IMLebanon

عرسال والخرف السياسي

ينظر اللبنانيّون إلى تطوّر الأحداث في عرسال وجرودها، كلٌّ بحسب موقعه او خلفيته او رهاناته، الى حدّ تبدو فيه الأمور وكأنّها تحدث في عدة بلدان وليس في بلد واحد اسمه لبنان، وذلك بسبب الاضطراب الإدراكي الذي يسيطر على الواقع السياسي الرسمي والأهلي في لبنان، وهو من أعراض الخرف السياسي لأنّ قضية عرسال تكاد تختصر كل الذاكرة اللبنانية مع الأزمة السورية منذ بدء النزاع، كما أنّ مخيّمات اللجوء في عرسال بدأت بأزمة القصير وما رافقها من تحرّكات استعراضيّة في ساحة الشهداء، وصولاً الى عملية عرسال الأولى واختطاف العسكريّين واعتصام الأهالي لسنوات في ساحة رياض الصلح، مروراً بأحداث راس بعلبك والقاع ووصولاً الى عمليات الثأر والاغتيال وقطع الطرقات.

الجميع يتجاهل ما يحدث في البقاع الشمالي والأوسط والغربي. تلك المأساة تمتدّ من شبعا الى القاع على طول الحدود الشرقية للبنان مع سوريا، أي ما يوازي خمسين بالمئة من مساحة لبنان، هذه المساحة التي تسمّى الآن في المدن السياسيّة الساحلية بالداخل اللبناني، حيث تتجمّع كلّ أسباب الانفجار الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي، من دون وجود قوّة قادرة على الردع او قيادة الاستقرار او إدارة النزاع.

إنّ الداخل اللبناني الآن يمتد من بعلبك الهرمل الى زحلة والبقاع الأوسط الى البقاع الغربي وراشيا الى شبعا وحاصبيا انه جنوب لبناني جديد، وهو مسرح النزاعات والحروب القادمة والتهجير والمخيّمات باعتباره ساحة خلفية للنزاع السوري المعقد وبسبب الخرف السياسي اللبناني لم ندرك الأولويّات الملحّة والضرورية ولم نستفد من تجاربنا الطويلة في جنوب لبنان على مدى  ثلاثين عاماً، من العام ١٩٦٩ الى العام ٢٠٠٠. وربما أصبحنا  نحتاج الى وزارة للداخل اللبناني  او مجلس خاص  من اجل حماية كلّ اللبنانيّين وليس السنة والشيعة كما يشاع، اذ أنّ كل البقاع مع شبعا وحاصبيا يمثّلون التنوّع اللبنانيّ الطائفيّ، ويمثلهم  ٨ نواب شيعة و٦ نواب سنة و٣ موارنة و٣ كاثوليك و٢ دروز وواحد ارمني و٢ ارثوذكس، أي أنّ كلّ طوائف لبنان معرّضة لعدم الاستقرار في الداخل اللبنانيّ او الجنوب الجديد.

تُرِكت هذه المنطقة لفوضى التحليلات والاصطفافات والبيع والشراء، و هي خارج الاهتمام الإعلامي. لا أحد يعرف ماذا يجري هناك، باستثناء بعض أصوات الفتنة التي تأخذ أشكالاً مختلفة بسبب الخرف السياسي ومحاولة الاصطياد بالماء العكر، اذ يعتقد البعض أنّ هناك رابح وخاسر في النزاعات الأهلية، أو أقوياء وضعفاء، كما كنّا نعتقد عشيّة ١٣ نيسان ٧٥، يوم كنّا مع الوجود الفلسطيني وضده، وكما يحدث الآن مع النازحين وضد النازحين، وهذا ايضاً من أعراض الخرف السياسي اللبناني. لان الخطر أكبر ممّا يعتقد الجميع، وان مصير لبنان هو الآن في الداخل اللبناني كما كان قبل سنوات في جنوب لبنان.

إنّ أهالي البقاع وشبعا وحاصبيا هم خارج كلّ ما يدور من اهتمامات ومخططات وتمويلات، بما في ذلك قضية النزوح القادم بعد عملية عرسال الراهنة وما ستنتجه من ارتدادات على مستوى كلّ البقاع، وربّما كلّ لبنان، تماماً كما كان يحدث أيّام الوجود الفلسطيني في جنوب لبنان بمعزل عن الجنوبيّين، حتى تأسّس كلّ ذلك الحقد من أبناء الجنوب وعلى أبناء الجنوب. والحديث يطول في هذا المجال، إلاّ أنّ الخرف السياسي الذي يضرب لبنان هو مرض عضال وليس له دواء، ممّا يجعل الاستفادة من الذاكرة الوطنية ودروس الماضي الكثيرة والمريرة أمر محال. حفظ الله لبنان من أحقاد أبناء لبنان على لبنان.