IMLebanon

3 سنوات في «الحربيّة»: كيف يكبر «الفليون» ليصبح «عرّاباً»؟

أمام المبنى الأبيض، يمشي الضابط ذو الثياب الخضراء بكامل عتاده. ويفرش الأرض ذهاباً وإياباً. هذا المشهد اعتاده المارّون على طريق الفياضيّة، من دون أن تعرف الغالبيّة ما يحصل خلف تلك الأبواب المغلقة.

هنا، حيث يحلم كثيرون أن يكونوا، وحيث تكون أحلامهم كبيرة قبيل دخولهم، لكنّ مذ تطأ أقدامهم «ثكنة شكري غانم»، تتحول الأحلام الى صور واقعيّة، لا تكتمل إلا بتخرجهم بعد ثلاثة أعوام بحفل تخرّج وحسام ونجمة.

وإلى هذا الحين، ستتكرّر حفلات الوداع. وداع الهواتف والتلفزيونات، وحتى مواقع التّواصل الاجتماعي، برغم أنّ البعض يتحايل على هذا الحظر باختلاق اسمٍ وهميّ على «الفايس بوك». وداع الثياب المدنيّة التي يضعها التلامذة الضّباط في كيس يسلّم إلى أهلهم. وداع أفراد العائلة لأكثر من 45 يوماً خلال التسلّم والتسليم. يسمع هؤلاء نحيب البعض من أهلهم من دون أن يضعفوا، فالتماسك جزء من البدلة المرقّطة التي تصبح جزءاً من هوية هؤلاء.

كلّ شيء هنا له مواعيده وأنظمته. الاستيقاظ عند السّاعة الخامسة والنّصف فجراً. ومن السرير إلى الرياضة الصباحيّة لأكثر من ساعة، ثمّ العودة إلى غرف النّوم في الطوابق العلويّة. العودة ليست للاستراحة، وإنّما لأخذ حمّام سريع ثم تناول الترويقة وبعدها «هيّا إلى العمل»: ترتيب الأسرة والغرفة وشطفها وتنظيف الزجاج..

من يستخفّ بالنّظافة يكون له «الكشف» بالمرصاد على التنظيف والترتيب الفرديّ (الحلاقة على الصّفر، الأظافر، كيفيّة ارتداء البدلة..) والتنظيف الخاص بالغرفة، من قبل «العراب». و «العرابون» هم من تلامذة ضبّاط السنّة الثالثة الذين يتولّون توجيه «الفليون» (تعبير ينعت به تلميذ السنة الأولى، وقد جاءت التسمية من الديانة المسيحيّة، وتطلق على الطّفل المقدّم إلى المعموديّة). وفي بعض الأحيان، يكون لكلّ «فليون» أكثر من «عرّاب»، بحسب عدد ضبّاط الدورة.

هكذا تنمو العلاقة بين «العرّاب» و «الفليون»، فيما يبقى التلامذة الضّباط في السنة الثانية واقعين في حيرةٍ من أمرهم، ومن يحاول أن يستقوي منهم على «التّلميذ الصغير»، يكون «العراب» بانتظاره.

ينتهي الكشف الصباحي، ويبدأ الاجتماع اليوميّ، ثمّ الدروس العسكريّة التي تنقسم بين نظريّة وتدريب (كالرماية خارج الكليّة الحربيّة)، بالإضافة إلى الدّروس المدنيّة كالتاريخ وعلم النفس والفلسفة والرياضيّات.. يشبه نظام «الكليّة» (التي كانت مدرسة حربيّة ثمّ تحوّلت إلى كليّة في العام 2010)، إلى حدٍ بعيد نظام الشهادة الثانويّة، إذ يختار التلامذة فيها بين الاختصاصين «الأدبي» و «العلمي».

لذلك، يقضي التّلامذة الضبّاط معظم وقتهم وهم يتلقّون الدروس العسكريّة والمدنيّة. الاستراحة الأولى تكون بين السّاعتين الثانية والرابعة بعد الظّهر لتناول الغداء، والثانية بين السّادسة والثامنة مساءً لتناول العشاء.

عند السّاعة العاشرة ليلاً، تُطفأ الأنوار، ولا تضاء حتّى ولو كان الأمر يتعلّق بمراجعة الدروس، إذ لكلّ ضابط مصباح صغير يضعه أعلى رأسه ليلاً لتسهيل عمليّة القراءة. أمّا من يتجرأ على إضاءة النور لأي سبب، فيأكل نصيبه عقوبة مسلكية. في كلّ يوم خميس، يعرف التلميذ «ثمن» العقوبات عنّ الأسبوع بكامله. عقوبة ساعة مثلاً عن عدم الترتيب وساعة أخرى لمخالفة التعليمات أو الكلام في الصفّ أو عدم التواجد في السرير أثناء مواعيد النّوم… لتحتسب السّاعات ويتمّ حذفها من الإجازة الأسبوعيّة التي تبدأ عند السّاعة الثانية من بعد ظهر الجمعة وتنتهي عند السّاعة العاشرة من ليل الأحد، موعد التحاق التلامذة بالكليّة.

خلال هذه الإجازة، يوجد الكثير من الممنوعات التي تبدأ بعدم لبس البدلة المرقّطة وإنّما البدلة الخضراء مع القفازات والقبعة البيضاء، وباليد شنطة سوداء. هذه البدلة التي يصعب غسلها، وعلى من يرتديها أن يكون قد طبّق «واجبات النظّافة» بحذافيرها. ومن الثكنة إلى المنزل، يمنع على الضبّاط التنقّل بوسائل النّقل المشترك.

هذا الحال يبقى سارياً أيضاً خلال مدّة الإجازة على مدار ثلاث سنوات. ومن لا يملك سيّارة للتنقّل أو لا يملك أهله سيّارة لتوصيله، يكون لزاماً عليه أن يتّصل بتاكسي خاص يقّله من باب الثكنة إلى باب المنزل. ويمنع التلامذة أيضاً من ارتياد عدد من الأماكن، أبرزها الملاهي الليليّة.

رويداً رويداً يبدأ التلميذ الضابط باعتياد ما هو محظور عليه. مدمنو التدخين يحاولون «سرقة» ثوانٍ لتنفيس سيجارة خلف الجدران أو داخل الحمامات أو على النوافذ العريضة التي تتّسع لجلوس أحد التلامذة من دون رؤيته، فيما صار الأمر أكثر صعوبة على هؤلاء بعد تثبيت كاميرات مراقبة داخل الثكنة.

ومع ذلك، يبقى إدخال السجائر هو المهّمة الأصعب على الإطلاق. فالعمليّة هي حرفياً «تهريب ممنوعات»!

ولأنّ الحاجة هي أمّ الاختراع، فإن طريقة التهريب الأكثر رواجاً داخل «الحربيّة» والتي تُورث من جيلٍ إلى جيل، هي عبر فكّ براغي كعب الشنطة السوداء، حيث يصفّ التلميذ المخالف عدداً قليلاً من السجائر عرضياً قبل أن يعيد تثبيت البراغي.. وكأنّ شيئاً لم يكن.

وإذا كان سبب منع التدخين يبقى مفهوماً لدى كثيرين، إلا أنّ المستغرب لدى التلامذة الجدد هو سبب أن يكون أوّل دخولهم هو فعلياً «سنة أولى ركض». هذا التوصيف ينطبق تماماً على الضباط الجدد الممنوعين من المشي. من يريد أن يتنقّل داخل باحة «الكليّة الحربيّة» لأي سبب كان، عليه أن يركض!

ومن «سنة الركض» إلى السنة الثانية. تبدأ عملية زرع السّلطة تدريجياً في نفوس الضباط. لن يكونوا بعد اليوم هم الأضعف داخل «الكليّة»، بل صاروا مسؤولين ولو جزئياً عمّن هم أقلّ خبرة منهم. في هذه السنة، يكون الضباط قد اعتادوا النّظام والممنوعات، ليركّزوا على ميولهم التي ستؤثّر على اختصاصهم في السّنة الثالثة. الغلبة لاختصاصي المشاة والإشارة، فيما يقوم المعنيون باختيار المتفوقين الاثنين من كلّ صفّ إلى الاختصاصات الأقلّ طلباً كالهندسة والمدفعيّة والمدرّعات واللوجستيّة.

هكذا ينتقل التلامذة إلى السنة الثالثة، أي سنة المسؤوليّة والتحضير. ينهي هؤلاء دروسهم، ويحاول بعضهم أن يصل إلى الدّرجة الأعلى، ليكملوا في ما بعد دراستهم الجامعيّة التي تعمل جامعات عدة على معادلة المواد التي درسها التلامذة داخل «الحربيّة» بمعدّل سنة ونصف من أصل ثلاث سنوات.

الكثير من الأشياء تتغيّر إلى الأحسن لدى «العرابين» في سنتهم الجديدة. فصار يمكن غضّ الطرف عن إمكان خروجهم بالبدلة المرقطة يوم الجمعة، كما تفتح لهم القاعات لمراجعة دروسهم ليلاً. أما أكثر الأشياء التي يكونوا محظيين فيها، فهي إمكان تقدّمهم في الطابور الطويل حيث ينتظر التلامذة دورهم للاتصال بأهلهم عبر هاتف عموميّ. عادةً لا يتجرأ تلامذة السنتين الأولى والثانية أن يقوموا باتصال وإلى جانبهم «عراباً» ينتظر!

رؤيّة التلامذة من الضباط الإناث يكون في السنوات الثلاث أشبه بالمهمّة المستحيلة، إذ لا يرى الزملاء بعضهم بعضاً إلا في النوادر عند ممارسة الرياضة أو خلال الدّخول والخروج.

في نهاية السنة الثالثة، يشتري التلامذة الحسام، تماماً كما يشترون بدلات السنة الأولى. حينها فقط، يعرف التلامذة أن كلّ قسم منهم سيرتدي بذة مغايرة، فطوال السنوات الثلاث لا يفرّق تلامذة ضبّاط الجيش أنفسهم عن تلامذة قوى الأمن أو الأمن العام أو أمن الدّولة. التدريب والبرنامج نفسه يطبق على الجميع.

يرفع هؤلاء قبعاتهم الى الأعلى ويمضون إلى حيث تكون خدمة الوطن. ولو أن رمي القبعات مؤجل، وفي القلب غصّة عدم الاحتفال بالتخرّج في ظلّ عدم وجود رئيس للجمهوريّة.