IMLebanon

وطن للحياة  

كنّا لا نزال في تداعيات حرب السنتين (أواخر سبعينات القرن الماضي)، وفي لقاء في دارة السيدة المميّزة ميرنا البستاني في لندن، وفي حضورها وحضور المغفور له الرئيس صائب سلام، تحدث وزير خارجية بريطانيا الأسبق جورج براون، الذي أقصوه عن الوزارة لأنه تحدّث بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، فقال: أنتم في لبنان شعب حيّ، وقد أقمتم وطناً للحياة. والأوطان لا تحيا بجمادها بل بشعوبها الحيّة. وأسطورة طائرة الفينيق الذي إنبثق إسمه من أجداد أجدادكم القدامى إنما تنطبق عليكم أكثر من أي شعب آخر.

إستحضرت هذا الكلام الذي قاله مستر براون، في جملة ما تناوله بحديثه من آراء قيّمة، وأنا أرى الى المعادلة الفريدة بين جرود تشتعل بالنار، وسهل لا يبعد عنها سوى كيلومترات محدودة يتلألأ بالنور في مهرجانات بعلبك الدولية، ناهيك بأضواء ومضامين المهرجانات التي تحفل بها المدن اللبنانية والقرى والبلدات كلها في هذا الوطن الصغير، من أقصاه الى أقصاه.

إنّ لبنان، وطن القيمة والفرادة في العالم كله. الوطن الذي ابتكر مؤسّسوه صيغة خلاّقة وميثاقاً فذاً ما خرجنا عليهما يوماً إلاّ كان الثمن مرتفعاً جداً، وما لجأنا الى أفيائهما إلاّ كان الخير الآني والآتي.

والحدث الكبير في الجرود يأتي تعزيزاً لهذا الرأي ولا يناقضه. وأي خروج عليه لن يكون في مصلحة أحد. فلقد أثبتت تجارب التاريخ، حلوها ومرّها، إننا نلوذ، في النهاية بوحدتنا الوطنية التي لا غنى عنها. إذ إنّ التنكر لها أو ضربها لا ينتج إلاّ جماعات من الخاسرين. ومن يخطِىءْ التقدير ويظن أنّه سيتفرّد بالربح، أو سيربح على حساب خاسر، يلقَ النتيجة التي لا ترضيه.

والوطن الذي لا يموت يجب أن يحيا بأطيافه كلها. فلا حياة لطرف أو طيف بذاته. إنما الحياة، في الأوطان، هي عملية تفاعلية بين الجميع. من هنا نرى أن نردد ما قلناه، ها هنا، مراراً وتكراراً بأنّ المسلم اللبناني هو أهم مسلم في العالم قاطبة. والمسيحي اللبناني هو أهم مسيحي في العالم قاطبة… وما يحدث في حقب التاريخ من إحتكاك بين الأطياف اللبنانية يكون منطلقه، دائماً، سياسياً حتى ولو إتخذ المنحى الطائفي حيناً والمنحى المذهبي حيناً آخر. وفي تقديرنا أن هذا الإحتكاك، وبالذات عندما تصدر عنه شرارات حارقة (1958 و 1975 وسواهما من محطات الصدام الحارق) إنما من شأنه ان يبلور الشخصية اللبنانية، وان يصهر اللبنانيين المسلمين والمسيحيين في بوتقة الوحدة الوطنية.

في هذا السياق نفهم أحداث الجرود. ومن هذا المنطلق ننظر إليها، ونرى أن لا بديل عن وحدتنا الوطنية مهما كانت النظرة متباينة بين فريق وآخر. وإذا كان التباين في وجهات النظر حقاً مشروعاً، فإنّ التمادي في التباين ليصبح خلافاً وطنياً كبيراً هو الشر المستطير.

ونحن من الذين يتبنون قول فخامة الرئيس العماد ميشال عون الذي يتوقع ايجابيات من الحدث الميداني في الجرود…

حقاً، إن لبنان هو وطن للحياة.