IMLebanon

القاع في مرمى الحرمان والتعدّيات… ونيران الحرب السورية

بدأ إسم بلدة القاع يترّدد أخيراً على لسان اللبنانيين نتيجة تداعيات الحرب السورية عليها. فهذه البلدة المنسيّة والتي لا تُذكر إلّا وقت الأزمات، أصبحَت مادّةً يستغلّها السياسيون في تصريحاتهم الإعلامية، ليَنسوها لاحقاً ويتركوا أهلَها يتخبّطون بالمشاكل وحدهم. وكأنّ معاناة هذه البلدة مع المركزية الإدارية بسبب بُعدها عن بيروت لا تكفيها، فجاءت الحرب السورية لتُلقي بثقلها على قطاعاتها كافّةً.

تقع القاع في أقاصي البقاع الشمالي، على الحدود المتاخمة لسوريا. تبلغ مساحتها 182 كلم مربّع ويبلغ عدد سكّانها نحو 13 ألف نسمة. هي أكبر قرية كاثوليكية في البقاع بعد مدينة زحلة، ومحاطة بقرى إسلامية ذات غالبية شيعية.

«القاع محرومة»، عبارة تَختصر معاناة أهلها الذين يتشبّثون بأرضهم على رغم المصاعب، فلم يستسلموا أيام الوصاية السوريّة للهجومات المسلّحة، حين وقعَت المجزرة الشهيرة عام 1978، وقد أورثوا حبَّهم للحياة إلى أبنائهم الذين ما زالت المعاناة ترافقهم حتى لو تغيّرَت الأسباب، على الأقلّ شَكلياً.

على رغم مساحتها الكبيرة إلّا أنّ منازل القاع متلاصقة، وهذا ما يعكس روحَ أهلها المحبّين بعضُهم لبعض، فهذا القرب كان ولا يزال يُشعِر الأهالي بنوع من الأمان الذي يتقلّص كلّما اقتربت المسافات من الحدود.

تزورها اليوم فتلمس وجوداً كبيراً للجيل الجديد الذي لم تَردعه الأحداث الدائرة في محيط القاع، ولا بُعدُ المسافة عن المدينة، من زيارتها باستمرار. يَستقبل الزوّارَ صليبٌ كبير يزيّن مدخل البلدة ويوحي لمَن يراه بالسرّ الذي حمى القاع طيلة الأعوام المنصرمة.

لكنّ القاع ما زالت محرومة، ولعلّ نضال أبنائها جعل من المسؤولين غير مهتمين لأمرها، وكأنّها خارج حدود الدولة، وأهلُها مسؤولون عنها وحدهم.

المشاكل الحياتية

أزمتا المياه والتعدّي على الأراضي تتصدّران قائمة المشاكل بين القاع وجوارها، خصوصاً أنّ البلدة تُعاني من تدفّق اللاجئين السوريين وتردُّدات المعارك السورية، علماً أنّ للجيش حضوراً قوياً يُظهر استعداداً كبيراً للدفاع عن هذه الأرض، في ظلّ غياب الوزارات والمؤسسات والدفاع المدني والصليب الأحمر والمستشفيات لتأدية دورها في المحنة التي تمرّ بها.

وفي هذا الصَدد، يقول الناشط في الدفاع عن أرض القاع المحامي بشير مطر لـ«الجمهورية» إنّ «هذه المؤسسات لا تواكب حالة الحرب التي نعيشها أو التي أرادوا فرضَها علينا، فهُم دائماً يُخيفوننا من «داعش»، عِلماً أنّ لدينا ثقة مطلقة بالجيش، لكن كيف سنُواجه هذا التنظيم ونحن لا نملك حتى الملاجئ، كذلك لا يوجد مركز مجهّز للدفاع المدني في حال حصول سَيل، علماً أنّه خطرٌ قد تتعرّض له القاع في أيّ وقت، أو في حال اندلاع حريق أو وقوع انفجار أو غيره.

فلا بنكَ دم ولا مركزَ للصليب الأحمر، المستشفيات كلّها غير مؤهّلة لاستقبال الحالات الطارئة، وهي إنْ دخَلها شخص لا علّة فيه يخرج ميتاً، وبالتالي مقوّمات الصمود غائبة، وهذه نقطة ضعف أساسية».

ويشدّد مطر على أنّ «مناطقنا محرومة من الأساس، فأهلُ القاع ورأس بعلبك محرومون من دخول جرودهم ومناطق حدودية أخرى كونها مسارحَ للعمليات العسكرية، وهذه موارد ماليّة مهمّة ليست بمتناول أيديهم، كما أنّ الوجود السوري يُخيف الزوّار، أما سكّان القاع فيتضوّرون جوعاً، ويعيشون أسوأ الأحوال، لأنّهم خط الدفاع الأوّل عن المنطقة».

ويؤكّد أنّ «الدعم الكلامي بات مرفوضاً، إذ هناك عائلات تحتاج إلى المازوت لتصمد في وجه البرد، والمدارسُ تحتاج إلى مستلزمات البقاء ليبقى الأهالي في أرضهم أيضاً، حياتُنا يجب أن تستمرّ، وفي خضمّ كلّ ذلك لا نسمع إلّا الكلام».

أزمة النازحين

يشير مطر إلى أنّ «المساعدات المادّية تكون من نصيب النازحين، علماً أنّنا نحن من نستقبلهم، فلا يمكن لأحد أن يدعم المريض من دون دعم المستشفى التي تحضنه». ويتوقف في هذا السياق عند مدى «شفافية المؤسسات المانحة، فهناك تساؤلات كثيرة في شأنها، إذ يستفيد البعض منها ولا شفافية في التعاطي مع المساعدات المقدّمة إلى النازحين».

ويلفت إلى وجود مشاكل عديدة بين النازحين وأهالي القاع على أحقّية الوظائف، «إذ إنّ ابن القاع أَولى بأيّ وظيفة معروضة، وهذا لا يحصل على أرض الواقع، لكنْ رغم كلّ ذلك ما زال الأهالي صامدين، متمسّكين بأرضهم، يزَيّنون الشوارع، يحتفلون بالأعياد».

الضمّ والفرز

لمشكلةِ الضمّ والفرز تاريخٌ قديم في القاع، فهي أسفرَت عن مخالفات في البناء ونزاعات بين الأهالي على عقارات غير مفرزة لا تُعَدّ ولا تُحصى، حيث وضَع بعض الأشخاص أيديَهم على آلاف الدُنمات المملوكة من الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المشاعات التي تَخضع لسلطة البلديات والتي يَستعملها واضعو اليد من غير حقّ قانوني، ومن دون أن يكون للقوى الأمنية أو البلدية أيّ سلطة لوقف ذلك أو قمعِه، سواءٌ أكان هؤلاء من المطلوبين للقضاء، أو جهة ذات نفوذ بذريعة أمنية تجعل متعذّراً وصول القوى الإمنية إليها.

وفي هذا السياق، يوضح أحد سكّان القاع أنّ «المُتعَدّين على أراضينا لا يَزرعونها فحسب، بل يحتلّونها، وهناك مشروع لتغيير الأرض، يشَكّل السوريون جزءاً أساسياً منه، إلى جانب بعض اللبنانيين من عرسال وبعض أهالي الهرمل، جميعُهم يتّفقون على عدم حصول فرز في القاع، فيما يَستفيد بعض السماسرة من أبناء البلدة من هذا الواقع لأنّهم غير متيقّظين للخطر الذي يُهدّدنا، لكنّ هؤلاء اجتمعوا على هذه النتيجة لأسبابٍ تتراوح بين كسبٍ مادي للبعض، وملءِ البلدة بالجوامع للبعض الآخر، لكي يضعوا أيديَهم بشكلٍ غير شرعي عليها».

ويؤكّد أنّه «في ظلّ غياب دولة تضربُ بيدٍ من حديد وتَمنع التعدّيات لا يمكن اتّهام أبناء البلدة ببَيع الأراضي، فمَن باعَها هم بعض السماسرة الذين ينتمون إلى القاع بالهوية فقط، وهم باعوا أراضيَ لا يملكونها بل تابعة للدولة، وفي هذا الصَدد لا يمكننا نقل الهرمل وعرسال إلى القاع، والمناطق التي تَعبنا لتصنيفها زراعية لا يمكن أن تتحوّل مناطقَ سكنية وتجارية»، محَمّلاً الدولة المسؤولية الأولى وخصوصاً «نواب البلدة الذين لا يمارسون شيئاً من واجباتهم، بل إنّ من مصلحتهم عرقلة الفرز».

ويَلفت مواطن آخر مِن الذين يقطنون القاع على مدار السنة إلى أنّ «مخفر البلدة يضمّ نحو ستة عناصر لتغطية مساحة 182 كلم مربّع، فيما لا يردع القضاء المتعدّين، ولا يُدخلهم السجن، بل يُترَكون بسند إقامة وغرامة لا تتعدّى الـ 200 ألف ليرة لبنانية».

ويَذكر «أنّنا ناشَدنا الدولة مراراً بأنّ هذه التعدّيات ليست إدارية، بل هي عرقلة لمشروع الضمّ والفرز وتطيح بالعيش المشترك، لأنّ النتيجة ستفضي إلى دخول الغريب أرضَ القاع، وخلط أوراق، وبناء عشوائي، واحتواء البلدة لأطراف إرهابيين، وستصبح مشاريع القاع كناية عن مخيّم كبير تعجَز الدولة عن ضبطه وممكن أن يضمّ مجرمين، لأنّ من يستطيع تهريب الرمل والباطون ومواد البناء إلى المشاريع، يستطيع تهريب الأسلحة والمتفجّرات، فمِن مصلحة مَن اجتياحُ البناء لهذه المنطقة الزراعية؟»

وفي وقتٍ تحتاج البلدة إلى التنمية، يغيب دور البلدية، المعنية مباشرةً بتنميتها، إذ بَعد خلافات بين أعضاء البلدية استقالَ نِصفُهم، ما أدّى لتسليمها إلى القائمَّقام.

مختار القاع مخاييل بشرّاوي يكشف لـ»الجمهورية» أنّ «للبلدة تاريخَها مع التعدّيات والاضطهاد، وهذا التاريخ حافل ببطولات أهلها الذين فضّلوا الاستشهاد على ترك أرضهم، وللأسف لا يمكننا إغفال مشكلة الطائفية، إذ إنّ القاع هُمّشَت لأنّها بلدة مسيحية».

ويَعزو بشرّاوي صمود القاع في وجه الأزمة السورية، إلى «حيادها عمّا يحدث، فنحن لا نهاجم أحداً، ولكنّنا نتصدّى لكلّ معتدٍ على أرضنا»، مشدّداً على أنّ «وجود الجيش اللبناني يشكّل أحدَ أبرز المعطيات التي تحمي أرضَنا، فهو الضمانة لنا، إضافةً إلى بعض الأهالي الذين يتبرّعون دوماً بحراسة البلدة».

وفي ملفّ التعدّيات على الأرض، يشير بشرّاوي إلى أنّ «التعدّيات تحصل منذ نحو 50 عاماً نتيجة عدم فرز أراضي القاع، وهو ما تتحمّل الدولة مسؤوليتَه، فمشاريع القاع كناية عن أرض تجمَع جنسيات وطوائف وعصابات عدّة، ونتخوّف من تفَلّت الأوضاع فيها».

ويَستغرب أن تكون «الدولة في موتٍ سريريّ ومَن فيها هم الفاسدون فكيف نحاسبهم؟ لذا أهل البلدة يتّكِلون على أنفسهم، أما نوّاب المنطقة فتمثيلهم للشعب سقَط ولا نعترف بهم بعد الآن».

عندما يعرف أهالي منطقة ما أنّ عدواً سيواجههم، يتسلّحون ويواجهونه بكلّ السُبل، ولكن عندما يتغَلغل من يريد محاربتَهم داخل أراضيهم تحت عنوان العيش المشترك والإنسانية وكأنّه مواطن أولى منهم بحقوق المواطنة، فهنا الخطر أكبر، وإذا عُدنا بالتاريخ، فإنّ أحداً لم يعوّض للقاع انقطاع المياه عام 1975، بل إنّهم وبعد انتهاء الحرب فرَضوا عليها التنازل عن 48 في المئة من حصّتها في المياه، فيما تشهَد قوى الأمن على التعدّيات التي تحصل يومياً على مياهها ولا مَن يحاسب أو يرفَع الصوت. أمّا عن انعدام الأمان فحدِّث ولا حرج، إذ إنّ أبناءَ المنطقة معرّضون في تنقّلاتهم لسرقة سياراتهم وممتلكاتهم.

قد لا يعرف اللبنانيون ما تعيشه الحدود من تعدّيات، لأنّ المسؤولين لا يحرّكون ساكناً في شأنها، والسؤال: أين السلطة إذا كان المجرمون معروفين ولا أحد يوقِفهم؟