IMLebanon

أميركا كعنصر في نكبة السوريين

شكّل احتساب أميركا في صف السوريين الثائرين من أجل الحرية والعدالة والمساواة، عاملاً إضافياً في زيادة نكبتتهم، وسبباً مهماً في تأخر وصولهم إلى هدفهم الحصول على دولة مدنية ديموقراطية، فقد برّر ذلك الاحتساب لنظام بشار الأسد القتل بلا رحمة مدعماً سردية المؤامرة التي اتكأ عليها في مواجهة ثورة شعبية تطالب بإزاحته. كما منح التيار الذي يدّعي المقاومة والممانعة فرصة استغلال هذا الاحتساب للزج بكل طاقاته لمواجهة ثورة الشعب السوري بذريعة أن مواجهة وكلاء أميركا هي مواجهة لأميركا وتعطيل لمشاريعها في المنطقة. كما منح هذا الأمر خصمي أميركا الدوليين، روسيا والصين، محفزاً للانخراط في الأزمة السورية بكثافة باعتباره مواجهة للمشاريع الجيوسياسية الأميركية.

لكن كيف تقارب أميركا علاقاتها بهذا الصراع وما هو موقعها منه وإلى أي درجة تقف بالفعل مع حق الشعب السوري؟ يستدعي الفهم الصحيح للموقف الأميركي توضيح حقيقة مفتاحية في هذا الإطار، وهي أن معظم الجهد الأميركي موجه صوب اللاعب الروسي بدرجة أساسية انطلاقاً من حسابات أميركية خاصة بترتيب مصادر الخطر وتبويب التهديدات المحتملة في المدى المنظور. أما بقية اللاعبين، خصوصاً إيران، فهم مجرد لاعبين هامشيين بالحسابات الأميركية تتشكل أهميتهم من اندراجهم في إطار ملفات العلاقات الثنائية لأميركا مع إسرائيل ودول الخليج العربي بدرجة أقل، أو بتوصيف أدق، احتساب أثر التحركات الإيرانية في الجغرافيا الخليجية بوصفها حقول نفط وممرات بحرية.

تدمج الولايات المتحدة سياستها السورية ضمن سياسات أوسع، تتعلق بإدارتها للسياسة العالمية. وانطلاقاً من ذلك تسهل رؤية منظومة سياسية أميركية أكثر منها سياسات أميركية لسورية، أي أن سياسة واشنطن السورية ليست أكثر من جزئية تتفاعل ضمن إطار عام لنظام متكامل لهندسة سياساتها العالمية، ويجري التعامل في إطاره مع القضية السورية عبر موازنة الفرص والخسائر واستخدام التكتيكات المناسبة لإدارة الملف بما يتوافق مع مقتضيات تنفيذ الاستراتيجية الأميركية عالمياً.

ما يؤكد هذه الحقيقة افتقار واشنطن إلى ثوابت واضحة في إدارتها للملف السوري واستنادها إلى معطيات جارية ومتحركة، إذ تعمل على تطوير سياساتها بما يتفق مع مصالحها أساساً. والشاهد على ذلك تبديل موقفها من نظام الأسد، أو تحديثه في شكل دائم، بدءاً من تأكيدها أنه فقد شرعيته وعليه الرحيل، ثم تحديدها لاحقاً خطوطاً حمراً لسلوكه ضد الثورة السورية، وصولاً إلى تراجعها عن ذلك كله. والدليل الآخر امتلاك أميركا حزمة خيارات وبدائل من شأنها تغيير دينامية صراعها مع اللاعبين الدوليين في الساحة السورية، لاعتقادها بأن تلك البدائل قد ترفع تكاليف انخراطهم في سورية أو تجنبها هي نفسها الخسائر المحتملة. ومن تلك البدائل الحديث عن احتمال تقسيم سورية الذي طرحه أكثر من مسؤول أميركي.

وبالعودة إلى روسيا في سياق الاستراتيجية الأميركية، فقد ظهر جلياً أن واشنطن تعتبر روسيا تهديداً جدياً لها في المدى المنظور، خصوصاً لمصالحها في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، لدرجة أن الجزء الأكبر من أصولها الاستراتيجية ومواردها مخصص للتعامل مع التهديد الروسي، إذ إن روسيا أعادت في السنوات الماضية هيكلة قواتها وإصلاح أنظمتها العسكرية وتطوير أساليبها القتالية، وصرفت مبالغ ضخمة في هذا الإطار. ولا شك في أن أميركا ترغب في كشف تلك التغيرات وإخراجها من نطاق السرية، إن على مستوى الأنماط التكتيكية في التخطيط العسكري الروسي، أو على مستوى أنواع الأسلحة الحديثة والمعدّلة في قائمة الصناعات العسكرية الروسية، وذلك تحوطاً لأي مفاجأة في هذا المجال كي تتمكن واشنطن من إيجاد المعادل الاستراتيجي لتلك الأسلحة، وليس أفضل من الساحة السورية منصة يمكن من خلالها تفكيك السر الروسي ومعرفة خباياه.

وفي سياق هذه الاستراتيجية أيضاً، تمارس أميركا تكتيكات الاستنزاف مع روسيا، تلك التي خبرتها جيداً في حربها العراقية، بعدما وصلت إلى قناعة استراتيجية راسخة فحواها أن حروب الشرق الأوسط، خصوصاً بالنسبة إلى الطرف الذي يتولاها، لا تمنح فوزاً استراتيجياً ولا تنطوي على فرص ثمينة، بقدر ما هي ساحات استنزاف مفتوحة لا تكل عن طلب المزيد. والاستنزاف في هذه الحال له أهداف محدّدة تتمثل باستنفاد طاقة روسيا وحماستها ومواردها، وبدل تخصيصها لتعزيز مكانتها في سلم القوة الدولي يتم توجيهها لتسيير يوميات حرب لا تنتهي في الشرق الأوسط الذي يمكن وصفه، ومن خلال تجربة أميركا نفسها، بالثقب الأسود الذي يبتلع كل الإمكانات والموارد من دون إحداث فوارق مهمة في وضع الطرف المنخرط فيه.

يعني ذلك أن السياسة الأميركية في سورية ستبقى بين حدين: أولهما عدم التصادم مع روسيا تحت أي ظرف، وبالتالي استحالة وقوفها في صف ثورة سورية حتى لا تتحول علاقاتها مع روسيا إلى تصادم حتمي ومكشوف، والثاني استحالة التوصل إلى توافقات كاملة مع روسيا في سورية لأن ذلك سيؤدي إلى تعطيل ديناميات استنزاف روسيا وإشغالها، ومن ثم التورط والانخراط إلى جانبها في الحرب السورية. وفي الغالب ستبقى السياسة الأميركية منهمكة في إنتاج البيئة المناسبة لاستغراق روسيا وإيران في الأتون السوري إلى مدى بعيد، ربما إلى حين استنفاد قدرة الساحة السورية كأداة تشغيلية في عملية الاستنزاف الكبرى.