IMLebanon

عون وبري ضدان لا يلتقيان؟

لا يجوز رثاء العهد من أوله. الرهانات ضئيلة جداً. التوقعات متواضعة. المستقبل ليس سوى ماضٍ بأسماء مضافة، وغير جديدة. حتى الآن، بدأت الرئاسة ولم يبدأ العهد. تأخره طبيعي. لم يتعثَّر شيء يعطي الحياة السياسية جرعة من الحراك. أثقال الماضي كافية لمنع الانطلاقة. التمثيل القوي سيكون مطحنة الدولة.

وبرغم كل ذلك، لا يجوز رثاء العهد.

إنما وبعيداً عن التمني، فإن العهد وقع أسيراً بملء إرادته. خطابه السياسي الناري انتهت صلاحية استعماله. لم تنتج المعارضة العونية غير التشنج والمقاطعة وإقفال المعابر إلى المؤسسات، وما كان لها أن تفصح عن نجاح. الإصلاح لا يأتي من طرف واحد. الإصلاح لا يكون من تثقيل طائفي. النظام متماسك ويؤدي خدمات جليلة ومدانة لشبكة من المصالح بقيادة الطغمة التي حكمت وتحكم وستحكم لبنان عبر المشاركة وتطبيقاً للميثاقية… بكل أسف، هؤلاء هم الشركاء. هؤلاء هم الطرف الميثاقي الأقوى. ثبت أن عصبة الحكم، ليست التمثيل العادل للطوائف، وليست المصلحة الوطنية العليا، وليست الاتفاق على سياسة لبنان الخارجية والولاءات المعلنة للمحاور المتصارعة في المشرق. عصبة الحكم سابقاً وراهناً شديدة التمسك بمصالحها، وتحرس مواقعها في الوزارات الدسمة، في الإدارات التي تسهر على حراسة الحصص وتوزيعها في القضاء الذي يعصم المرتكبين من المساءلة والمحاسبة، في الأجهزة الموكلة بغض النظر عن الكبائر، في مرافق الدولة ومشاريعها. إن العصبة مشدودة بالفساد إلى تأمين قاعدة المشاركة بالمغانم. كل كلام آخر لا ينتمي للبنان الرسمي ولا للبنان الشعبي. فالشعب، في أكثرية قواه الطائفية، قد مهر بإمضائه ولاية دائمة للأقوياء، ليكونوا ممثلين عن الحزبية الغرائزية المتفشية في مجتمع متخلّف كلبنان. مَن هم خارج الاصطفاف الطائفي، لا يُحسب لهم أي حساب، لأنهم لم يحسبوا بعد قوتهم. ضعفهم في تبعثرهم. لا يعوَّل عليهم، ولو كانوا في رتبة أخلاقية عالية. إنهم أصفار جميلة.

بدعوة من «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» جرى نقاش في طاولة مستديرة تحت عنوان «العهد الجديد في مواجهة تحديات الإصلاح: ما بين تسيير الدولة وإعادة بنائها. امتلأت القاعة كلاماً عن التمثيل الطائفي، عن الثنائية المسيحية وعودة المسيحيين الأقوياء إلى السلطة، عن الشراكة، عن تأليف الحكومة الذي يحتاج إلى تلفيق معجزات، عن قانون الانتخاب، احتل الكلام الطوائفي القاعة. كلام معتدل ولكن طوائفي. أقفلت الدوائر. لا حلول… التطرق إلى الإصلاح، حفل بالاستحالات الموضعية. العهد ليس مسؤولاً. هذه البنية مقفلة. الإصلاح الممكن، بالكاد يتناول ملفين أو ثلاثة: كهرباء، ماء، بيئة، لا أكثر. الفساد هو الحزب الأقوى، لأنه يضمّ كل الأحزاب والتيارات، بنسب متفاوتة. يلزم إخراج الإصلاح من التداول، عندما يصبح تحت مظلة الشراكة. الشركاء شركات قابضة على الدولة، خزينة وإنفاقاً واستدانة.

المشاركون، نخبة بميول سياسية وحزبية، مدعوون للتشارك في السلطة، لإقامة «العدل الطائفي»، عبر التعادل في السلطة، ولو أدى ذلك إلى ظلم فادح بالرعية. الأولوية لتمثيل الجميع، بمعزل عن سجلهم العدلي. الأولوية لإعادة تمثيل مشهد تأليف الحكومات بمعايير «همايونية». النصوص الدستورية حبر أسود على ورق أبيض. حبر، تمحو سواده وحروفه قراءة إلزامية لمقتضيات الميثاقية. وفي الميثاقية، لا يحق لأي طرف أن يفرض على الطرف الآخر، وزارة أو وزيراً، لا ترضى عنه قبيلته الطائفية او عشيرته المذهبية. النص الدستوري ركيك برغم وضوحه. من يؤلف الحكومة اثنان، لا ثالث لهما. الواقعية التشاركية الميثاقية تفرض مشاركة الجميع، وبري على رأسهم، وجنبلاط في مقدمتهم، وفرنجية ثالثهم الخ… الرئاستان الأولى والثانية مقيدتان ميثاقياً، بحكومات فضفاضة يطلق عليها «حكومة الاتحاد الوطني». يسهل تأليف الحكومة إذا اتفق الشركاء على الحصص. مسكين النص الدستوري. يعطي الرئيسين صلاحية مبرمة في التأليف، وتأتي الميثاقية لتنقض النص: لا تأليف من دون اشتراك الجميع، وفق أهواء الجميع… وتجري الرياح بما لا يشتهي الحكم (…) الجديد.

على ضفاف التأليف، يسيل حبر كثير وتنقل مواقف كثيرة، وأبرز ما فيها أن النصوص لا تعبر كما في النفوس. باستثناء سليمان فرنجية الذي يقول بفجاجة وبصراحة مواقفه ومطالبه. نبيه بري ليس كذلك. المضمون مكتوم والمقروء ملغوم. هو ضد الرئيس، ولو كال له المدائح. هو ضد الرئيس وظله كذلك. لقد ذاق الأمرين منهما، إبان حكومات سابقة. وهو أذاقهما المرّ مراراً برغم حلاوة اللسان. ضدان لا يلتقيان. الاستعانة بـ «حزب الله» لا توفّر غير تفاهمات صغيرة، وتبقى القلوب مليانة. هكذا، خفق العراك السني ـ الشيعي. نما وتعاظم الاشتباك الشيعي ـ المسيحي. شيء مستجدّ، ولكنه متوقَّع: هذه هي طبيعة التمثيل الطائفي، وهذا هو منطق التشاركية. النصوص هنا خرساء.

الكمائن تتكاثر. قانون الانتخاب، اللعنة التي أصابت اللبنانيين، هو بيت الداء. هناك من يريد أن يخنق التمثيل الشيعي، بحلف التمثيل السني ـ المسيحي ـ الدرزي. وهناك مَن يريد أن يخنق العهد في المهد… إرهاصات حرب أهلية جديدة، تحتاج إلى صياغة آلية حكم لتسيير البلاد والعباد، وفق منطق أكلة الجبنة والتخلي عن ثنائيات حافلة بالمخاطر.

سلامة لبنان بتواضع أهدافه. حذار محاربة الفساد. الفاسدون أقوى. يستطيعون التهديد بـ «عليَّ وعلى أعدائي يا رب»… ما زال في البلد حكماء. يؤثرون السلام على العدالة. وهم على حق في ذلك. فهذا هو لبنان. تصالحوا معه ولا تصدِّقوا إصلاحه.

بكل أسف.