IMLebanon

بعد نيس… تفكير فرنسي جديد في الإرهاب والإسلام

بعيداً من السجال الدائر بين تيّارَي؛ اليمين من جهة والتيار الاشتراكي واليساري الفرنسي من جهة ثانية، في شأن عملية نيس الإرهابية وارتباط هذا السجال الواضح بسباق هذه التيارات للوصول إلى قصر الإليزيه خلال انتخابات اقترَب موعدُها، فإنّ المستويات الأمنية الفرنسية وما يرتبط بها من مراكز أبحاث، تحاول مقاربة قضية تعاظُمِ سياق الإرهاب في فرنسا انطلاقاً من معايير أبعد من سياسة سجالية وذات صلة برسم مفاهيم ابتداعية ثقافية وسياسية وأمنية تُمكّن باريس من كسبِ المعركة ضد عدوٍّ غيرِ مسبوق وله وجود بين ظهراني المجتمع الفرنسي، ويُعبّر عن حالة عالمية عقائدية صاعدة تتغذّى من منظومة مفاهيم مركّبة يمتزج فيها السياسي بالديني، والتاريخي بالاجتماعي.

ما هما أبرز خلاصتين تسودان حالياً بيئات التفكير الفرنسية الأمنية الأكثر عمقاً في تحليلها للإرهاب الذي يضرب فرنسا:

أوّلاً – لم تتوهَّم هذه البيئات الفرنسية للحظة خلال الفترة الماضية بأنّ موجة الإرهاب الإسلامي التكفيري الذي يضرب فرنسا قد انحصَرت أو وُهنَت، أو أنّها قصيرة المدى. وطوال الأشهر الأخيرة التي تلت عملية «ستاد باريس» كان هناك انتظار فرنسي لضربة إرهابية جديدة، وكان التوقّع أنّها ستتمّ بأسلوب استخدام السيارات المفخّخة على نحو ما يَحدث في سوريا والعراق. وساد اعتقاد أنّ ما يُؤخّر شنَّ هجوم من هذا النوع هو وجود نقص لدى مؤيّدي «داعش» في فرنسا على مستوى امتلاكهم خبرات كافية في مجال تفخيخ السيارات.

ويتّضح الآن، أنّ المستوى الأمني الفرنسي لم يتوقع اللجوء إلى أسلوب الدهس؛ علماً أنّ هذا الأسلوب يستخدمه الفلسطينيون للردّ على تجاوزات الاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة. وأمنياً يُعتبَر هذا الأسلوب محاولةً مِن منفّذيه لتجاوزِ مشكلة عدم وجود اتّصال وثيق بين المنفّذ وقيادة مركزية توجّهه لوجستياً، ومكمنُ الخطورة فيه أنّه يَنقل التهديد إلى مرحلة التهديد الشخصي لكلّ مواطن في المجتمع المستهدف، وليس فقط تهديداً عامّاً للمجتمع.

وعليه، يمكن الاستنتاج أنّ أفراد «داعش» في فرنسا الذين يعانون نقصاً في مجال امتلاك خبرات التفخيخ وصعوبة الاتصال اللوجستي بالقيادة الموجّهة لهم نتيجة فرض مراقبة أوروبّية أمنية منسّقة ومكثّفة على اتصالات الرقّة وليبيا بعناصر «داعش» حول العالم، عوّضوا ذلك باللجوء إلى أسلوب «الدهس» الذي لا يحتاج إلّا إلى بعض الإمكانات المالية وقرار ذاتي بالتنفيذ بناءً على توجيهات عامّة لقيادة «داعش» يصدِرها البغدادي في بيانات، وليس توجيهات مباشرة للمنفّذ.

تقنياً، تَنقل أوساط مطّلعة على تفكير المستوى الأمني الفرنسي، عنه، اعترافَه بوجود صعوبة في العثور على الإرهابيين قبل تنفيذهم عمليات القتل؛ نظراً لكونهم يعملون بأسلوب لا يشبه تجاربَ الحركات العنفية السابقة لهم (مثل جماعة أبو نضال أو كارلوس أو وديع حداد، ألخ…)، بل هم يدشنّون تكتيكات جديدة لا تزال غيرَ مكتشَفة بكاملها حتى الآن.

وعليه فإنّ مبادرةَ البَدء والمفاجآة لا تزال في أيديهم بنسبة عالية. كما أنّ هؤلاء الإرهابيين ليس لهم نمطٌ محدّد، فوجودهم ليس محصوراً ببقعة ديموغرافية أو اجتماعية محدّدة، ذلك أنّ قواعدهم الدينية الواسعة الانتشار توفّر لهم مروحةً واسعة من مساحات التنقّل والاختباء والانغماس.

أضِف إلى ذلك بروزَ ظاهرة «التطرّف السريع» لدى منفّذي الأعمال الإرهابية. فمثلاً محمد بو هلال منفّذ عملية الدهس الأخيرة في نيس، انتقلَ إلى حالة التطرّف في غضون أسابيع قليلة، حسبما تُظهر المراجعة الأمنية لسلوكه.

وعلى رغم ما تقدّمَ، إلّا أنّه باتت هناك بدايات في فرنسا، لوضعِ أنماط تصنيف للإرهابيين، تساهم في المساعدة على الاستدلال عليهم قبل تنفيذهم أعمالَهم الإرهابية، أهمُّها حتى الآن أنّ جميع الذين ينفّذون عمليات إرهابية هم فرنسيون تنتمي جذورهم إلى شمال أفريقيا (مغاربة) وليس بينهم فرنسيون من أصول مشرقية عربية (سوري ولبناني وفلسطيني)؛ فهؤلاء في حال أرادوا تنفيذ أعمال إرهابية فإنّهم يفضّلون السفر لـ»الجهاد» في سوريا.

والواقع أنّ هذا الاستنتاج موجود أيضاً لدى قيادة التحالف الدولي التي تقاتل «داعش» في سوريا والعراق، وفي آخِر اجتماع عَقده مبعوثون عسكريون لدول التحالف في الولايات المتحدة الأميركية قبل شهر، لاحظوا أنّ ليبيا وليس سوريا باتت هي نقطة جذبِ الإرهابيين، ليتمّ منها توجيههم للعمل في الدول الغربية. سوريا أصبحَت نقطةً جاذبة لهجرة الإرهاب إليها (تماماً كأفغانستان نهايات أيام احتلال السوفيات لها)، فيما تؤدّي ليبيا الآن وظيفة نقطة الجذب العقائدي واللوجستي لتصدير الإرهابيين إلى العالم كلّه.

ومِن التفسيرات المعطاة لواقع أنّ الإرهابيّين في باريس هم بأكثريتِهم فرنسيون من أصول مغربية، هناك تفسير يَعزو ذلك لكون تاريخ الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي عموماً، وفي الجزائر خصوصاً، يسهل على «داعش» استعادته الآن، لتعيدَ إنتاجه على نحو يساهم في بناء تأويل ديني – تاريخي يُعزّز نظرية خوضِ جهادٍ ضدّ فرنسا خصوصاً، وأيضاً ضد أوروبا.

ثانياً- وهو الأمر الأهم، يتعلّق بتشخيص البنية العقائدية للعدوّ الإرهابي المتّسم بأنّه إسلامي. بمعنى آخر مَن هو هذا العدو كما يجب أن تفهمه فرنسا ومعها أوروبا؟ وكيف يمكن مواجهته؟ وبأيّ أساليب؟

تقول النظرية المستجدّة والتي لها مؤيّديها داخل مراكز الأبحاث التابعة للمستوى الأمني الفرنسي، إنّ الأعمال الإرهابية التي تضرب الشرق الأوسط والعالم، تقود إلى الاستنتاج بأنّ الإسلام ليس ديناً بل عقيدة سياسية لها بُعد دينيّ، وأنّه أشبه بنظام سياسي يتمّ تلقينُه للأجيال الجديدة والأولاد.

بكلام آخر فإنّ الإسلام، حسب تحليل بيئات التفكير الفرنسية التي يشترك فيها علماء أمن وتاريخ وثقافة، هو منظومة سياسية لها بُعد ديني، وليس ديناً له تأويل سياسي، وعليه، يجب «مواجهته سياسياََ» وليس أمنياً، والأسلوب الأفضل هو أن يُشجّع الغرب الحروب البينية داخل طيف الحالات الإسلامية المتنوّعة.

قبل نحو أسبوعين، نَشر مجلس النواب الفرنسي تقريراً تداوَله المتخصّصون، ويقع في ٨٦٤ صفحة حول فرنسا والإرهاب، وضمَّنه آراءً لرئيس جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية «كالفا». وترى أبرزُ أفكاره أنّ تعاظم العمليات «الإرهابية الإسلامية»، سيؤدّي إلى صعود كبير لليمين الفرنسي المتطرّف، ليس فقط في فرنسا، بل في كلّ أوروبا. وسيقود هذا الأمر خلال فترة ليست طويلة إلى حصول حالة من الاحتراب العسكري بين التطرّفين الفرنسي الإسلامي واليميني.

وعزّز نظريته هذه بلفتِ النظر إلى أنّ القاعدة الاجتماعية لليمين في فرنسا تمتاز بأمرين يشجّعانها على الصدام العسكري مع المسلمين في فرنسا، الأوّل أنّها عقائدياً تنحاز إلى كاثوليكيتها المتشدّدة أكثر ممّا هي منحازة إلى الأمّة الفرنسية وقوميتها. والثاني أنّها «معسكرة»، لأنّ نسبةً ليست قليلة من بين محازبي اليمين الفرنسي المتطرّف هي ضبّاط وجنود سابقون أو حاليّون في الجيش الفرنسي ولديهم خبرة عسكرية.

وفي نظر «كالفا»، إنّ الحلّ يَكمن في أن تبادر الدولة الفرنسية إزاء هذا الخطر، إلى تنفيذ استراتيجية «البطش العلماني الديموقراطي» الموجَّه ضد اليمين المتطرّف والإسلام المتطرّف على حدّ سواء. وتشتمل تطبيقات هذه الاستراتيجية على إقفال مساجد في فرنسا يثبت أنّ تمويلَها مشبوه، واعتقالِ أئمّتِها المغالين دينياً وشنِّ حملات اعتقال ضدّ المتطرفين الفرنسيين اليمينيين والإسلاميين على حدّ سواء…

ويتّضح ممّا تقدّمَ أنّ بيئة التفكير الفرنسي المسؤولة عن صوغ رؤية استراتيجية لمواجهة الإرهاب الراهن الذي يضرب فرنسا، تنزَع إلى التعامل مع الإسلام بصفته منظومةً سياسية لها بُعد ديني وليس العكس، وتتّجه أيضاً إلى اعتبار أنّ المواجهة الأمنية لن تحلّ المشكلة حتى لو تحوّلت فرنسا دولةً بوليسية، بل إنّ الحلّ يَكمن في اتّباع خيارَين: خارجياً شنُّ مواجهة سياسية تُشجّع نشوبَ حروب بينية بين كلّ حالات الطيف الإسلامي في العالم بكل تياراته، وهذا الأمر يُطرح بصفته استراتيجية دفاعية ضدّ الإرهاب، لأنّ ما حتَّمه هو اكتشاف أنّ جوهرَ الإسلام يتمثّل في أنّه منظومة سياسية لها بُعد ديني، وليس العكس. وداخلياً؛ أن تطبّق الدولة الفرنسية «نظرية البطش العلماني الديموقراطي» ضدّ الفرنسيين المتطرّفين الإسلاميين واليمينيين على حدّ سواء.

السؤال المهم الذي يطرح نفسَه في هذا المجال هو عمّا إذا كانت هذه النظرة إلى الإسلام على أنّه منظومة سياسية يجب مواجهته سياسياً عبر تشتيته بحروب بينية داخلية تؤدّي في النهاية لإضعافه، هي فكرة مستجدّة في الغرب ولا تزال قيد التبَلوُر وغير معتمدة رسمياً بعد، أم أنّها فكرة كانت موجودة في الأساس، ولكنّها غيرُ معلنة، وهي المسؤولة عن تحريك الخيوط الخفيّة لأحداث المنطقة في السنوات الأخيرة!؟