IMLebanon

رجل من طينة وطن

طوى سمير فرنجية أمس، سيرة حياة مليئة بالوفاء وبعشق الأوطان. حياة إنهارت خلالها أحلام وولدت فيها الآمال. رجل من طينة هذا الوطن شغلته السياسة منذ ان وعى على هذا العالم المتحوّل على الدوام، فجعلها منفذاً للتواصل مع الناس وهمومهم. أخافه لبنان بقدر ما أحبّه، لدرجة جعله هاجسه الأبرز وربما الأوحد وجعل الدفاع عنه ضمن أولوياته العقائدية والسياسية والإنسانية، حتى ولو أدخلته هذه الهموم في الكثير من الاحيان، في معارك سياسية مع خصومه السياسيين، ووضعته في نظرهم في خانة لا تليق بأمثال سمير فرنجية ولا بدوره الوطني الطليعي ولا حتى بمبادراته الإنقاذية سواء الجماعية أو الفردية.

في زمن الرئيس الشهيد رفيق الحريري ساهم سمير فرنجية إلى جانب الراحل السيد هاني فحص بـتأسيس «المؤتمر الدائم للحوار» برعاية الرئيس الشهيد وذلك بعد إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بداية التسعينيات. ثم شارك في العام 2001، بتأسيس «لقاء قرنة شهوان» المناهض للوجود السوري آنذاك والمُعارض للتمديد للرئيس السابق إميل لحود، بالإضافة إلى أنه كان أحد أبرز الوجوه التي أسّست لقاء «سيدة الجبل» إلى جانب مستقلين. كما عاصر سمير فرنجية المولود في مدينة زغرتا في مثل هذا اليوم 12 نيسان، كبار السياسيين في لبنان، فكان صاحب الرأي الحكيم والموقف الصلب والرجل الذي لا تُلهيه مشاكل الدنيا عن عمله الوطني، وهو الأمر الذي ميّزه وأدخله إلى الندوة البرلمانية عام 2005 عن المقعد الماروني. فكيف لا تجتمع كل هذه الصفات برجل والده الزعيم الراحل حميد فرنجية أحد قادة الإستقلال، وعمّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية.

رجل له في كل ميدان بصمة ووقفة عزّ. خاض العديد من التجارب والهدف كان واحداً وهو الحفاظ على إستقلالية لبنان وتنوعه الطائفي. الجميع غرف من معرفته، من اليسار في مواجهة العدو الإسرائيلي واحتلاله لمناطق لبنانية إلى إنتقاد الدور الفلسطيني الخارج عن إرادة الدولة اللبنانية وصولاً إلى تتويج مسيرته النضالية، بمواجهة نظام الوصاية السوري بكل أشكاله.

بعد إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، كان سمير فرنجية في طليعة القياديين الذين شقّوا الطريق إلى «إنتفاضة الإستقلال» في عام 2005. لكن هذه التوليفة التي حمت لبنان في أصعب مراحله وفي أشد اللحظات الحرجة، لم تمنعه من إنتقاد مسارها في بعض مراحلها على الرغم من إنتخابه رئيساً لـ«المجلس الوطني» لقوى «14 آذار». لكن كثيراً ما كان يُفسّر إنتقاده على أنه الناقد الخائف على ثورة الحلم المنشود بالخلاص للبنانيين كافة.

سمير فرنجية الرجل الذي عُرف بنضاله السلمي وبُعد رؤيته ونقده الصادق والحقيقي حتى لمن هم من المُقربين اليه، كان يؤكد في كل مرة، أن ثمة هناك خطّاً فاصلاً بين المرجعيات الروحية التي تدعو إلى التواصل مع الآخر، والمرجعيات المهتمة بجماعتها فقط. وكثيراً ما كان يلتقي الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين خصوصاً لجهة كلامه الأساسي والوضح حول مستقبل الشيعة في لبنان والعالم العربي. وعلى الخط نفسه كان يلتقي مع كلام البطريرك نصرالله بطرس صفير ودعواته الإنقاذية للبنان واللبنانيين. وكان عبّر سمير فرنجية أكثر من مرة، بأن «الدين هو أسلوب لدفع الإنسان ليعيش بسلام مع الآخر».

أتعبته «الدويلات» وأخذت من راحته الذهنية والجسدية بقدر ما أنهكه المرض في الفترة الأخيرة والذي بدا عليه بشكل واضح في تشرين الأول من العام 2016، يوم تم تكريمه في قصر الصنوبر في احتفال ضمَّ جمعاً من محبيه بدعوة من السفير إيمانويل بون الذي قلّده يومها وسام الشرف الفرنسي من رتبة «كومندور» باسم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. فبقدر ما كان الخلاف المسيحي – المسيحي يؤرقه ويُخيفه، ويجعله على الدوام في أقصى حالات درجات الإستنفار السياسي والفكري ابتداءً من قوله أن «على المسيحيين بلورة خطاب الخروج من كل مشاريع التحالف ضد الاكثرية»، كذلك إنشغل بالخلاف الإسلامي – الإسلامي، فكان يؤكد أن «ما يحصل في سوريا هو نهاية النظام، فإمّا أن نسعى في ما بيننا للاجتماع أو نحمّل هذا النظام مسؤولية الهروب لطي الصفحة، وعملياً يجب على 14 آذار التوجه نحو الطائفة الشيعية لا نحو حزب الله ولا حركة امل، لإيضاح مشروعها وهو رفض أي صراع سني ـ شيعي لأن هذا الصراع يدمرنا».

سار في تظاهرات «14 آذار». كان رفيقاً للشبان وأباً وأخاً للشابات. «هذا جيشنا ودمنا ولحمنا». «هذا أملنا الوحيد ومستقبلنا المُشرق». بهذه الكلمات يحضّ المتظاهرين على التعامل مع الجيش اللبناني الذي فتح الطريق أمامهم للعبور إلى «وسط بيروت» يوم استبدلوا الدماء التي كانت تنزف في زمن الوصاية، بالورود الحمراء التي وزعوها على جيش الوطن وحاميه. هذا هو سمير فرنجية الوثائقي السياسي والأديب. حائك التحالفات الذي ارتفعت معه السياسة لتصبح فعلاً ثقافياً، ومعه ارتقت الممارسة لتصبح الوطنية نهج حياة. رجل لكثرة خوفه من مجهول يتربّص بالوطن وقادته، توجّه ذات يوم إلى الرئيس سعد الحريري يوم كان خارج الوطن بالقول «بصرف النظر عن تعرضه للخطر أم لا، فأنا مع بقائه خارج لبنان فاذا لا سمح الله، تعرض لأي سوء، فهذا يعني أننا وقعنا بفتنة مذهبية، لا أحد يعرف كيف ستكون نهايتها».

سمير فرنجية، رجل الفكر وحامل رسالة الحوار وأحد أهم الساعين إلى تحقيق السلام في وطنٍ اعتادَ كلَّ أنواعِ الانقسامات: المناطقية، المذهبية، الطائفية وحتى الطبقية، كانت منحته أكاديميّة هاني فحص للحوار والسلام في نهاية العام 2016، جائزة هاني فحص لصنّاع السلام في دورتها الأولى، تقديراً لعطاءاته ومبادراته في هذا المجال، هو صاحب مقولة: «يا معتدلي لبنان، في كل الطوائف وكل المناطق، اتحدوا».

في مثل هذا اليوم، 12 نيسان 1945، وُلد سمير فرنجية وبالأمس رحل مُخلّفاً وراءه إرثاً وطنياً لن تمحوه السنوات ولن يمر عليه التاريخ مرور الكرام. سمير فرنجية، إن شاهدتموه من الآن وصاعداً على شاشات التلفزة وإن قرأتم أفكاره على صفحات الجرائد، فلا تحسبوه وريث زعامة سياسية أو سياسياً هبط بـ «البراشوت»، بل تعاملوا معه كرجل حوار وصاحب مواقف وتضحيات لا يُمكن وزنها إلا بالفكر والنقاش الهادف.. سمير فرنجية، رجل من طينة هذا الوطن، قال كلمته و..مشى.