IMLebanon

عكار بلا «مستقبل»

 

السياسيون في مكان، والناخبون في مكان آخر بعيد جداً. أحد هذه الأمكنة هو سهل عكار الذي يستفيد من نسيان الدولة ليحافظ على مساحاته الخضراء وشاطئه وحياة الناس البسيطة. يُسأل هؤلاء عن الانتخابات المقبلة، فيبادرون إلى السؤال عمّن سيتنافس فيها، فلا تيار المستقبل برأيهم حاضر هنا ولا أي أحد آخر

لا يحول التساقط الناعم لبعض قطرات المياه دون خلعهم أحذيتهم والركض صوب البحر. يتركون أكياس الخيش الكبيرة التي ملأوها بتنك المشروبات الغازية عند طرف الشاطئ ويركضون بحماسة لملاقاة السعادة لبضع دقائق. يملأ صخب فرحهم المكان.

ينضم إليهم بائع غزل البنات بعد أن يثبّت في الرمل العصا التي يعلق عليها الأكياس الملونة. كأنهم لا يشعرون ببرودة الطقس ولا يتحسبون لصعوبة تجفيف ملابسهم. أكبرهم في الثالثة عشرة من عمره، يقول إن «الشغل متراجع»، لكن لا حل آخر. ففي بيروت، كما يقولون، لا يبدأون بتوظيفهم في المطاعم حتى عمر الخامسة عشرة. بيروت، بالنسبة إليهم، حلم كبير يعلمون أن لديهم في جيبهم ما يكفيهم للوصول إليه بأحد الفانات الصغيرة، لكنهم يخشون الضياع. بعدهم، يمتد شاطئ هادئ لا تشوبه أي مخالفة. ترعى بعض الأبقار على أطرافه وتتكدس النفايات في بؤرة أخرى. لا أحد يغامر بإنشاء منتجع سياحيّ بحريّ هنا. من بنوا فنادق بمحاذاة الأنهر كان يعضّون أصابع أيديهم ندماً حتى وصلت تجارة الجنس إلى الأقضية البعيدة وامتلأت الغرف. الحركة الحدودية من سوريا وإليها تراجعت كثيراً على هذا الخط، لكن التجار الذين كان يأملون أن يلعب مرفأ طرابلس دوراً أكبر في تدمير سوريا، سمعوا تأكيدات بأن دوره سيكون أكبر في إعادة الإعمار.

الطريق في اتجاه مطار القليعات شبه مهجورة هي الأخرى؛ مشكلة الحراكات الشعبية أنها تنطلق، ثم تهمد بالطريقة المفاجئة نفسها. يخلط الشباب دوماً بين نقطة الانطلاق وخط النهاية، فيعتبرون التظاهرة أو الاعتصام نهاية الحراك لا بدايته. الحاجة إلى المطار تختصر بالحاجة إلى مئات الوظائف الإضافية لا أكثر. السهل حول المطار يمتلئ بالوظائف طبعاً، لكن لا أحد يعيرها اهتمامه منذ أن فعل الرئيس رفيق الحريري كل ما يلزم لإقناع الجمهور بأن الوظيفة أهم من الأرض، والسياحة أهم من الزراعة، وإتخام الإدارات بالموظفين أهم من استحداث مشاريع صناعية وزراعية جدية في كل المناطق. فراعي الغنم في هذا السهل، كما راعي البقر بقربه، وعشرات المستحدثين للبيوت البلاستيكية الزراعية لا يجدون دولة تمسكهم بيدهم وتقودهم في الاتجاه الصحيح. السهل الأخضر الذي بدأ العمران العشوائي البشع يغزوه أيضاً يمسك بالبحر المهمل بدل تحويله إلى ما يشبه شاطئ صور من جهة، وبجبال بيضاء أجمل من فقرا والزعرور من الجهة الأخرى. تحت الطريق الرئيسية وفوقها، ثمة قرى أخرى لا تصلها الكاميرات عادة ولا ترتفع في فضائها اللافتات ولا يشعر كثيرون بوجودها. يكفي هؤلاء أن يقارنوا بجدول صغير أوضاعهم الحالية بما كان يفترض أن تكون عليه ليضعوا حداً لمن يستغلون أصواتهم، لكنهم يضحكون حين يسمعون شيئاً كهذا. يجمعون العجز واللامبالاة والاستسلام واليأس والمراهقة السياسية بابتسامة لطيفة ويكملون عملهم كأن من يحادثهم اختفى فجأة. ومع ذلك، يمكن القول إن «تيار المستقبل» الذي احتكر تمثيل هؤلاء اثني عشر عاماً لم يعد أبداً كما كان في آخر استحقاق انتخابي. من كان يقول في السابق إنه مع سعد الحريري كان يقولها بفرح وحماسة وثقة مفعمة بالنفس وبالزعيم، أما اليوم فيقولونها ــ في حال وجدوا ــ بخجل شديد. موقفه السياسي يدفعهم إلى الخجل به بعدما أقنعهم هو بمعايير أخرى للشجاعة. موقفه الطائفيّ يدفعهم إلى الخجل أيضاً بعدما شبّ هو وشابوا هم على تحريضه المذهبيّ. موقف حكوماته الإنمائي من مناطقهم يخجلهم. انعدام مبادرات تياره الاجتماعية والزراعية والصناعية يجعلهم يخجلون من المجاهرة مجدداً بأنهم حريريون. في الإحصاءات التي سبقت انتخابات 2005 كان هناك بين 5 و15 في المئة فقط من المستطلعين العكاريين يقولون إنهم ليسوا مع أحد قبل بضعة أسابيع من الانتخابات. ارتفعت هذه النسبة إلى نحو 25 في المئة قبل انتخابات 2009 ببضعة أسابيع. أما اليوم فتتراوح نسبة من يقولون إنهم ليسوا مع أحد بين 40 و50 في المئة.

بعيداً عن مشاكل المستقبل المتعلقة بالخطاب الانتخابي والمال السياسي، وهي نفسها في جميع الدوائر، لا تعد مشاكله هنا أو تحصى: لا شيء حتى الآن يمكن وصفه بنواة الماكينة الانتخابية أقله، وهو ما يدفع إلى الشك بكل ما يقوله الحريريون عن رغبتهم في إجراء الانتخابات. أي طرف قادر على تعطيل الانتخابات سيقبل بإجرائها وهو غير مستعد لها؟ ماكينة التيار الوطني الحر موجودة. ماكينة القوات تعمل بانتظام. حتى مجموعات الحراك المختلفة تعقد الاجتماعات ولديها الشعارات والصفحات الافتراضية الناشطة. وحده تيار المستقبل لا يملك شيئاً من هذا كله. بعد مجموعة صيغ تنظيمية فاشلة، رسا الحريريون على هيكلية فارغة بالكامل. في عكار كلها، لا يمكن الحديث عن هيئة واحدة فاعلة؛ يسأل المناصرون قيادتهم فتقول لهم كل أول شهر إنها ستطلق ورشة تنظيمية كبيرة آخر الشهر. شهر تلو الشهر. الورشة التنظيمية عبارة عن مؤتمر لأصحاب ربطات العنق تنتهي مفاعيله قبل أن يبدأ. فالتنظيم – أي تنظيم – يبدأ بدفع الديون المتراكمة على تيار المستقبل التي تتضمن أجوراً وإيجارات مكاتب وفواتير مستشفيات ومستوصفات وصيدليات ومطاعم، يبدو واضحاً أن تيار المستقبل لا يملكها الآن.

الواضح أيضاً عدم وجود مرشح قادر على إعطاء لائحة المستقبل الزخم الذي تحتاج إليه بعد تراجع التعبئة الشعبية وهرولة الناخبين لانتخاب اللائحة الحريرية أياً كان من فيها، علماً بأن الحريري كان مضطراً في انتخابات 2009 إلى التحالف مع النائب خالد ضاهر ليضمن الفوز ويقفل باب المفاجأة، لكنه اليوم أضعف بكثير مما كان عليه عام 2009 وضاهر ضده مئة في المئة.

لا يوجد مرشح قوي أو حتى «مجرد مرشحين». الوزير معين المرعبي سبق أن قال إنه لا ينوي الترشح مرة أخرى ولم تبدأ بعد مسرحيات الوفود الشعبية التي تطالبه بالعودة عن موقفه. أما النائب خالد زهرمان ففعل ما يقدر عليه خلال ثماني سنوات. لكن من دون الدعم الحريري الماليّ، لن يكون قادراً على مزاحمة وليد البعريني في منطقته في ظل قدرات الأخير وعلاقاته العابرة للانتماءات السياسية. واللافت أن مجموعة الوجوه الجديدة التي تقول إنها تنوي الترشح تتحدث عن نيتها تشكيل لائحتها الخاصة بدل تقديم فروض الطاعة للانضمام إلى اللائحة الحريرية، كأنهم يشعرون بأن مبايعتهم الحريري تضر أكثر مما تنفع. وكان واضحاً عشية الحراك الأخير المتعلق بفتح مطار القليعات إرباك تيار المستقبل وعدم استعداده لرؤية مجموعة وجوه جديدة تدور في فلك المجتمع المدني من جهة، وتتكئ على تمثيل عشائري ومناطقي من جهة أخرى، ففعل كل ما في وسعه لإيقاف اندفاعة هؤلاء، علماً بأن المناوئين للحريري تعلموا الكثير من تجربة الوزير السابق أشرف ريفي، وحين يفكرون بلائحتهم المقبلة لا يبحثون ضمن سلة الأسماء التقليدية، إنما يبحثون عن مقاربة أخرى هذه المرة.

الحل؟ واحد من ثلاثة: تساقط الأموال على تيار المستقبل كما حصل عام 2005 بسحر ساحر فتستعيد ماكينته التعبوية زخمها الكامل، أو التحالف مع النائب السابق وجيه البعريني مع كل ما يتطلبه ذلك من تنازل سياسي، أو التفاهم الانتخابي مع التيار الوطني الحر. الأكيد أن الخيارين الأولين مستبعدان، أما الخيار الثالث فيقتضي تنازل المستقبل عن ثلاثة مقاعد على الأقل من أصل سبعة، أولها وأبرزها مقعد النائب هادي حبيش الذي سيذهب إلى مرشح التيار وعضو مكتبه السياسي جيمي جبور، وثانيها مقعد النائب رياض رحال الذي لم يترك وسيلة لتسويد وجه تيار المستقبل إلا استخدمها، إضافة إلى المقعد الأرثوذكسي الثاني الذي يفترض أن يذهب إلى مرشح القوات اللبنانية العميد المتقاعد وهبي قاطيشا.

في النتيجة، لن يتغير شيء. سيبقى المزارعون يتخبطون في مصائبهم من دون خريطة طريق واضحة. وستبقى السياسة تُختصَر بنقل مدرّس من مدرسة بعيدة إلى مدرسة قريبة من منزله، أو برفع لافتة أو بتزفيت طريق. ولعلهم سيشغّلون المطار فيكتشف المشككون أن توظيف العشرات أو حتى المئات لن يحل 0.1 بالمئة من المشكلة. المشكلة أن المنطقة تحتاج إلى مشروع اقتصادي اجتماعي سياسي لا أحد يطرحه. لن يتغير شيء، سيبقى مستقبل الأطفال هناك رهناً بتنك المشروبات الغازية التي يرميها السائقون من النوافذ.