IMLebanon

باسيل في “بلاد العجائب”

 

 

كتب إدمون صعب في صحيفة “الأخبار”:

سُئل أحد المراقبين رأيه في الضجة التي تثيرها التجاذبات السياسية والطائفية والإقليمية، وحتى الدولية، حول مشاريع قوانين الانتخاب المطروحة، وخصوصاً من جانب «التيار الوطني الحر»، فأجاب: «إننا أمام مريض غارق في غيبوبة منذ سنوات، ويعيش بفضل مجموعة من الأنابيب زرعت في أنحاء عدة من جسده، ويرفض ذووه نزعها عنه لتمسّكهم بالأمل أنه قد يستيقظ في أي لحظة فتفرح به قلوبهم.

والآن، وبعدما فشلت جميع العقاقير في إيقاظه، أوصى الأطباء بإخضاعه للصدمات الكهربائية، وما يصدر حالياً من جلبة وصراخ وعويل حول سرير المريض «المعذّب» ناجم عن الصدمات التي يتعرّض لها صدره، وتزداد قوتها تدريجاً علّها تحقق آمال المراهنين على يقظته، وهم كمن يتعلّق بحبال الهواء، قبل إعلان وفاته سريرياً ونزع جميع الأنابيب الموصولة بجسده».

وإذ قيل للمراقب إن جوابه جاء وكأنه شيفرة تحتاج إلى رمز لحلها، أوضح: «إن المفتاح والرمز هما لدى وزير الخارجية جبران باسيل الذي أسندت إليه مهمة نشر المشاريع «المفبركة»، وهو تساءل قبل أيام: «إذا كُنتُم أيها السادة ترفضون النسبية، والمختلط على أنواعه، والدائرة الفردية «ناخب واحد بصوت واحد»، وكذلك الأرثوذكسي، فماذا تريدون إذاً؟ بمعنى آخر، تقولون لنا: «صحيح لا تكسروا، وكسر لا تاكلوا، وكُلُوا واشبعوا». وكان الاسهل لنا ولكم أن تقولوا لنا إنكم لا تريدون أي تغيير في قانون الانتخاب، وإنكم نائمون على «سبعة ونص» قانون الستين الذي دفن وتقبّل الرئيس ميشال عون ومعه الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري التعازي به».

من يقف وراء لغز الشيفرة؟

وهنا نقول للمراقب العزيز، إن الشيفرة الأساسية كامنة في مقاربات الوزير باسيل التي يحتاج فكها إلى رمز يكشف الخلفيات المختبئة وراء «آلة تفقيس» المشاريع التي تكاد توصل ذوي المريض إلى حدّ اليأس من إمكان استعادته وعيه، بل هي تكاد تزهق روحه بالصدمات الكهربائية «الاستعراضية».

اللغز في «مشاريع باسيل» ــ التي قد تكون ظالمة له ــ أنّ منطلقها سيئ، طائفي ومذهبي ومتخلّف يميت ولا يُحيي. ولعل أخطر ما في الأمر، الانحراف عن «العقيدة العونية» التي حضنها الجمهور الواسع وشارك في النضال من أجلها، وتحمّل وجع المنفى، وظلم الأسر، ومشى في سبيلها أبطال على درب الشهادة فرووها بدمائهم. وهي عقيدة جسّدها الرئيس العماد ميشال عون، ومن أبرز سماتها أنها بعيدة، كل البعد، عن الطائفية، لا بل هي تنحو صوب العلمانية، وعنوانها الأهم الدولة الوطنية العادلة، والمنصفة، التي تتحقق فيها المساواة بين اللبنانيين، بصرف النظر عن دينهم أو مذهبهم أو طبقتهم الاجتماعية. وأبلغ دليل على ذلك طرح الرئيس سؤالاً على زوار كانوا في القصر قبل أيام عن الأسباب التي حالت إلى الآن دون تأليف الهيئة الوطنية للنظر في سبل إلغاء الطائفية السياسية، وذلك تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني التي أصبحت دستوراً.

أين المخرج من «الغابة» يا أليس؟

وإذا كان الانحراف عن عقيدة الرئيس قد سبّبه الارتباك في البحث عن مخرج من شأنه إحقاق ما سُمِّي «الحقوق المسيحية»، فإن السائرين في ركاب باسيل قد ضَلُّوا الطريق المؤدي إلى هذا المخرج، وأدخلونا في متاهة شبيهة بغابة «أليس في بلاد العجائب» حيث كانت الشابة الساحرة تبحث ـ عبثاً ـ عن مخرج، فتصادف هرة تلاحظ ارتباكها، فتستوقفها وتسألها عمّا إذا كان في وسعها مساعدتها، فتقول لها أليس إنها ضائعة، هائمة على وجهها تبحث عن مخرج فلا تجده. فهدّأت الهرة من روعها وقالت لها إن ثمة مخارج كثيرة «ويكفي أن تقولي لي إلى أين تريدين التوجه بعد الخروج، فأرشدك إلى الباب المناسب».

وهنا نسأل: إلى أين تريدون، أيها الباحثون عن السبل الآيلة إلى تأمين التمثيل الصحيح والعادل للمسيحيين، إضافة إلى المناصفة الحقيقية بينهم وبين المسلمين؟

هل تريدون المخرج المؤدي إلى ضياع هذه الحقوق في المزيد من الصراعات الطائفية والمذهبية والعشائرية التي تهدد التعايش والوحدة الوطنية؟ أم تريدون الخروج من الباب الذي يحقق التمثيل الصحيح والعدالة للجميع، مسيحيين ومسلمين، باعتبارهم مواطنين في دولة واحدة، يتمتعون بحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية متساوية، ويحق لهم تالياً أن يتمثلوا في الندوة النيابية بنسبة ما يشكّلون من حجم شعبي داخل الكتلة الناخبة التي يفرض التطور توسيع القاعدة الديموقراطية بحيث لا يكون التمثيل حكراً على مستثمري «الحظائر» الطائفية والمذهبية، بل يشمل جميع «الأقليات» التي يتألف منها المجتمع، ونعني بها المجموعات السياسية، والمدنية، والنخب الفكرية والهيئات المهنية والنقابية الشبابية والنسائية… إلخ؟ وثمة تيار في العالم يروّج لهذا النوع من التمثيل كمنقذ للديموقراطية المترهلة يعرف بـ«الموجة الثالثة» التي أطلقتها الثورة التكنولوجية، ومن أبرز مظاهر هذه الموجة التحركات المطلبية لما يعرف بالمجتمع المدني التي تتعاظم أهميتها مع تطور أدوات التواصل الاجتماعي والتعبئة الإلكترونية.

هل أضاع المسيحيون البوصلة؟

صحيح أن القوانين الانتخابية التي شرّعت مع بداية وضع «الحريرية السياسية» يدها على السلطة ومقدَّرات الدولة مطلع التسعينيات، قد انتقصت من حقوق فريق كبير من المسيحيين، لكنها حرمت، في الوقت عينه، كثيرين من بقية الطوائف حق التمثّل، كما حرمت العلمانيين والتغييريين هذا الحق.

وإذا كانت ثمة حاجة إلى اليوم لإنصاف المسيحيين بقانون انتخاب يحقق التمثيل والعدالة، ويؤمّن المناصفة بينهم، وبين المسلمين، يجب ألا يظلم مثل هذا القانون مجموعات أخرى كبيرة من اللبنانيين تتطلع من زمان إلى قانون انتخابي يخرجها من جحيم الطائفية، وينسيها الأيام السود يوم كان المندوب السامي الفرنسي يُسمَّي نصف النواب، ويصرّ على التفريق بين اللبنانيين من طريق الانتقاص من حق المسلمين في المساواة والمناصفة في التمثيل مع المسيحيين. وقد استغرقت معركة المسلمين من أجل المناصفة والمساواة أكثر من سبعة عقود انتهت بالطائف الذي أقر المناصفة للمسيحيين، برضى المسلمين الذين «أوقفوا العد» بغية طمأنة شركائهم في الحياة والمصير.

إلا أن المسيحيين أضاعوا البوصلة بعد الطائف، فساوم سياسيوهم مع سلطة الوصاية السورية آنذاك، وخصوصاً الرؤساء، على التطبيق المجتزأ لمقررات الطائف في مقابل مقاعد نيابية «مذهّبة» وحصص رئاسية في الحكومات، تدرجت من وزير واحد إلى ثلاثة وزراء مع الرئيس ميشال سليمان استمروا من «حصته»، على ما صرح أحدهم، بعد انتهاء ولايته. وقد تم ذلك في وقت كان مفترضاً في هؤلاء الرؤساء أن يصروا على تطبيق وثيقة الوفاق الوطني كاملة باعتبارها معبراً متدرّجاً من فيديرالية الطوائف إلى رحاب دولة المواطَنة التي طمح إليها موقِّعو الوثيقة وداعموها، وفي مقدمهم البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، على أن يتحقق هذا الهدف على مراحل، بدءاً بإحداث مجلس للشيوخ يجسّد الفصل بين الدين والدولة، ويتيح المجال أمام قانون انتخاب خارج القيد الطائفي يتعامل مع اللبنانيين على أساس أنهم مواطنون، لا رعايا، متساوون في الحقوق والواجبات في دولة عادلة، على أن ترافق ذلك خطوات مرحلية عقلانية على طريق إلغاء الطائفية السياسية، ما يُؤمِّل اللبنانيين بدخول المئوية الثانية، بعد ثلاث سنوات، باطمئنان إلى غد واعد بوحدة الحياة داخل مجتمع تعددي غير متجانس، عرف أهله كيف يحققون الانسجام بين مكوناته المختلفة.

البحث عن «حس مشترك»

لقد صدقت العالمة الفرنسية الدكتورة إليزابيت بيكار التي عكفت على دراسة الوضع اللبناني بعد الطائف، وخصوصاً التغييرات التي طرأت على أحوال المسيحيين الذين قالت إنهم عاشوا على الديناميات التي ولّدتها العاميات، من عامية حمانا الأولى في ١٨٠٠، إلى الثانية في ١٨٠٥، فعامية أنطلياس الأولى في ١٨٢٠، فعامية لحفد في ١٨٢١، وصولاً إلى عامية أنطلياس الثانية والكبرى التي عُقدت في دير مار الياس في ٧ حزيران ١٨٤٠، والتي أقسم فيها مسيحيون ودروز ومسلمون أمام مذبح الكنيسة، على ما عُدَّ نواة للميثاق الوطني، مشددين على «اتفاق الكلمة والعمل الموحّد: حال واحد، رأي واحد، مشدّ واحد على قيام صالح البلاد، ورفع المظالم عنها. نقسم على ألّا نخون، ولا نتطابق على ما يضر بأحد منا كائناً من يكون. القول واحد، والرأي واحد. وتضامن وطني في وجه الخارج الظالم».

ومن العاميات انتقل المسيحيون، بحسب بيكار، إلى إنجاز البطريرك الياس الحويك في انتزاع اعتراف من مؤتمر السلام في باريس عام ١٩١٩ بحق لبنان في إقامة دولة مستقلة ضمن حدوده الطبيعية. وترجم هذا الإنجاز، الذي رعاه الانتداب الفرنسي، بإقامة دولة «ذات صبغة مسيحية»، صارعت من أجل البقاء حتى انهيارها بعد أحداث ١٩٧٥ وما تلاها.

وأشارت بيكار إلى أن المسيحيين الذين يعتبرون أنهم فقدوا في الطائف «لبنانهم هذا»، يبحثون اليوم عن «حس مشترك» جديد بينهم وبين المسلمين، فلعلهم يجدونه في قانون الانتخاب فيهتفون عندئذ: «أوريكا… أوريكا… لقد وجدناه»؟!