IMLebanon

… وإذا بحرب السنتين تتحول إلى حرب السنين!

في الذكرى الـ 41 للحرب الأهلية اللبنانية نقلب بعض صفحات مفكرة مواطن لبناني عن ذلك التاريخ الحالك والمشؤوم، واستحضاراً للذاكرة لدى جيلين، الأول من عاش أهوال تلك الحرب والثاني للذين ولدوا في تلك الحقبة من تاريخ لبنان الحديث، وهو فصل من كتابي «حرب السنتين وبعد».

13 نيسان (أبريل) من العام 1975.

أذكر جيداً أنه كان يوم أحد مع بداية فصل الربيع الجميل في لبنان.

كنت في مبنى تلفزيون «لبنان والمشرق» القائم في منطقة الحازمية (إحدى ضواحي العاصمة اللبنانية بيروت) المتوهجة والساحرة في ذلك الزمان.

كنت أعمل منذ الصباح على إعداد نشرة الأخبار، وكنا في تلك الفترة نعتمد على الأخبار العالمية التي تصل إلينا عبر وكالات الأنباء المحدودة، في حين أن الأخبار المحلية كانت تأتينا ولو في شكل مختصر، من الوكالة الوطنية للأنباء.

مع انتصاف النهار رنّ جرس الهاتف في مكتبي، وكان المتحدث أحد الأصدقاء وقد بدا في صوته قلق واضح وهو يسأل: «هل تعلم ما الذي حدث في منطقة عين الرمانة؟»

أجبت بالنفي. وعندما قال لي: «هناك حادث كبير في محلة عين الرمانة، حيث يسمع إطلاق النيران بكثافة». وأضاف: بلغني أن إطلاق النار استهدف أحد الباصات (البوسطة) وكان يمر من منطقة الشياح المجاورة محملاً بالركاب».

وقاطعت محدثي سائلاً: «هل من ضحايا؟ ومن هم الذين كانوا داخل الباص؟».

أجابني: «إن المعلومات الدقيقة حول ما جرى لا تزال غير معروفة حتى اللحظة، وكل ما علمت هو أن البوسطة كانت تنقل عدداً من الفلسطينيين المتوجهين إلى منطقة مخيم تل الزعتر».

وانتهت المكالمة بيني وبين الصديق لأسارع على الفور إلى إجراء الاتصالات والاستفسار عما حدث، فإذا بالأخبار تتوالى لتحكي التفاصيل الآتية:

كان رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل يحضر قداساً في كنيسة عين الرمانة، وبعد انتهاء مراسم الصلاة، سمعت أصوات نيران كثيفة تتعالى في أرجاء تلك المنطقة، ليتضح في ما بعد أن ضحية ذلك الحادث هو أحد شبان المحلة من عائلة أبو عاصي. ثم توالت معلومات بعض شهود العيان ليتضح الآتي:

في تلك الأثناء صادف مرور البوسطة التي تحمل عدداً من اللاجئين الفلسطينيين، فتعرض الموكب لإطلاق نار كثيف «من جهة غير محددة بالضبط»، ما أدى إلى سقوط العديد من ركاب تلك الحافلة بين قتيل وجريح. وعلينا الإشارة هنا إلى أن الفترة التي نتحدث عنها، لم تكن وسائل الاتصال متوافرة بسهولة خلالها. وكشف الأمر بعد ذلك عن المأساة الكبيرة لتعرف في ما بعد بحادث «بوسطة عين الرمانة».

وانتظرت ورود أي معلومة من مصدر رسمي عما حدث، ولكن من دون جدوى.

أتذكر أن رئيس الجمهورية اللبنانية الرئيس سليمان فرنجية كان يرقد في أحد أسرة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت إثر خضوعة لعملية جراحية، عندما بدأت الأخبار تنشر عن «موقعة عين الرمانة» تنشر بالتواتر. وحتى ذلك الحين، لم يصدر عن أي جهاز رسمي معلومة أو خبر يوضح أو يكشف ما الذي حصل في عين الرمانة.

كان موعد نشرة الأخبار التلفزيونية يقترب، وليس لدي سوى بعض الأخبار المحلية العادية والكثير من الأخبار العالمية عن الحرب في فيتنام التي كانت مستعرة في تلك الفترة. ووقعت في الإحراج المهني: كيف يمكن الظهور على الشاشة الصغيرة وتقديم نشرة الأخبار من دون الإشارة إلى ما حدث. وأذكر أنني بينما كنت في طريقي إلى الاستوديو، وردني اتصال من الوكالة الوطنية للأنباء، وأُبلِغت بخبر مقتضب جداً، تحدث عن «وقوع بعض الحوادث في منطقة عين الرمانة، وأن السلطات المختصة باشرت التحقيق لكشف ملابسات ما حدث». «مجزرة بوسطة عين الرمانة وسقوط أكثر من ثلاثة وعشرين ضحية فلسطينية وعدد من الجرحى من ركاب البوسطة».

وبدأت تداعيات هذا الحادث بالانتشار بسرعة مذهلة في مختلف الأوساط اللبنانية، وأدت إلى حال من الاستنفار داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.

كان حادث عين الرمانة بداية انطلاق الحرب اللبنانية – الفلسطينية. وبرزت خطوط التماس الأولى (الشياح – عين الرمانة) وبقيت خمسة عشر عاماً ويزيد من أكثر الحروب الأهلية شراسةً وفداحة. وبدأ منذ ذلك الوقت تكريس التقسيم بين «بيروت الشرقية» و «بيروت الغربية».

ومع مرور الزمن بدت جبهة الشياح – عين الرمانة كموقع ستالينغراد في الحرب المدمرة بين الجيش السوفياتي والقوات النازية.

رافق اندلاع أقسى المعارك وشراستها حرب الاتهامات المتبادلة بين «الجانب المسيحي» من جهة، و»الفريق الإسلامي» والفلسطيني في الجانب الآخر، ليتضح لاحقاً أن لبنان سقط في واحدة من أقذر أنواع الحروب، تداخل فيها العديد من العوامل والعناصر.

لقد آليت على نفسي في مراحل حياتي المهنية كافة أن احترم عقل المواطن أينما كان، وإلى أي جهة انتمى، وأن أضع أمامه الحقائق المجردة، وأترك لهذا القارئ الرغبة في ممارسة حرية التحليل، وهو الأمر المنطلق من المدرسة التي نهلت منها العلم والمعرفة في مجال الإعلام، والتي تقوم على عدم المزج بين الخبر والتعليق، حرب من تلك التي اندلعت في الثالث عشر من نيسان (أبريل) من العام 1975، ولا تزال رواسبها حتى يومنا هذا.

نطرح العديد من التساؤلات لعلنا نتوصل في نهاية الأمر إلى بعض الحقائق.

هل هي حرب أميركا هنري كيسنجر؟

أم هي حرب إسرائيل في سعي لإعادة رسم خارطة المنطقة والقضاء على التعايش المسيحي – الإسلامي وضربه في العمق وفي الصميم لضمان استمرارية النظام العنصري في إسرائيل؟

لقد كان لبنان مضرب مثل في الصيغة التي جمعت ثمانية عشر مذهباً في إناء وطني واحد، لنكتشف لاحقاً أن التعايش بين اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم كان نعمة ثم تحول الى نقمة.

إنها حرب هؤلاء جميعاً مع أمور أخرى، لأن ما ابتلى به لبنان كان غريباً وفريداً، كغرابة وفرادة الوضع اللبناني.

إن الاعجوبة التي سيرت لبنان «عين الله ترعاه» تواصلت على مدى ثلاثة عقود ويزيد قليلاً، ثم توقفت فعالية هذه الأعجوبة في حينه، وصار على لبنان أن يعيش قضيته ألا وهي «القضية اللبنانية».

كانت أخبار «حرب السنتين» معروفة وشائعة، بل أن هناك من «بشّر» بها قبل أن تقع. عميد الكتلة الوطنية الأستاذ ريمون إده قال لي إنه تلقى معلومات عن «قبرصة لبنان» قبل بداية مسلسل الأحداث. كذلك قال لي الزعيم كمال جنبلاط إن سفير دولة كبرى أبلغه «أن الأحداث التي بدأت في لبنان لن تنتهي قبل سنتين على الأقل». وهذا ما حدث بالفعل.

مسؤول عربي كبير أبلغ بعض اللبنانيين أن يأخذوا علماً بعدم الإقدام على أي مشروع يقع خارج حدود منطقة الزهراني في جنوب لبنان «لأنه ليس مؤكداً أن يبقى الجنوب منطقة لبنانية!»

وبالإضافة إلى ذلك، عقد لقاء خاص مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وبعد اندلاع الحريق اللبناني الأخير بوقت قصير، قال لي بالحرف:.. «في لبنان كارثة أفظع من كارثة فلسطين». وقال بانفعال شديد: « ألا تكفينا فلسطين واحدة؟»

وحيال ما سمعت منه عن تصوراته للأوضاع في لبنان والمنطقة، بدا لي لاحقاً وكأنه كان يقرأ من كتاب.

سألت: «هل من خطوة محددة لوقف التدهور الخطير؟»

قال: «سجل لديك. إنني على استعداد تام للتوجه إلى بيروت وتأمين اللقاء بين الرئيس سليمان فرنجية وياسر عرفات، ولن أغادر بيروت قبل التوصل إلى حل للوضع الإشكالي الكبير، وهذا ما يجب أن يتم في أقرب فرصة، قبل فوات الأوان.»

وفعلاً… فات الأوان.

وإذا بالوضع المتفجر في لبنان لا ينتهي بسنتين بل تواصل إلى خمسة عشر سنة وإذا بحرب السنتين… تتحول إلى «حرب السنين».

هل تعلّم اللبنانيون شيئا من تلك الحرب المدمرة؟

بأسف.. لم تأخذ غالبية اللبنانيين العبر الفعلية من هذا التاريخ المدمر وهذا ما يبرر تجدد النزاعات الأهلية بمختلف وجوهها بين الحين والآخر، منذ استقلال لبنان الأول في العام 1943.

لعل كل الاطراف التي خاضت الحرب اضطراراً او اختياراً تحتاج إلى إجراء قراءة جديدة لوقائع الحرب. فلكل كتاب أكثر من قراءة، القراءة الأولى الخام، ثم القراءة للتحليل والتبصر.

إن الحرب حفلت بالعديد من المفارقات والتناقضات والتداعيات، ومن ذلك: كان فريق من الذين يعيشون على أرض لبنان يرددون: عائدون إلى أرض فلسطين، فصار هؤلاء من المقيمين الدائمين في الوطن، كما أصبح اللبنانيون الذين أرغمتهم الاحداث على الهجرة، وأبعدتهم عن بيوتهم ووطنهم في الداخل والخارج، يرددون: عائدون.. عائدون إلى أرض الوطن، لبنان الذي لا بديل عنه.

حتى كان العام 2011 واندلاع شرارة الحرب في سورية ونزوح ما يزيد على مليون ونصف المليون شخص إلى لبنان وليتضح لاحقاً بروز أزمة جدية تدعى أزمة النازحين السوريين.