IMLebanon

إرهاب {دليفري}

تجاوزت أهداف الإرهابيين الذين يغزون لبنان في موجة جديدة، رد الصاع لـ«حزب الله» بسبب تدخله القتالي في سوريا، من خلال تفجيرات تهز الضاحية وتردع قادتها. النجاح الذي أنجزته «داعش» في العراق بسرعة البرق، رفع معنوياتها، وشجعها على الامتداد إلى مساحات عربية جديدة، بتكتيكات مختلفة، وبأهداف موسعة. صارت الرغبة عند الإرهابيين، إشعال فتنة سنية – شيعية في لبنان، لا تبقي ولا تذر، وبأي ثمن. الكلام صار مؤكدا عن التخطيط لتفجير مستشفى كبير في الضاحية الجنوبية يعج بالمرضى، وهذا يعني في حال تم تنفيذه، إيقاظ حالة من الجنون الطائفي المستشرس عند أهالي الضحايا. شخصيات كبيرة، سياسية وعسكرية هي على لائحة الإرهابيين، لأن النيل منها يؤجج غضبا يصعب كبحه.

النوايا الفتنوية، من خلال الاغتيالات، وضرب أماكن تجمعات كبيرة، قد ترتد سلبا على «داعش وأخواتها»، هذه المرة، فلبنان ليس غرب العراق، وبيروت لا تشبه الموصل.

نجح جزئيا الإرهابيون في الموجة السابقة التي وصلت إلى لبنان برًّا من الحدود السورية، وكان أبطالها سوريين ولبنانيين، بإقناع البعض بأن المستهدف هو «حزب الله»، لكن الموجة الجديدة التي تصل من مطار بيروت، وينتشر أفرادها، بموزاييك من الجنسيات، في فنادق سياحية بقيت بعيدة لغاية اللحظة عن التهديد، تعطي انطباعا أن لبنان كله هدف، والاقتصاد يُغتال في أهم عناوينه، كما مرافقه السياحية من فنادق ومطاعم، وعلى كل مواطن أن يكون غفيرا، ولو اضطر لأن يضحي بنفسه من أجل القبض على المجرمين.

هستيريا الإرهابيين، وتحركهم وكأن لا بوصلة لهم ولا هدف محددا باستثناء ترويع الآمنين، تنشر حالة من الذهول في بيروت، وعداء شعبيا كبيرا للقتلة. كيف لمواطن أن يصدق بأن «حزب الله» هو الغاية، عندما تتحدث معلومات عن شاحنة تحمل ثلاثة أطنان من المتفجرات تتجول، ويتم البحث عنها، ولا أحد يعلم أين يمكن أن تنفجر، أو سيارات معدة للقتل تتنزه بين السكان تتحين ضحاياها؟ الكل مصاب، عندما يطير الموسم السياحي للسنة الرابعة على التوالي، وتصبح فنادق بيروت وكرا للإرهابيين المخربين، وغرفها تفتح للتحقيقات الجنائية، وتصبح مداخلها مسرحا للعمليات العسكرية التي تنقل على أقنية المحطات الفضائية.

تتصاعد هستيريا الإرهابيين أيضا بعد أن تبين أن هذه التنظيمات مخترقة استخباراتيا حتى النخاع، يصل أفرادها، وتسبقهم أسماؤهم وصورهم، ولوائح أهدافهم والأماكن التي يتحركون فيها. صارت الاستخبارات اللبنانية بفضل التعاون الأميركي والأوروبي، وكأن بإمكانها أن تعثر على الإبرة في كومة قش. أربع عمليات أمنية استباقية خلال أسبوع واحد ليست بالأمر القليل. خلية إرهابية في شمال لبنان تخطط لاغتيال ضابط كبير، يتم القبض على بعض أعضائها. تفجير ظهر البيدر يُكشف قبل أن يصل سائق السيارة إلى هدفه، وانتحاري الطيونة في الضاحية الجنوبية يضبط أيضا قبل بلوغ غاياته، وإرهابيو الفنادق أُحبط جزء من مخططاتهم بشكل أولي والبحث جار عمن تبقى منهم.

هذا لا يعني أن لبنان نجا، لكنه يشير إلى أن الانتصار المزلزل لـ«داعش وأخواتها» في العراق، نفخ فيها ثقة بالنفس قد تكون قاتلة. ليس فقط لأنها تستعجل التخريب والسيطرة على بقاع ليس لها فيها بيئة حاضنة فعليا، ولكنها أيضا مصرَّة على استعداء العباد، وإعطاء نفسها صورة مقززة، وكأنما أولئك الذين يتم القبض عليهم، ليسوا بشرا وإنما أشبه بمصاصي الدماء في الأساطير القديمة. تمر الأسماء الحقيقية للانتحاريين عابرة، لكنها تستدعي في الخيال «ليليت» و«أماشتو» و«جالو» في أساطير بلاد ما بين النهرين، بأرواحهم الشريرة التي تهدد كل أشكال الحياة.

إرهابي «فندق نابليون» الذي ألقي القبض عليه، قال أثناء التحقيق إنه مجرد «دليفري». الشاب الفرنسي الذي تعود أصوله إلى جزر القمر، لا يعرف ما الذي سيفجره ولا كيف. روى أنه حطّ في بيروت بانتظار أن يتلقى اتصالا، ليذهب إلى الوجهة التي يؤمر بها، وكأنه مجرد عامل صغير في مطعم للوجبات السريعة.

يبدو الانتحاري، والحالة هذه، كما برغي في آلة ضخمة، يمنح روحه لمشغليه، ليشعلوا بها النار حيث أرادوا. يبقى السؤال كبيرا ومحيرا عن القطع اللبنانية، التي تبدو لغاية اللحظة هامشية، في هذه الآلة الجهنمية. أولئك القلة الذين نفذوا عمليات لغاية اللحظة، كانوا قد أخضعوا لتدريب في سوريا، ودورهم ثانوي جدا. الواصلون الجدد، انتحاريون غرباء عن البيئة اللبنانية. السؤال الذي لم يجب عنه أحد، لغاية اللحظة، من هم المستقبلون والداعمون والمنسقون اللبنانيون لهذه الأوركسترا الشيطانية التي حطت فجأة في بيروت، وتمركزت في قلب العاصمة؟ وكيف لهؤلاء أن يتحركوا في قلب المدينة المكتظ والحيوي، من دون قاعدة حاضنة لإجرامهم؟ أن يكون الـ«إرهاب دليفري»، فهذا ممكن، لكن أن تكون «القاعدة» لم تفتح لها أي فرع في لبنان بعد، ولو صغيرا ومتواضعا، لتأمين إرسال الطلبات، كما يحاول أن يوحي به البعض، فهذا ما يبدو عصيًّا على التصديق، ويستوجب استنفارا أمنيا، ومؤازرة سياسية شاملة لا مهادنة فيها ولا مخاتلة.