IMLebanon

مقبرة نازحين» في البيسارية: المئات مهدّدون بالموت اختناقاً… أو تحت الأنقاض

يعيش اللاجئون في مجمع «البيبسي» في بلدة البيسارية الجنوبية بخوف دائم. في أي لحظة قد ينهار المجمع على قاطنيه بعدما تهاوت حتى اليوم أسقف عدّة وبات الحديد ظاهراً من الاسمنت. المهندسون الذين أرسلتهم الجهات المختصة قدّروا ان يبقى المبنى صامداً بين 6 أشهر وسنة، لافتين الى خطورة انهياره الجدية. وسط كل هذه المخاطر لا أحد يهتم فعلياً لمصير 600 لاجئ يسكنون تحت الأرض

إيفا الشوفي

اللاجئون يسمّون المكان «مخزن». تحت الارض يوجد مخزنان ضخمان منفصلان. في كل منهما ممر طويل تتناثر على طرفيه معابر ضيقة مظلمة. في هذه المعابر التي تشق طريقها تحت الأرض تتوزع غرف اللاجئين الصغيرة؛ نحو 5 «بيوت» في كل معبر. غرف مظلمة كسواد الليل.

الشمس لا تجد طريقها إطلاقاً الى الداخل. حتى الممر الكبير الذي يقسم المخزن الى نصفين لا ضوء فيه سوى من المدخل والمخرج. يمكن تشبيه الأمر تحديداً كأناس يقطنون في نفق. لا هواء هما ليتنشقه من يريدون فقط أن يبقوا على قيد الحياة. في الشتاء يزداد الوضع سوءاً إذ تغرق مياه الصرف الصحي السكان، ويتحول المكان أشبه بمستنقع كريه.

تحت أثقال أطنان الخشب التي تمر يومياً فوق رؤوس القاطنين، يعيش نحو 600 لاجئ، بينهم 360 طفلاً، في مجمع «البيبسي» في بلدة البيسارية في جنوب لبنان. ينقسم المجمع الى قسمين: سفلي تحت الأرض، وعلوي عبارة عن محلات تجارية وشقق سكنية. القسم السفلي لم يكن يوماً مخصصاً للسكن إنما مخازن كبيرة للخشب، إضافة الى برادات للمسمكة الواقعة على مدخل ما يمكن تسميته بـ»القبو». إجابة واحدة من خالد، اللاجئ الشاب، عن وضع العيش هنا تكفي لاختصار المشهد كله: «نحنا دافنين حالنا هون». نعم، إنه قبر يعيش فيه أحياء.

لكن المشكلة أكبر من مكان غير صالح للسكن. الجميع يعلم أنّ المجمع مهدّد بالانهيار فوق رؤوس قاطنيه الـ600. إنذار بمجزرة يمكن تجنبها، لكن أحداً لم يقدّم حلولاً حتى اليوم. و»الجميع»، تعني هنا المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وعلى رأسها مفوضية شؤون اللاجئين، إضافة الى وزارة الشؤون الاجتماعية والهيئات الرسمية المحلية. حتى اللاجئون يعلمون أن الأسقف قد تسقط على رؤوسهم في أي لحظة. منذ نهاية عام 2015 تتداول جمعيات الإغاثة التي تعنى باللاجئين السوريين والسلطات الرسمية في مسألة «مجمع البيبسي» بوصفه مجمعاً «مهددا بالانهيار». أرسلت المفوضية ووزارة الشؤون الاجتماعية مهندسن للكشف على المبنى الذي أكدوا أنّه مهدد بالانهيار خلال مدة تتراوح بين 6 أشهر وسنة إن لم تتخذ تدابير لمنع الكارثة! لم يكن الأمر مفاجئاً بالنسبة للقاطنين تحت الأرض، فقد انهارت خلال السنة الماضية أربعة أسقف، واقتصر الأمر، لحسن الحظ، على إصابات طفيفة. في القسم العلوي أيضاً يظهر الحديد من بين الإسمنت. يشير أحدهم إلى درج سقط جزء من الإسمنت عنه منذ شهر ونصف، ويقول «الحمدالله ما كان في ولاد عم يلعبوا لمّا وقع». في الواقع، كل القاطنين يرددون عبارة شبيهة: «الحمدالله الأسقف التي انهارت لم تقتل أحداً».

منذ 25 يوماً انهار جزء من سقف غرفة آمنة الناصر. تقول «كنا برا بالممر وفجأة شفنا غبرة طالعة من المخزن وسمعنا طبشة. فتت لقيت السقف واقع». لم يكن أحد من الأولاد في الغرفة. لا يزال السقف منهاراً إذ لا يمكن لآمنة، ابنة الـ 21 عاماً، إصلاحه. تلفت إلى أنّ الباطون يتساقط من السقف بشكل يومي، مشيرةً إلى أن الجزء الآخر في طور الانهيار. تخاف آمنة على أولادها لكن «ما باليد حيلة»، تقول إنها «تخاف من أن يقع السطح على أولادها وهم نيام لذلك تجعلهم ينامون في الجزء الأفضل من الغرفة لتنام هي تحت السقف المنهار». كل اللاجئين هنا يخافون من سقوط السطح عليهم لكن لا خيار آخر أمامهم، إما المخازن أو الشارع، إذ ان إيجار أي منزل يتجاوز الـ 500 الف ليرة وهو مبلغ كبير لأناس هربوا من حرب طاحنة وتركوا خلفهم كل ما يملكون.

تتسرب المياه من سقف غرفة فوزة الضبي بشكل مخيف. يشعر المرء ان السقف سيسقط لا محال في أي لحظة. إمكانية التنفس صعبة جداً جراء الرطوبة الخانقة التي تظهر في سعال الأطفال الدائم. معظم الاطفال في المجمع يعانون من الربو والحساسية. تخبر فوزة أنّ «الأمم كشفت منذ فترة على المجمع وأصلحت عدداً من البيوت. أخبرتهم أن غرفتي تسرب الكثير من المياه لكنهم قالوا: ما بيأثر». تعلم فوزة أن المبنى غير صالح للسكن «فالأمم أخبرونا بذلك وقالوا انهم سينشئون مجمعات لنقلنا إليها لكنهم لم يفعلوا شيئاً».

عام 1984 تمّ بناء المجمع، وفق ما يروي بسام ملاح القاطن فيه منذ عام 1993. أسباب عدّة أدّت الى وصول المبنى الى الحالة المزرية التي هو عليها أبرزها تجمّع المياه بشكل كبير على سطح القسم الأرضي ما أدّى الى اهتراء الأسقف. كذلك تتوزّع في القسم الارضي محال أخشاب يُنقل إليها يومياً أطنان من الأخشاب في شاحنات تمر فوق المخازن، وتستعمل شركة البيبسي، المجاورة للمبنى، السطح كموقف لعدد من شاحناتها، ومن هنا أخذت البناية اسمها. مرور الشاحنات ذات الأوزان الثقيلة بشكل يومي على السطح أدّى الى إضعاف المبنى. برأي ملاح «إذا لم يتم اصلاح البناية قد تتشلّع لأن الحديد بات مكشوفاً في العديد من الأماكن».

مع بداية الحرب في سوريا بدأ اللاجئون يتوافدون الى مجمع «البيبسي». جميع الموجودين هناك من حمص، وتحديداً من باب عمرو. يمكن القول إن غالبيتهم عائلات وأقرباء العمال السوريين الموجودين في البيسارية منذ عشرات السنين. يملك ملاح بيانات تفصيلية عن القاطنين في المجمع، فهو ينتمي الى حركة أمل، ويقدّم نفسه معنياً بالحفاظ على الأمن والتنسيق مع اللاجئين السوريين. يفتح الكومبيوتر ويقرأ: «يقطن في المخازن 128 عائلة سورية وفي القسم العلوي 39 عائلة سورية. كذلك هناك 31 عائلة لبنانية في القسم العلوي».

يروي أبو عبدو أنّه قبل الحرب كان هناك عدد قليل جداً من العائلات في المجمع، «كانت المخازن كلها مستودعات خشب وبلشوا يأجروا اللاجئين بالـ 2012. في السنة الأولى طافت علينا مياه الشتاء والصرف الصحي واختبأنا في الطوابق العليا. إثر هذه الحادثة أتت لجنة من الأمم وأصلحت بعض الأمور، بعد هيك صارت تجي الناس».

«الامم» هو مصطلح يستخدمه اللاجئون للحديث عن «مفوضية شؤون اللاجئين». تقول المفوضية إنّ اللاجئين «بدأوا بالإقامة في مجمع البيبسي بشكل عفوي منذ عام 2013. وبسبب الظروف الصحية السيئة والاكتظاظ، حاولت في البداية نقلهم إلى موقع أفضل، لكنهم كانوا يفضلون البقاء قرب أقاربهم العاملين في المنطقة». إلّا أن اللاجئين لم يذكروا أي محاولة من المفوضية لنقلهم، بل على العكس «الناس كلها اذا صرلا محل تاني ما حدا بيقعد هون»، يقول أحد اللاجئين.

في جوابها على اسئلة «الأخبار» تعترف المفوضية ان «حركة مرور الشاحنات الثقيلة على المستوى الأول من المبنى تثير المخاوف بشأن متانة هيكلية المبنى . نتيجة لذلك، أصدر مكتب المحافظ حظر سير موقتاً في المبنى للمركبات الثقيلة». وعليه طلبت المفوضية وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية من شركة لبنانية إجراء اختبارات لتقييم سلامة هيكلية المبنى. ومن المتوقع أن تنتهى هذه الاختبارات في الأسابيع القليلة المقبلة على أن يتم إبلاغ مكتب المحافظ بالنتائج لاتخاذ الإجراءات اللازمة. كذلك قالت المفوضية إنها «قامت بتحسين الصرف الصحي والبنية في الطابق السفلي للمبنى (…) وقدمت مساعدات بناء على تقييم للاحتياجات». كما كان «دائماً سوء أحوال الصرف الصحي والمأوى في الطابق السفلي موضع قلق للمفوضية وغيرها من الجهات الفاعلة، لذا هدفت التدخلات إلى تأمين الالتزام بالحد الأدنى من المعايير».

لكن يبدو ان قرار «حظر سير المركبات الثقيلة» لا يعلم به أصحاب الشاحنات الذين يمرون بشكل طبيعي فوق المبنى. مع بداية فصل الصيف عادت فاطمة حمود إلى «غرفتها» في المخزن. أنهت إصلاح المكان بعدما انهار السقف بالكامل عليها وعلى طفلتها أواخر الشتاء. في غرفتها، يمكن سماع هدير الشاحنات التي تمر فوق الرؤوس، فتهتز الجدران. اعتاد الجميع على الأمر، لم يعد مرعباً لهم. يقولون ببرودة «شفتوا كيف بترج الغرفة بس تمرق شاحنة». في فصل الشتاء الماضي مرّت شاحنة على السطح، لحظات قليلة حتى انهار السقف. «لو بتشوفي المنظر ما بتقولي في ناس عايشة»، تقول إحدى جارات فاطمة. كانت فاطمة وابنتها في الغرفة في ذاك الوقت، سقط الباطون على قدم الفتاة وهشّمها، أما فاطمة فاقتصرت اصابتها على بعض الرضوض القوية. مالك الغرفة، اكتفى بعدم أخذ الإيجار منها لمدة 4 أشهر كي ترمّم هي السقف. فالقاطنون في المخازن يدفعون إيجارات تتراوح بين 150 ألف ليرة و200 الف ليرة للغرفة الواحدة. يقطن في «علبة» الباطون هذه 9 أشخاص. عندما زرنا فاطمة كان هناك 4 أفراد ناقصين. فقد اعتقل الجيش زوجها واولادها الثلاثة عقب المداهمات التي حصلت بعد تفجيرات القاع لأنهم لا يملكون المال لتجديد إقاماتهم. ينقل هذا الحدث النقاش إلى مأساة أخرى. قبل يوم من 1 آب الماضي، طوّق الجيش المجمع «بشكل مخيف»، كما يروي اللبنانيون القاطنون في المبنى، وداهمه ليعتقل نحو 35 لاجئاً لعدم حيازتهم إقامات جديدة. في ذاك اليوم، لم يكن أحد مهتماً بوضع المبنى. كانت النساء تشكي «أخذوا الشباب كلها مبارح كيف بدنا نطالعهن».

عصر يوم الخميس في 30 تموز الماضي، وضمن موجة تداعيات تفجيرات القاع، شنّ الجيش اللبناني سلسلة مداهمات لتجمعات اللاجئين السوريين. هكذا، بات الجميع متهماً. نتج عن هذه المداهمات اعتقال أكثر من 500 لاجئ في ثلاثة أيام وفق بيانات الجيش. في اليوم الثالث بعد الانفجارات، أتى دور مجمع «البيبسي». يوافق الجميع على أنّ هذه المداهمة «كانت الأوسع والأقوى». نتج عن المداهمة اعتقال نحو 35 لاجئاً «لعدم تجديدهم أوراق إقاماتهم»، وفق القاطنين في المجمع. يخاف الكبار من الحديث عن كيفية حصول المداهمة، يكتفون بالقول انهم «أخذوا الشباب»، ويبحثون عن طرق لإخلاء سبيلهم. يقولون انّه عادةً عندما يعتقل الجيش لاجئين يوقفهم لمدة أربعة ايام ومن ثم يتم اخلاء سبيلهم واعطائهم مهلة 15 يوماً لتجديد إقاماتهم والّا يتم ترحيلهم. يمتنع اللاجئون من تلقاء أنفسهم عن الخروج من تجمعاتهم عقب أي انفجار.

يعاني اللاجئون جدياً من مسألة تجديد الإقامة، تقول فاطمة «من وين بدنا نجيب كفيل لنجدد الإقامة؟ بدو مليون ليرة الكفيل». يتدخل شاب في الحديث الدائر مستنفراً «في ناس هون عندا واسطات. يعني اذا انا بشتغل عند شخص عندو سلطة، بتلفون واحد بطلع. يلي ما عندو واسطة بتروح عليه، برحلوه».

في الممر، مجموعة من الأطفال يتحدثون عمّا رأوه خلال مداهمة الجيش. يصبح الأمر «خذوا اسرارهم من صغارهم» عن مداهمات الجيش. تقول فرح «مبارح اجا الجيش وأخذوا الزلم. برموهن وحطولن عراسن شي وربطوهن من ايديهين وصاروا يقتلوهن فلقة. عملو ضجة وكسروا البواب عالعالم وحبسونا جوّا. ضلو كتير وقت. أخدوا الموتورات كمان». يتابع الأولاد رواياتهم «بيجي ناس غير الجيش، زعران بزتوا فتيش وبفلوا، مرة ولعوا عامود الكهربا. نحنا لما يجوا منقفل عحالنا بالمخازن. هني بيجو بالليل بيبرموا بالممر مسرعين والناس بتفوت بتطفي اللمبات وبتقعد عالسكت».

يقول محمد، الرجل الستيني، بغضب «والله ما منحبن ينأذوا بشي (اللبنانيين)، إذا هني بخير نحنا بخير، نحنا شو ذنبنا؟ إذا في كم سوري زعران شو ذنب العالم كلها؟ ليش بدو يروح المليون سوري الموجودين هون بسويتهن؟». تدمع عينا فاطمة وهي تتذكر أولادها الذين اعتقلوا، «نتيجة هذه الحركات بصير الواحد يفكر يعمل أمور ما كان بيعملها. كترة الشد بترخي، الإهانة هيي يلي بتجر الناس عأمور ما بحبوها. هون ولد زغير بذل أكبر سوري، ليش؟ الشباب بصيروا يفكروا انو نحنا ليش متهمين؟ ليش ممنوع أضهر؟ ما أنا ضد يلي عم بصير ليش عم يساووا فينا هيك؟ نحنا ما بدنا هالشغلة هيدي، نحنا فلينا من بلادنا لإن ما بدنا نحمل بارودة». يستطرد محمد «نحنا هلق يقولوا انو الطرقات مفتوحة منطلع على سوريا، عنا ارض ومزارع وفيلات. عندي 90 دونم مشمش ليش بدي ضل ساكن بهالذل؟».