونتينر” أشبَه بتخشيبة، فجاءَه الجواب: “لشو يتعذّب عطيني إسمو، بخلّي يروح يمضي، ونحنا ويّاك منتحاسب”. ذُهل الوالد وعاد أدراجَه مُتمتماً: “هلقد روح العالم رخيصة”!

20 مليون ليرة باتت غرامة إفادة رخصة تعليم السوق المخالفة، التي لم يخضع فيها المتدرّب لعدد ساعات محدّدة أو لم يتعلم فيها كامل المنهج من إشارات وغيرها. غرامة يفرضها قانون السير الجديد على مكاتب تعليم القيادة التي باتت مُلزَمة أن تتحوّل إلى “مدرسة” تعليم القيادة.

“منذ أواخر العام 2015 توقّفنا عن إعطاء رخصة فتح مكتب تعليم القيادة”، توضِح المدير العام لهيئة إدارة السير المهندسة هدى سلوم لـ”الجمهورية”، وذلك “في انتظار أن تُصحّح المكاتبُ وضعَها وتستوفي شروط قانون السير الجديد، وهذا يستلزم الوقت، خصوصاً أنّ المادة 237 فرَضت على المدرّب أن ينال شهادة امتياز فنّي في اختصاص مرور صادرة عن المديرية العامة للتعليم المهني والتقني”.

أمّا بالنسبة إلى أصحاب مكاتب السَوق ما قبل القانون الجديد، فتجيب: “سيَخضعون إلى دورات تدريبية تأهيلية لصَقل كفاءتهم وتحويل مكاتبهم إلى مدرسة”.

100 من أصل 610!

يبلغ عدد الرخَص المسجّلة في نقابة أصحاب مكاتب تعليم قيادة السيارات في لبنان “610 رخَص، ولكنّ عدد المكاتب التي تُعلّم فعلياً القيادة 100 فقط”، بحسب النقيب عفيف عبود الذي يُعلّم السَوق منذ العام 1976.

يأسف عبود لتحوُّلِ هذه المهنة “شِغل اللي ما عندو شغل”، فيقول: “في الآونة الأخيرة بات كلّ مَن تَقاعد من عمله، أو سُدَّت أبواب التوظيف في وجهه يلجأ إلى تعليم القيادة، من دون أن يكون لديه أيّ خلفية عن قانون السير أو مبدأ الإشارات على أنواعها”.

ويقول لـ”الجمهورية”: “بلغَت ذروة فتحِ المكاتب بين العامين 2010 و2014، إذ كانت تعطى الرخصة بطريقة استنسابية، ويكفي لصاحب الرخصة أن يمتلك سيارتين وسجلاً عدلياً نظيفاً”. ويضيف: “صحيح أنّ القانون القديم سَمح لنا بفتح أكثر من مكتب ضمن المحافظة ذاتها والرخصة عينها، ولكن نادراً ما كانت تلك المكاتب تُدار بالمستوى المطلوب نفسه”.

أبعد من التعليم… السمسرة

من يراقب وتيرةَ التهافت إلى هيئة إدارة السير للحصول على رخصة مكتب تعليم السَوق أو للاستفسار عن شروطها، يعتقد لوهلة أنّ الجميع “أساتذة في القيادة”، ولكن في الحقيقة، الواقع مغاير، فيكشف عفيف نوايا هؤلاء، قائلاً: “يريدون الرخصة بابَ عبور للدخول إلى مصلحة تسجيل السيارات والسمسرة وتعقيب المعاملات، ونحن ضدّ هذه الفبركات، لا بدّ من إعادة الهيبة إلى تعليم السوق، نحن ضدّ الفوضى التي أعطيَت فيها الرخَص في الماضي، لأنّ تعليم القيادة “مِش مزحة”، إنّما يؤثّر في الحدّ من نسبة حوادث السير متى تعلّمَ السائق مبادئ القيادة”.

وعن التجاوزات بحقّ أصحاب المكاتب الحالية، يقول: “يصعب تعدادُها، منهم من يُبرز إيجاراً وهمياً، وآخر يكتفي بالإشارة إلى امتلاكه سيارتين “بآخِر عمرُن”. ويَلفت عبود إلى أنّ “عدد الذين تقدّموا لتجديد رخَصِهم بلغ 225 هذا العام، ولكن 20 في المئة، منهم لم يُجدَّد لهم لعدم امتلاكهم سيارات أو لعدم وجود مكتب فعلي”.

رغم المساعي التي تبذلها النقابة من خلال جولاتها المستمرّة على الأقضية والمحافظات من أجل تنظيم المهنة وتحسين خدماتها، لا يخفي عبود “أنّ البعض يعمل “من تحت الطاولة”، وأحياناً من دون عِلم صاحب المكتب، إذ يأتي سمسار يصطاد الطلّاب أو الشباب التوّاقين إلى تعلّم القيادة بدايةً، ثمّ يحدّد لهم مبلغاً معيّناً كلفة التدرّب والحصول على رخصة سَوق، ويتّجه السمسار إلى مكتب تعليم القيادة، “فيبيعه” طلب الراغب بتعلّمِ القيادة بعد أن أخذ حصّةً من المربَح… للأسف “مجال التزُعبُر كبير كتير”، في هذه المهنة”. ويضيف: “كلّما ابتعدنا عن المركز الرئيس في الدكوانة كثرَت المخالفات، وبحسب علاقة رئيس المكتب مع اللجنة الفاحصة تتيسّر الأمور”.

من 10 آلاف ليرة إلى 25 دولاراً

من المفارقات التي يشهدها مجال تعلّمِ السَوق، ليس فقط إجراء الفحص على مركبة “فيتاس” فيما الغالبية تقود “أوتوماتيك”، ولكنّ الاختلاف الكبير في كلفة ساعة التدريب على القيادة بين المناطق. إذ تبدأ من 10 آلاف، وأحياناً 5 آلاف لتصل إلى 25 و30 دولاراً.

وفي هذا السياق يؤكّد عبود أن لا رغبة للنقابة في توحيد التسعيرة، موضحاً: “مهنتُنا وظيفة حرّة، وبعض أصحاب المكاتب يهتمّون بمكاتبهم وبالطلّاب، إذ يقدّمون لهم الخدمات بأعلى مستوى، من حيث استقبالهم، والاتصال بهم، وتوفير سيارة لهم صالحة للسير… لذا فإنّ صاحب المكتب يتكبّد مصاريفَ متنوّعة بالإضافة إلى كلفة إيجار وفواتير الكهرباء، فيما زميله في المهنة ذاتها يمكن أن يكون قد استأجَر غرفة على السطح أو تخشيبة في شارعٍ ما، مِن دون تخصيص سكرتيرة ولا دفع فواتير، وسيارة “بالكاد بِتدور”، لذا لا يحتاج هذا المكتب لرفعِ كلفة التدريب فيُكاسِر بالسعر، وأحياناً مدّة التدريب لا تكون 60 دقيقة، ربّما أقلّ”. ويضيف: “متوسّط ساعة التدريب 25 دولار، ويتفاوَت السعر النهائي لدفتر السَوق بحسب ساعات التدريب، وقد يصل إلى 500 ألف”.

معدّل قتيلين يومياً

رغم التشدّد الذي تبديه أجهزة الدولة في تطبيق قانون السير على دفعات إلى حين التمكّن من تنفيذه مئة في المئة، بلغَ المعدّل اليومي لضحايا حوادث السير في أوّل شهرين من العام 2017 “قتيلين”، بحسب الخبير في إدارة السلامة المرورية كامل إبراهيم الذي يأبى أن يُحمّل حالَ الطرق المسؤولية كاملةً.

ويوضح لـ”الجمهورية”: “قانون السير لن يُطبّق فعلياً ما لم يُفعَّل المجلس الوطني للسلامة المرورية الذي يترأسُه رئيس الحكومة، فهدفُه رسم السياسة العامة للسلامة المرورية والسهر على تطبيقها، والإشراف والمراقبة ومساعدة الإدارات والتنسيق في ما بينها لتنفيذ قانون السير وضمان السلامة المرورية”.

ويضيف: “لا يمكن تطوير تعليم قيادة المركبات في لبنان، من دون وضعِ خطّة استراتيجة تشمل تطويرَ الامتحانات بشقَّيها النظري والتطبيقي، ورفعِ مستواها، وتحويل مكاتب تعليم السَوق إلى مدارس، وتطوير المناهج، ممّا يرفع المستوى التعليمي للمتدرّبين، مع الإشارة إلى ضرورة تأمين مكان آخر لإجراء امتحان السَوق يستوفي شروط التدريب والامتحان، بدل الساحات الضيّقة المعتمَدة حالياً”.

من الواضح أنّ تطبيق قانون السير الجديد أشبَه بحلقة متكاملة، ويبقى غير فعّال، رغم غراماته المرتفعة، من دون خطة وطنية شاملة. وفي ظلّ تعذّرِ تطبيقه لعدم تماشيه مع الواقع اللبناني في الوقت الراهن، ولكي لا ننتظر بعد سنوات والضحايا يسقطون على الطرُق، يكفي لهيئة إدارة السير أن ترفع مستوى الامتحانات لكي تجد المكاتبُ نفسَها ملزَمةً برفعِ مستواها التعليمي والتعامل مع المتدرّب بجدّية. في النهاية “مِش دايماً الحق ع الطرقات”، القليل من الثقافة في القيادة يحمي!