IMLebanon

معركة الجرود على طريق تطبيع العلاقة مع دمشق

 

 

كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:

من الصعب التعامل مع ما يجري في رأس بعلبك والقاع من الناحية العسكرية فحسب. فالتطورات الجارية في تلك المنطقة مرتبطة بما يجري في سوريا وفي العراق، وبالمفاوضات الدولية حول المنطقة وتشعباتها الجغرافية، وهي ليست معزولة عن تسلسل أحداث داخلية مهّدت لمسار تتوضح طبيعته السياسية، لا العسكرية، تدريجاً.

منذ أن انفجرت قضية النزوح السوري مجدداً، قبل أسابيع قليلة، بدا أن ثمة إعداداً لأرضية مختلفة يجري التعامل معها بهدوء استعداداً لمرحلة جديدة، وبدا أن الساعة الصفر أُعطيت آنذاك للمسار الذي بدأ لبنان يعيشه أخيراً؛ فقضية النزوح السوري عمرها من عمر الحرب السورية، وتفاقم أحداثها وتورط عناصر من المخيمات السورية في أحداث وجرائم أمنية لم يكونا حديثي العهد، وإن كثرا في السنوات الاخيرة. لكن انفجار هذه القضية في الشكل الذي جرى فيه، مع تداعياته السياسية والانقسامات التي حصلت حوله، كان مؤشراً أولياً على أن هناك ما يتم الإعداد له بجدية.

التطور الثاني جاء على خلفية دهم الجيش لمخيمات جرود عرسال والتفجيرات الانتحارية التي حصلت، ووفاة أربعة من الموقوفين السوريين والضجة التي أثيرت في حينه وأعادت تعويم جوّ الانقسام حول الجيش والنازحين.

التطور الثالث جاء مع إعلان حزب الله فتح المعركة ضد «جبهة النصرة»، والانتصار الذي أعلنه، سواء لجهة الحرب العسكرية أو التفاوض، وإعلانه تطهير تلك المنطقة من التنظيمات الارهابية.

التطور الرابع فتح الحوار العلني مع «سرايا أهل الشام» حول وجودهم في البقعة الجغرافية المراد السيطرة عليها، علماً بأن العلاقة مع هذا التنظيم لم تنقطع طوال وجود عناصره في المنطقة، إن مع الجيش أو مع حزب الله. لكن نتائج المفاوضات الاخيرة أضافت على المشهد السياسي بعداً آخر، في محاولة لإحكام السيطرة على كامل المنطقة الحدودية.

التطور الخامس هو فتح الجيش اللبناني معركة رأس بعلبك والقاع من الجهة اللبنانية، والجيش السوري وحزب الله من الجهة السورية. والمجريات العسكرية الحالية تصبّ في تفاصيلها، غير المعلنة، في خانة تعزيز هذا الجو التفاوضي والسياسي الذي يهيّئ لبنان لمرحلة سياسية جديدة.

بين كل هذه التطورات، برز التطور السياسي الأكثر وضوحاً، أي الزيارات الرسمية اللبنانية الى سوريا وتطبيع العلاقة مع دمشق، وهو الأمر المرجّح أن يتفاعل أكثر بعد إعلان تطهير الجرود من الجهتين اللبنانية والسورية من تنظيم «داعش». فالحرص على تسليط الضوء على الزيارات الوزارية كان مقصوداً، بقدر ما هو مقصود رسم الخطوات العسكرية الآنفة الذكر، لأنها ليست المرة الاولى التي يزور فيها وزراء من قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر سوريا، وهناك من لم تنقطع زيارتهم لها، وإن لم تظهر أسماؤهم أخيراً في عداد الوفود الرسمية، ما طرح أسئلة لا تزال من دون أجوبة عن هذا التوقيت في فتح كل الملفات العالقة مع سوريا، حدودياً وعسكرياً وسياسياً، في لحظة واحدة، وإعادة نبش كل أنواع التنسيق، سواء بين الجيشين اللبناني والسوري والمعاهدات اللبنانية السورية بمختلف مندرجاتها.

بعد معركة الجرود، ستوضع ملفات كثيرة على الطاولة السياسية. وإذا كان الرئيس سعد الحريري قد حيّد نفسه وحكومته عن التعاطي في شكل مباشر مع الزيارات الرسمية لسوريا، وتعامل مع الجيش اللبناني على أنه يقوم وحده بعملية عسكرية، إلا أن المسار الجديد للأحداث سيفرض نفسه وإيقاعه على الحريري. والسؤال: كيف يمكن أن يكيّف رئيس الحكومة نفسه مع هذه التطورات؟ فالجيش اللبناني سيمسك، رسمياً، الحدود مع سوريا من جهة، في مقابل الجيش السوري وحزب الله من الجهة الاخرى، والحروب التي دارت في سوريا وارتداداتها في لبنان خلصت بعد التطورات السورية الاخيرة، والرعاية الروسية والايرانية، الى أن يكون لبنان على تماس مع النظام السوري على كامل حدوده ومعابره شمالاً وشرقاً، وليس مع أيّ من المناطق التي خلقتها المعارضة السورية ورعاتها الإقليميون والدوليون، إضافة الى أن العهد الحالي لا يقاطع النظام السوري، ولا يعارض أي علاقة معه، كما لا يعارض أي تنسيق أمني، كما يحصل دورياً بين لبنان وسوريا، ولن يعارض أيّ تنسيق يتناول ملفات اقتصادية وتجارية في حال وضعها على الطاولة مجدداً. والمرحلة الجديدة المرتقبة، التي بدأت تحت عنوان تطهير الجرود الشرقية من التنظيمات الارهابية، قد تفتح الشهية على استثمارها في السياسة الى أبعد حد، وتصوير الوضع العام الداخلي على قاعدة منتصر ومهزوم.

من هنا حساسية أمرين: كيف يمكن لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي تلقّى دعوة لزيارة إيران في توقيت لافت، أن يحافظ على التوازن القائم حالياً في البلد، ولو أن موقعه الرئاسي والشخصي محسوم مسبقاً ومعروف في أي خانة يضع نفسه؟ وكيف يمكن للوضع الداخلي أن ينفذ من عودة فتح ملف الحوار مع سوريا على مصراعيه، لا مجرد إرسال إشارات صغيرة مضبوطة الإيقاع حتى الآن، فتتشعب العلاقات مجدداً كما كانت حالها سابقاً، وتتكثف المطالبات بتطبيع هذه العلاقة لمصلحة لبنان، على كافة المستويات، لا سيما لجهة الاتفاقات بين الدولتين، التي كان التيار الوطني الحر وقف ضدها لسنوات طويلة زمن الوجود السوري ووجود عون في المنفى.

النقطة الثانية تتعلق بالجيش اللبناني، لأن انتصاراً كالذي يعلن عنه على التنظيمات الارهابية في خلال أيام، يضاعف الأحمال عليه داخلياً على المستوى الأمني والاستخباري معاً. فما تشهده أوروبا حالياً من انفلات الإرهاب، سواء كمجموعات او كأفراد، في بلاد جاهزيتها عالية وتتمتع جيوشها بخبرات وتقنيات محترفة وتنظيم استخباري دقيق، قد لا يكون لبنان في منأى عنه، لا سيما في ظل وجود خلايا نائمة داخلية واستمرار بقاء عوامل التفجير قائمة، باعتراف الاجهزة الامنية نفسها، يضاف الى ذلك الخشية التي يبديها سياسيون من عودة موجة الاغتيالات، كلها عوامل تزيد من التحديات الموضوعة أمام الجيش داخلياً، بغض النظر عن موقعه الاستراتيجي واصطفافه الحالي، ويجعل حماية الوضع الأمني الداخلي أمراً حيوياً وأساسياً في المرحلة المقبلة.