IMLebanon

البعض يريد المسيحيين تحت “جريرته”

كتب جورج عبيد في صحيفة “الديار”:

تتصاعد المواقف حول قانون الانتخابات بصورة دراماتيكيّة لتنذر باحتدامها الصاخب بوصول لبنان عقمُا بليغًا وعطبًا كبيرًا على مستوى التركيبة الطوائفية والسياسيّة، فالأزمة ليست فقط أزمة نظام سياسيّ، بل هي أزمة انوجاد في وطن بلا سقف «وبيت بمنازل كثيرة»، ويكاد يفقد حتى المنازل إذا هيمن التصحّر على العقل السياسيّ وأبطل خصوبته ومن ثمّ إنتاجيّته وإبداعه.

تتراكم تلك الرؤى العبثيّة بسياقها والطائفيّة بآفاقها، في ظلّ معطيات استوت فيها معالم الصراع الخارجيّ في قلب النزاع الداخليّ، واحتشدت في جوفها عناوين كثيرة واردة من أرض الصراع في سوريا وعليها. على هذا لاحظت أوساط سياسيّة تغييرًا جذريًّا ظاهرًا على الخريطة السياسيّة، وبخاصّة في مسار التحالفات والتفاهمات وقد تحوّلت إلى وعاء ضَمَنَ الاستقرار السياسيّ المتوازن ومهّد الطريق لبلوغ لبنان نحو عهد جديد، وعلى جنباته سارت المبادرات باستلهام واضح، ليقف التيار الوطنيّ على أساسها في الموقع المتقدّم الحامي للمسيحيين والمحامي عن الميثاق والمنطلق منه إلى ما هو أوسع كما جاء في فلسفته وأدبياته أي إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفقًا لمنطق المادة 95 من الدستور.

تضجّ الأسئلة في عقول هذه الأوساط المتابعة، خاشية من عطب يمسّ هذا الوعاء الأساسيّ والجديد من حيث أنموذجيّته في الدائرة اللبنانيّة، وهو الوعاء المسيحيّ – الشيعيّ المتأسس على ورقة التفاهم بل المؤسس لها، وهي ورقة ميثاقية بمعانيها ورؤاها. وتنبع الخشية من سوء فهم بدأت دائرته تتّسع وتكبر رويدًا رويدًا بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله مشوبة بتسعير خطاب طائفيّ يمجّه الفريقان ويلفظانه بالكليّة (استغلال إغلاق رئيس بلدية الحدت جورج عون لمحلّ قمار ورصفه في التسعير الطائفيّ في منطقة الحدت)، وقد نتج سوء الفهم في الأصل من أمرين أساسيين:

1-تمسّك رئيس التيار الوطنيّ الحرّ جبران باسيل بالمنهج التأهيلي أو الصوت التأهيلي، ويراه التيار مفتاحًا متوازنًا وصورة عن مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، بحيث يتاهّل المرشحون ضمن الوجدانات الطائفيّة بحسب النظام الأكثريّ، بمعنى أنّ كلّ طائفة تؤهّل مرشحيها، وينطلق المرشحون – المؤهّلون إلى المعركة الانتخابيّة وفقًا للنظام النسبيّ، ولنظام تحالفات تسلكها الأحزاب والقوى السياسيّة، وتنحتها لذاتها بمصالح متقاربة أو بإيديولوجيات متضامنة… وقد اعتقد التيار الوطنيّ الحرّ، بأنّ أطروحته تلك غير مغلقة أبدًا، ويسعى الى توسيعها بمروحة تحالفات أو تفاهمات تتمّ على أساسها، وقد ذكّر التيار الوطنيّ بمصادره بأن الرئيس نبيه برّي كان أوّل من اقترح التأهيل، فلماذا تراجع عنه؟ ولماذا حزب الله غير مقتنع بالصوت التأهيلي فيما كان هو مقتنعًا بمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ ودافع عنه دفاعًا راقيًا وساطعًا، فيما التأهيل صورة طبق الأصل عن مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ.

2-تمسّك حزب الله بموقف صارم مؤيّد للنسبيّة الكاملة ورافض ضمنًا للتأهيل، ويستند الحزب برفضه الى أنّ التأهيل يعمّم الخطاب الطائفيّ بشحن مطلق، ويعمّقه بل يرسّخه، ويعصم الحياة السياسيّة عن إمكانية دخول نخب جديدة قبّة البرلمان، كما بإمكانه ومن ضمن النظام المختلط أن يقود إلى النتيجة عينها التي سيفضي إليها قانون الستين. يرى الحزب في هذا السياق، وبحسب مصادره أنّ النسبيّة تملك القدرة على إنقاذ البلد من أتون الحروب المتوقّدة والمتنقلة، وتجعله محصّنًا في وجه الأعاصير الممكنة. ويستند الحزب في موقفه الى قراءة قدّمها بدوره الرئيس السابق العماد إميل لحّود حيث قال انّ النسبيّة الكاملة مع لبنان دائرة واحدة لا تمنع لبنان فقط من الانجرار في الحروب بل تحمي لبنان وسوريا والعراق والمنطقة من انفجارها، وقد ثبت أنّ الحروب كانت تنطلق من لبنان لتعمّ المنطقة بأسرها. وبحسب أوساط قريبة من الحزب، ليس الحزب متمسّكًا بالنسبيّة ولبنان دائرة واحدة علمًا أنّه يحبّذه، ويفضّله على معظم المشاريع، لكنّه اعتبر أنّه يمكن الانطلاق من خيارين إمّا النسبيّة مع دوائر موسّعة على مستوى المحافظات وإما مشروع الميقاتي، وقد دافع بدوره عن مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ. وتروي الأوساط القريبة منه وقائع النقاش في اللقاء بين وفد الحزب الرفيع المستوى ورئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، لتظهر أنّ الحزب استخلص بالنتيجة أنّ الرئيس إذا خيّر بين الفراغ والستين فسيختار الستين لأنّه لن يكون متاحًا أمامه سوى الدعوة للانتخابات بناء على الستين، وهذا ما صدم الحزب بسبب عدم القدرة للذهاب نحو النسبيّة…

بموازاة ذلك توقفت شخصية مسيحيّة سياسيّة معنيّة بهذا النقاش الدائر، وتساءلت بحرص شديد على الحزب والتيّار معتبرة أنّ الكمال قائم في النسبيّة ولا أحد يعارضها البتّة كمبدا وسلوك، وهي الكفيلة وكما قال امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطاب له بإشراك نخب سياسيّة وعلمانية جديدة من امثال حنا غريب وشربل نحاس ودميانوس قطار وجورج قرم وجان لوي قرداحي، فالندوة البرلمانية تحتاج الى خبراتهم وعلمهم ونضالهم ونقاشهم وصراخهم. لكنّه بمحاذاة تلك الرؤية رأى أن سلوكيات الآخرين تدفع رئيس الجمهوريّة إلى هذا الخيار المرّ لأنّ الرئيس برأيه لن يترك البلد في فراغ.

تلك الشخصيّة انطلقت من مجموعة ملاحظات وردت عندها على النحو الآتي :

1-الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط يسيران ضمن خطّ واحد وهو تكريس الستين، وقد صرّح جنبلاط بأنّ لا حليف له سوى الرئيس برّي. والمشروع الذي قدّمه وليد جنبلاط والحزب التقدميّ الاشتراكيّ ليس سوى حجاب أو قناع يخفي فيه الجوهر والجوهر هو الستون. أمّا الرئيس نبيه برّي فهو ظاهريًّا مؤيّد للنسبيّة التي طرحها حزب الله، إنّما في العمق فهو متمسّك بالستين، والقيادة في حزب الله بحسب تلك الشخصيّة على علم بذلك.

2-يعتبر وليد جنبلاط مسألة الانتخابات مسألة حياة وموت له، لقد أوفد النائب وائل بو فاعور إلى الرئيس سعد الحريري ليقول له ان القبول بالمبدأ التأهيليّ حرب جبل جديدة ونحن لن نقبلها، وهذا ما جعل الحريري على توتّر شديد. وبالنسبة لجنبلاط مجاراة الحريري لجبران باسيل في المشروع التأهيلي خطأ استراتيجيّ وسيحاربه بشدّة وقوّة، على الرغم من كسر الجليد بفعل زيارة باسيل لكليمنصو.

3-ترى تلك الشخصيّة أن مشاركة حزب الله الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط في مواجهة التيار الوطنيّ الحرّ بسبب الصوت التأهيليّ، بإمكانها أن تصدّع الوعاء المسيحيّ-الشيعيّ الراسخ على المستوى الداخليّ، وتدفع بالتالي التيار الوطنيّ الحرّ إلى التحالف مع تيار المستقبل وبدأت عناوينه تظهر في غير موقع، وثمّة مصالح مشتركة رابطة بين شخصيات من التيارين، لتطغى الثنائيّة المسيحيّة-الشيعيّة مكان الثنائيّة المسيحيّة-الشيعيّة، المستندة إلى آفاق الصراع في المنطقة ونتائجها. وتحذّر تلك الشخصيّة من إمكانية انغماس المملكة العربيّة السعوديّة في هذا الثنائيّ المستعاد. وتنصح تلك الشخصيّة حزب الله بالتعاطي مع هذا الموضوع بجديّة وامتصاص النقاش مع التيار الوطنيّ الحرّ واستيعابه، والحلّ بالنسبة لتلك الشخصيّة أن يتبنّى الحزب الصوت التأهيلي حتى لا ينعطب الوعاء الحافظ للبنان ولا يتمزّق.

4-تبدي تلك الشخصيّة ملاحظة واضحة وهي، لا يجب أن يطلب من التيار الوطنيّ الحرّ فكّ تحالفه مع القوات اللبنانيّة على المستوى المسيحيّ، وإن كان هذا التحالف لم يرق بعد نحو البعد الاستراتيجيّ، فالتيار راسخ في ثوابته بالنسبة لمألفتيّ السلاح المقاوِم والرادع والقتال الاستباقيّ والحامي والذي تبنّاه الرئيس عون في سوريا. وعلى هذا يجب وبحسب تلك الشخصيّة على الحزب أن يدرك أن تحالف التيار مع القوات ليس على حساب التحالف مع الحزب، وقد سعى رئيس الجمهوريّة إلى استخراج رؤية وسطية يبني عليها إمكانية حوار ثنائيّ يرعاه بين الحزب والقوات على الرغم من موقف رئيس القوات الأخير سمير جعجع بخصوص الجولة الإعلاميّة التي دعت إليها الدائرة الإعلاميّة في حزب الله مع المسؤول فيها الحاج محمد عفيف، وكانت سلمية هادئة. وفي هذا الباب تظهر تلك الشخصيّة حرصها على ضرورة أن يكون الحزب حاضنًا للتيار ومتماسكًا معه حتّى لا يختلّ التوازن في لبنان، فالمسألة ليست لبنانيّة بل هي لبنانيّة-سوريّة ومشرقيّة بامتياز تعني الخصوصية المشتركة ما بين الحزب والتيار.

5-تحتم تلك الشخصيّة ملاحظتها بأن على الحزب أن يضغط على حلفائه لاستبقاء العلاقة متماسكة مع التيار وبخاصّة في ظلّ تلك الظروف. فثمّة قوى دخلت خلسة دائرة العناوين السياسيّة بلحظاتها المـتاججة لتزيدها تأجّجًا واشتعالاً بغية محاصرة حزب الله في سوريا من لبنان. وبحسب تلك الشخصيّة لقد نجح حزب الله في معركة حلب فأمّن مجيء العماد عون على رأس السلطة وهزم محاصريه. وبعد قتاله الباسل في محردة والسقيلبية في حماه، وقد كان عنيفا على اعتبار أن الوجود المسيحيّ هناك جوهريّ، وقد واكب الكاتب المشرقيّ غسان شامي القتال ميدانيًّا وشهد له وسمع مباشرة ما قاله اللواء قاسم سليماني على أرض المعركة بأن الوجود المسيحي في هذه البقعة ضرورة استراتيجيّة لإيران، فهو قادر أن يجيّر هذا النصر لمصلحة أطروحة التيار الوطنيّ الحرّ الحامية له ولدوره، وإبقاء تحالفه مع التيار متينًا، إذ إنّ التحالف بجوهره ضرورة استراتيجيّة للبنان وسوريا وللمسيحيين والمسلمين على السواء.

وبعد فإنّ سؤالاً معاكسًا يطرح نفسه، ماذا لو قبل التيار الوطنيّ الحر مشروع النسبيّة والدوائر الوسطى أو الموسّعة أو مشروع بكركي الانتخابيّ، ألا يمكن أن يؤمّن القبول بدوره تلك المزاوجة بين الميثاقيّة والنسبيّة، ويريح المسيحيين ويقود تدريجيًّا نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة؟ في رأي أوساط سياسية الوضع كلّه يتطلّب مرونة من الجميع وحرصًا على عدم الانجرار خلف مشاريع فتنويّة تحضّر للبنان. وفي رأي تلك الشخصيّة المسيحيّة، الصورة واضحة، الجميع يريدون إبقاء المسيحيين بقرارهم وحراكهم بوجودهم ومنطلقاتهم تحت جريرتهم لا صوت لهم يسمع وينفّذ. الاتكاء على العدد خطيئة استراتيجيّة كبرى، فمن عدّ المسيحيين حدّهم وحدّدهم. فمتى وضع الرئيس بين خيارين التمديد أو الستين، فخيار الستين نتيجته تجويف العهد، ترسيخ الفساد بالطبقة السياسيّة عينها، وترسيم الطائفيّة على مقاس سياسيين فاسدين ينطقون بها على حساب لبنان.