IMLebanon

جرود عرسال: لا صوت يعلو فوق صوت البندقية

تُسابق العملية العسكرية التي أطلقها حزب الله في جرود عرسال المسار السياسي لحلّ الأزمة السورية، وتتسارع محاولاته لتحقيق إنجازات علّه يستطيع ملاقاة أو تجاوز وتيرة الخصوبة الأميركية الروسية في استيلاد مناطق خفض التوتر على أنقاض سوريا الأسد. ليس من قبيل الصدفة أن تُعلن ساعة انطلاق الهجوم على الجرود بعيّد إعلان الجمهورية الإسلامية في إيران أنّها غير معنيّة بالإتفاق الروسي الأميركي الأردني حول تثبيت منطقة خفض التوتر الأولى في جنوب غرب سوريا، والذي أعقبه وصول 400 جندي روسي لتنفيذ الإجراءات الميدانية، التي بدأت فعلاً يوم أمس بإقامة مجموعة من نقاط التفتيش ونقاط المراقبة. الإتّفاق الذي ترافق مع إعلان صريح من راعيَيه أنّ المنطقة المذكورة ستكون خالية من أي وجود لفصائل مسلّحة تابعة لإيران، كان أول الغيث لينهمر بعده سيّل من مناطق خفض التوتر بدأت من إعلان وزارة الدفاع الروسية، من القاهرة، إقامة المنطقة الثانية في غوطة دمشق مع كامل الإجراءات التنفيذية، أعلن على أثرها كلّ من النظام السوري والمعارضة في الغوطة الإلتزام بوقف إطلاق النار، وليليها الإعلان عن منطقتين ثالثة ورابعة سيتمّ تحديدهما رسمياً في كلّ من الرقة وإدلب.

تضيق الجغرافيا السورية شيئاً فشيئاً على الطموحات الإيرانية، حيث يبدو أنّ حساب الحقلين الأميركي والروسي لا يتطابق مع حساب البيدر الإيراني، فالقوّتين الراعيتين غير راغبتين لغاية الآن في أي دور عسكري لإيران في الداخل السوري، وبتعبير أوضح ربما تسعى القوّتان إلى إقصاء إيران عن الجغرافيا السورية حيث لا يُمكن أن يتعايش النفوذ الإيراني مع الطبيعة الطائفية للسكان، مما يُنبئ أنّ النفوذ الإيراني سيقتصر على ما سيتبقى من الجغرافيا السورية بعهدة من سيتبقى من النظام، وبمعنى آخر تحميل إيران ورثة النظام وتركته.

تبدو معركة جرود عرسال كإشتباك إيراني مع مشروع التسوية الدولي، حيث تحاول إيران المناورة بالاتّجاه المعاكس للرزنامة الدولية. وبهذا المعنى فإنّ الهدف من دمج القلمون السوري مع جرود عرسال هو توسيع رقعة السيطرة الإيرانية نحو الداخل اللبناني بما هو تعبير واضح عن ردّة الفعل الإيرانية وبما يمكن أن يعزّز إمكانية التأسيس لدور ما لطهران التي تطمح أن تُدرج على لائحة العواصم التي تُعلن منها التسويات.

على المقلب الآخر، يسابق رئيس الحكومة الشيخ سعد الحريري العملية العسكرية في جرود عرسال منذ إعلان انطلاقها. مخاض الصعوبات والتّحديات ابتدأ مع محاولة اتّخاذ القرار المناسب للرد على مبادرة حزب الله، فقبول المعركة يعني التسليم بدور حزب الله وبمشاركته في الحرب السورية، كما يعني شطب كلّ الإتهامات السابقة حول تفرّد الحزب بقرار الحرب. ورفض الحرب يمكن أن يشكّل مادة دسمة لاتهاماتٍ خبيثة أقلها الرغبة ببقاء المسلحين في الجرود، هذا إلى جانب استحالة القبول بعملية عسكرية يشارك بها الجيش جنباً إلى جنب مع حزب الله. قرار تكليف الجيش بحماية بلدة عرسال ومخيمات النازحين السوريين كان بمثابة تلمسّ الطريق الذي يخفف من استباحة الميدان من قِبل حزب الله، ويثّبت دور الجيش بما يُمليه الواجب الوطني، دون أن يرتقي هذا الدور إلى مستوى المسؤولية الوطنية بضرورة إعلان موقف رسمي من حرب الجرود.

السباقان المذكوران يبدوان على وشك التقاطع في محطة أكيدة. حرب الجرود هي ساحة عبور إلزامية للفريقين المتسابقين كلّ نحو أهدافه. رئيس الحكومة بما يمثّل من شرعية وموقف سياسي رافض لتورط حزب الله، المتمسّك بالحق الحصري للقوات المسلحة اللبنانية باستعادة السيطرة على الحدود الشرقية والمُدرك لعدم إمكانية تحويل ذلك إلى قرار سياسي حكومي، يحاول أن يظهر، خلال زيارته لواشنطن، بمظهر القادر على الإقناع بإمكانية إضطلاع الدولة بمسؤولياتها في الإمساك بالحدود الشرقية. وحزب الله ومن خلفه إيران، يحاول من جهته تحقيق نصر ما ولو جزئي في حال تعثّر القدرة على تسجيل انتصار بالمعنى الواقعي للكلمة، نتيجة الجغرافيا المعقدة للجرود والبنية التحتيّة لمسلحي الجرود. حزب الله بدأ التسويق لمرحلتين للحرب، الأولى مخصصة للنصرة والثانية لداعش، وربما يذهب إلى إعلان انتهاء المرحلة الأولى من تحرير الجرود خلال أيام قليلة بعد إعلانه عن تحرير خمسة وستون بالمئة من الجرود على أن تُستكمل المرحلة الثانية في الوقت الذي يحدّده الحزب، مما يعني تعايش طويل الأمدّ بين حزب الله والنصرة وداعش في الجرود وإدخال المنطقة «المحررة» بما يشبه الحزام الأمني الذي عرفناه في الجنوب وبما يكرّس منطقة عمليات دائمة تشبه إلى حدّ كبير وضع الشريط الحدودي ما قبل العام 2005. بمعنى آخر اخضاع المنطقة بسكانها ومواردها لقيود وإلزامات يعود لحزب الله وحدة تقريرها على طريقة «لا صوت يعلو فوق صوت البندقية».

نجاح حزب الله في معركة الجرود سيرسم الحدود والقيود لحركة الدولة اللبنانية. قد لا تستطيع العملية العسكرية في القلمون وجرود عرسال أن تُلبّي الطموح الإيراني الإقليمي لأنّ التسويات على الساحة السورية تُصاغ بمشاركة الدول الكبرى. ولكنها بالحدّ الأدنى قادرة على الفوز بلبنان واحتواء قراره السياسي والامني وتكرار تجربة الجنوب على الحدود الشرقية وإن اختلف العدو.

فهل تطبّق على جرود عرسال تجربة «لا صوت يعلو فوق صوت البندقية»؟

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات