IMLebanon

اليوم الإعلامي في جبة بشري… عودة للجذور والقداسة!

للسنة الثالثة على التوالي، نظمت بقاعكفرا بلدة القديس شربل في 25 أيار 2017 ، يوما إعلاميا في رحاب منطقة جبة بشري العابقة بالتاريخ والحضارة والثقافة والتراث.

أكثر من 70 إعلاميا من مختلف الطوائف والتوجهات اجتمعوا في رحلة على طريق القداسة تحت عنوان: “قنوبين بالقلب”، كانت محطتها الأولى بلدة حدشيت الواقعة على كتف الوادي المقدس، حيث استمعوا خلال جولة على الكنائس والمعالم الأثرية إلى شرح من مرشد الرحلة الخوري هاني طوق حول البلدة وكنائسها الضاربة عميقا في قلب التاريخ، تاريخ الإيمان والحرية اللذين سعى اليهما الأجداد وتسلمناهما إرثا ومسؤولية وفخرا. وعلى وقع الشروحات القيمة المطعّمة بالنكتة البريئة الذكية، مزج الخوري هاني طوق بين التاريخ والموروثات الشعبية والأقوال المأثورة، ليقدّم للوفد الإعلامي في قالب مميز فكرة سريعة ووافية عن كنائس البلدة وشفعائها من القديسين سركيس وباخوس وكنيستهما التي يعود تاريخها إلى العام 1920 إلى القديس رومانوس وجزء من خنصره المحفوظ في كنيسة البلدة ذخيرة شفاعة وحماية، وصولا إلى سيدة شليف “القلعة” التي كانت تشكّل برج مراقبة للوادي المقدس من هجمات المتربصين بأهل الحرية والإيمان الذين استشهد كثيرون منهم إما حرقا بنيران الغزاة أو سحلا مربوطين بأذناب البغال أو غرقا في الأنهار، مما أنتج الدعاء الذي تردده الذاكرة الشعبية إلى اليوم: يارب لا تموّتني لا حريق ولا غريق ولا مشنطل عالطريق… أما المثل الشعبي القائل لمن يقف مشدوها أو بلا حراك: شو باك جامد متل صنم حدشيت؟ فيعود إلى صنم موجود في البلدة عمره أكثر من 3 آلاف سنة ويحمل اسمها الذي يعني “الإله الواحد”، وهو عبارة عن صنم بلا رأس تقول الموروثات الشعبية أنه قطع لأنه كان يشيع اليباس في كل أرض كان يستدير نحوها.

القديس رومانوس كان حاضرا في القاعة التي تحمل اسمه في البلدة والتي استمتع فيها الوفد بترويقة مناقيش وفنجان قهوة “عالبركة” قبل أن تبدأ الرحلة سيرا على الأقدام نحو وادي قنوبين العابق برائحة القداسة. طريق طويل، منزلقات وعرة سلكها الوفد بحماية قديسي الوادي، ومحطات أمام محابس القديسين حيث قضوا العمر بالصلاة والتقشف والصوم، وفي كل محطة تختبئ حكاية قديس حبيس كانت حياته مثالا للزهد وقصة جبابرة في القداسة، حفروا الصخر وطوّعوا الوعر ليبنوا قلاع إيمان لا تزال تشمخ بين الصخور وتتفيّأ جمال الطبيعة وسكون القداسة شاهدة حيّة على عمق جذور المسيحية وبطولة الشهادة. و كنيسة القديسة شموني واحدة من هذه القلاع التي توقف عندها الوفد، ويقيم فيها إلى اليوم أهل المنطقة في عيد القديسة، الذبيحة الإلهية واحتفالية العيد المستمدة من بساطة العهود القديمة.

ومن الوادي المقدس إلى بقاعكفرا البلدة النموذجية، تاريخا وقداسة، وصل الوفد الإعلامي وفي رئتيه عبق بخور القديسين، وفي ذهنه صور يكمل الخوري هاني رسمها من خلال شروحاته المميزة. دير مار حوشب مدرسة القديس شربل فتح قلبه على مصراعيه، ممثلا بخادم رعية بقاعكفرا الخوري ميلاد مخلوف. في رحاب مار حوشب الذي يعرف تاريخيا أنه خضع للترميم عام 1145 مما يؤكد أن بناءه الفعلي يعود إلى أقدم بكثير، كانت كلمة ترحيب من الخوري ميلاد مخلوف والإعلامية ريما رحمة التي شكرت الإعلاميين على حضورهم ودعتهم إلى نقل الاخبار عن جمال هذه المنطقة وقيمتها الدينية والثقافية والبيئية، من منطلق رسالة الإعلامي وواجبه نحو وطنه. وفي سكون الطبيعة المصلية كانت لقمة محبة تشاركها أبناء الرعية مع الإعلاميين، تخللتها وقفة فنية من أصالة التراث بصوت المطرب مارون ديب، وتكريم للفنان أسعد رشدان العائد إلى لبنان بعد 14 عاما من الغربة، هو عبارة عن ذخيرة للقديس شربل تلقفها بتأثر شديد شاكرا القيّمين على هذا اليوم المميز، وأكد أنّ لبنان بقديسيه سيغلب جميع الصعاب، مشيرا إلى أن وصيته في الغربة كانت هي أن يحرق جسده بعد الممات وينثر في لبنان.

من رحاب دير مار حوشب، كانت الإنطلاقة سيرا على الأقدام نحو بيت القديس شربل، قديس بقاعكفرا ولبنان والعالم، حيث روى الخوري هاني طوق قصة أعجوبة من الأعاجيب التي تمّت بشفاعة القديس شربل في روسيا تحديدا، ليتبين بعدها بالوثائق المؤكدة أن هذه الأعاجيب تغطي فعلا كامل الأراضي الروسية… والعبرة التي استخلصها الخوري طوق لخّصها بالقول إنّ القديس شربل ليس شفيع بلدته أو وطنه فحسب، بل شفيع العالم، الخارق للطوائف والديانات وكلّ “الإختراعات البشرية”، لأنه استطاع إخلاء ذاته من ذاته إخلاء تاما، ليمتلئ من النور الإلهي امتلاءا تاما، فأتى فيض نور الرب من خلاله قويا وواضحا كشمس الرب الذي يشرق نوره على الأبرار والأشرار… وفي بيت القديس ارتفعت ترانيم عفوية من أفواه أعضاء الوفد تمجّد الله في قدّيسيه. ومن بيت القديس إلى كنيسة عماده، حيث كان شرح للخوري ميلاد مخلوف خادم الرعية، أضاء خلاله على تاريخ الكنيسة المبنية أساسا منذ حوالي 800 عام تقريبا على اسم السيدة العذراء، فيها تلقى القديس شربل سرّ العماد في جرن كان في القدم محفظة لذخائر القديسين، قبل أن يصبح جرن عماد لشربل وكلّ المعمّدين في الكنيسة حتى اليوم. الكنيسة تخضع للترميم، مع الحفاظ على طابعها الأثري، بعد اكتشاف مساحة فيها غير مكتشفة سابقا، كما تخضع أيقونتها-أيقونة السيدة العذراء لترميم دقيق حفاظا على معالمها التاريخية والأثرية المقدسة. مقابل الكنيسة، على درج بيت المونة، كان إبريق القهوة من أيادي سيدات أخوية مار شربل في الإنتظار، أما المونة من صعتر وزيت ومكدوس ومربى وشراب وغيرها، فكانت تنادي الزوّار للتزوّد بكل ما هو بلدي مئة بالمئة، من صنع سيدات بقاعكفرا وإنتاج أرض القديس.

جبة بشري، وبخاصة بقاعكفرا، ليست منطقة سياحة أو قداسة أو تاريخ أو ضيافة أو كرم أو محبة أو تراث أو أصالة… إنها كلّ هذا معا، إنها أرض تبقى بكرا ولو داسها الملايين، لأنك لا تدوسها برجليك بل بقلبك، ولا تغادرها حتى بعد الرحيل لأنها تبقى محفورة في ذاكرتك، كما حفر قديسو قنوبين في صخر الوادي، وكما حفر شربل في قلب الإنسانية جمعاء مشاهد من نور لا تقوى عليها ظلمات العالم.