IMLebanon

معركة الدامور: أكاذيب محطة «أم. تي. في.»

لا تتوقّع الموضوعيّة من محطة «أم. تي. في.»: هذه المحطات التي تنطق باسم الرجعيّة الطائفيّة المسيحيّة ــ وريثة عقيدة بشير الجميّل ــ ليست إلّا النموذج الإعلامي للميليشيات الإسرائيليّة التي عملت في لبنان، والتي لا يزال ينتابها حنين لزمن الغلبة الديموغرافيّة الوهميّة. كل ما عليك أن تعرفه عن هذه المحطة موجود في وثيقة من وثائق «ويكيليكس آل سعود»، حيث تقدّم صاحب المحطّة بمشروع لبيع الضمير والمهنة والدور و«الرسالة» ــ التي لا ينفكّون يلوكون بكيل المديح لها ــ مقابل تمويل سعودي سخي.

والاستعانة بآل سعود هي مثل الاستعانة بما يُصطلح على تسميته في لبنان بـ«الشيطان». ونكش موضوع الدامور (أي معركة الدامور) بات من مكوّنات الإعلام المُتحالف مع العدوّ الإسرائيلي. وتشويه ما حدث في الدامور بدأ في الإذاعة الإسرائيليّة وفي كل الإعلام الصهيوني، قبل أن يتلقّفه الإعلام الكتائبي والقوّاتي في سنوات الحرب، وذلك من أجل إعداد الرأي العام العالمي للغزو الإسرائيلي للبنان في ١٩٧٨ وفي ١٩٨٢.

والمُحزن أن القضيّة الفلسطينيّة في لبنان تيتّمت: لم يعد هناك من اللبنانيّين واللبنانيّات مَن يحتضنها ويدافع عنها، خصوصاً مِن الذين رضعوا حليب الثورة الفلسطينيّة وتنعّموا بخيراتها وقوّوا شوكة طائفتهم بسلاحها، ومِن الذين كنزوا المال وأثْروا عبر علاقتهم بالثورة الفلسطينيّة، أو من الذين سرقوأ أموال منظمّة التحرير وممتلكاتها بعد إجلاء قوّات منظمة التحرير عن لبنان في عام ١٩٨٢ (وفيهم وزراء ونوّاب). والذين قاتلوا في صفوف المنظمّات الفلسطينيّة تبخّروا: لم يعد هناك مَن يعترف بأنه كان يقبض مرتّب مقاتل أو قائد أو كادر في منظمّات فلسطينيّة أو لبنانيّة. أصبح عنوان المتقاعدين في الحركة الوطنيّة اللبنانيّة هو الاعتذار المُتكرّر (وسجّلَ السابقة الشنيعة في الاعتذار غير المُبرّر محسن إبراهيم، الأمين العام التنفيذي السابق للحركة الوطنيّة ــ والعيب ليس في الاعتذار، لكن إبراهيم اعتذر عمّا لا ينبغي أن يُعتذر عنه، أي الدفاع اللبناني الباسل آنذاك عن الثورة الفلسطينيّة وعن حقّها).

أين هؤلاء الذين واللواتي قاتلوا وناضلوا في صفوف الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة؟ هم ليسوا مُغيّبين فقط بقرار من الإعلام الذي يكتفي باستضافة التائبين والمُتحوّلين من اليساريّين (تصبح الاستعانة هنا بمنير بركات، المُنشقّ طائفيّاً عن الحزب الشيوعي اللبناني ــ الذي لم يكتفِ التائب عن يساريّته وعن تأييده السابق للقضيّة الفلسطينيّة بمساهمته في الحلقة المشينة، بل حرّض المسيحيّين في الدامور ضد جيرانهم من الشيعة، وحذّرهم من «غزوة» شيعيّة للمنطقة) بل إن إبراز وجهة نظر واحدة عن الحرب هو من ضرورات الإعلام القوّاتي الوجهة. أين هؤلاء الذين كانوا قادة ومقاتلين في صفوف الأحزاب اليساريّة والقوميّة العربيّة؟ كيف اضمحلّوا وتركوا الساحة خالية لضخّ سرديّة واحدة قوّاتيّة ــ كتائبيّة عن الحرب الأهليّة؟ لكن هذا مفهوم، خصوصاً أن قادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة باتوا في مقلب آخر، مُعاكس لشعارات الحركة الوطنيّة وبرامجها. ماذا تتوقّع في زمن يخوض فيه وليد جنبلاط معارك طاحنة لتصغير الدائرة الانتخابيّة عمّا اتُّفق عليه في «الطائف» (كي تصبح المحافظة مرادفة للحارة والزقاق) فيما كان البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة من عام ١٩٧٥ يُطالب بالنسبيّة؟ ماذا تتوقّع من قادة كانوا يُعبّئون الناس وراء شعارات «عزل الكتائب» وهم اليوم متحالفون معها نفسيّاً وسياسيّاً؟ ماذا تتوقّع في زمن بات فيه قادة شيوعيّون مجرّد جنود (غير متطوّعين) في جيوش أصحاب المليارات وفي صف آل سعود وآل ثاني وآل الصباح؟

لكن الإعلام المتحالف مع الكتائب والقوّات ومتفرّعاتهما يلجأ إلى لعبة معروفة في الدعاية والانحياز: هو يدعو إلى حلقة عن مفصل من مفاصل الحرب مجموعة من قادة ومقاتلين كتائبيّين وقواتيّين وأحرار يزهون بقتالهم في الحرب، مع… منير بركات لتمثيل وجهة النظر الأخرى. كيف تستقيم الحلقة مع مجموعة تزهو بفعلها في الحرب مع ممثّل للفريق الآخر لكنه مشغول بتلاوة فعل الندامة عن دوره في الحرب، وهو يُعلّق ــ مثله مثل الكائبيّين والقوّات ــ كل الآثام اللبنانيّة على شمّاعة الشعب الفلسطيني وثورته؟ التعليق على شمّاعة العدوّ الإسرائيلي بات منبوذاً، لكن التعليق على شمّاعة القضيّة الفلسطينيّة بات رياضة (غير) روحيّة رائجة.

لم تحاول محطة «أم. تي. في.» أن تروي بشيء من الدقّة والحرص المهني ما حدث في الدامور. على العكس، هي اعتمدت على «وثائقي» لرجل من الفريق الانعزالي. وفيلمه (على طريقة وثائقيّات الإعلام الصهيوني) روى القصّة من طرف واحد، ولم يستعن بوجهة نظر واحدة مغايرة ــ ولا حتى بمنير بركات المرضي عنه. على العكس: كان الفيلم أشبه بالبكائيّة وأنشد موسيقاها التصويريّة قائد كتائبي (غير تائب حكماً) من تلك الحقبة. لا بل إن الفيلم استشهد في مقاطعه الإنسانيّة بدور كاهن كنيسة الدامور، الأب منصور لبكي. لكن الفيلم لم يحدّثنا عن سبب غياب لبكي هذا عن الفيلم؟ هل لأنه لا يزال يخضع لعقوبة فاتيكانيّة بسبب تاريخ من اغتصاب الأطفال (في لبنان وفي خارج لبنان ــ ولم يتحرّك الفاتيكان ويصدر عقوبة التأمّل في منتجع جبلي في لبنان إلا بعد تقديم شهادات من ١٧ ضحيّة من الأطفال). حتى الأب لبكي سيقدّم شهادات في الأخلاق عن الدامور؟

وتصدّر حلقة «أم. تي. في.» الأباتي بولس نعمان، هذا الذي قاد الرهبانيّات المارونيّة في سنوات الحرب. لكن لماذا لم تُحلّ بعد منظمّة الرهبانيّات المارونيّة لما لها من أيادي دمار وخراب في لبنان، هي التي ساهمت في مباركة وصنع ميليشيات اليمين الطائفي المُتحالف مع العدوّ الإسرائيلي، والتي كان رئيسها، شربل قسّيس، يزور فلسطين المُحتلّة يوم حافلة عين الرمّانة (قال إنه كان يتفقّد الرعيّة المارونيّة في فلسطين: لماذا لا تعنى الكنيسة المارونيّة بالشعب الفلسطيني وقضيّته التي عادتها إلا عبر زيارات مشبوهة إلى دولة العدوّ تحت عنوان «تفقّد الرعيّة المارونيّة؟»).

لكن قصّة معركة الدامور باتت أسطورة من أساطير الإعلام الصهيوني. إن تزوير الحرب الأهليّة، وروايتها من طرف واحد لا يُردّ، باتا من مُسلّمات الإعلام اللبناني، خصوصاً أن إعلام الطائفيّة السنيّة والشيعيّة والدرزيّة هو معاد لأسباب كثيرة للحركة الوطنيّة، وبعضه خاض حروب شوارع ضدّها وضد قوّات الثورة الفلسطينيّة. إن الدامور كانت معركة، ولا يجوز تصنيف المعركة تلك بـ«المجزرة»، حتى لو كان هناك ضحايا من المدنيّين الأبرياء في تلك الموقعة. هذه هي بعض الملاحظات:

أوّلاً، لم تكن معركة الدامور من صنع اليسار أو القوى الفلسطينيّة. هذه معركة افتعلتها الميليشيات الكتائبيّة التي إفتعلت الحرب الأهليّة برمّتها. لقد بدأت معركة الدامور قبل أن تبدأ الحرب الأهليّة، وكان تنظيم حزب الكتائب في مدينة الدامور معروفاً بوحشيّة زعرانه، حتى بالمقارنة مع مستوى الزعرنة العام لهذا الحزب في مناطق أخرى من لبنان. وكان أوغاد الحزب، حتى في فترة ما قبل الحرب الأهليّة، يضعون الجنوب والشوف تحت رحمتهم، فيقطعون الطريق عند كل اعتراض منهم. كذلك فإن أفراد الحزب في الدامور كانوا معروفين باقتنائهم لمجموعة من أدوات الضرب والتعذيب المعدنيّة، وقد قطعوا الطريق ذات مرّة في عام ١٩٧٤ على حافلات مدرسة الـ«آي. سي.»، وأنزلوا الطلاب وأشبعوهم ضرباً بالهراوات والقيود المعدنيّة (لأن غالبيّتهم كانوا من مؤيّدي الثورة الفلسطينيّة). وقبل معركة الدامور، قامت الميليشيات الكتائبيّة فيها بقتل ضبّاط فلسطينيّين، إضافة إلى الاعتداءات الدوريّة على لبنانيّين وفلسطينيّين من العابرين.

ثانياً، إن حياكة الأكاذيب والأساطير هي اختصاص للكتائب وأعوانه من ميليشيات العدوّ الإسرائيلي في لبنان، وكانوا يستعينون في الدعاية بإسرائيليّين (وفي الإشراف على جريدة «العمل» كما تبيّن من التحقيق مع اليساري المُتطرّف السابق، توفيق الهندي ــ الذي انضمّ إلى شلّة اليمين الطائفي القوّاتي في أواخر السبعينيات). وكانت القوى اليمينيّة تسعى جاهدة إلى تصوير الحرب الأهليّة منذ اندلاعها في عام ١٩٧٥ــ ٧٦ على أنها حرب طائفيّة على المسيحيّين، وعلى أن القوى الفلسطينيّة هي التي تشنّها. لكن هذه السرديّة تعارضت مع مجريات الحرب في ١٩٧٥ــ ٧٦ عندما كانت القوى العلمانيّة هي السائدة في بيروت الغربيّة والجنوب والشمال والبقاع، وكانت الأحزاب الطائفيّة السنيّة والشيعيّة في حالة ضعف وهزال وهامشيّة. ومَن يرجع إلى خطب بيار الجميّل منذ ١٩٧٣، أو خطب صائب سلام ومقابلات المفتي حسن خالد ومداخلات محمد مهدي شمس الدين في لقاءات عرمون يلاحظ مدى هوس هذه القوى الرجعيّة بخطر الشبح الشيوعي (حتى كمال جنبلاط كان يتذمّر من «اليسار المغامر»). ولهذا، فإن الدعاية اللبنانيّة ــ الصهيونيّة استخدمت الأكاذيب عن الدامور كي تجعل من القوى المسيحيّة ضحيّة من أجل استقطاب الرأي العام الإسرائيلي والغربي. والقوى اليمينيّة الانعزاليّة كانت متمرّسة في الاستفزاز وفي إشعال الحرائق والمعارك: كل المراجع الإسرائيليّة والغربيّة باتت مجمعةً اليوم على أن السيّئ الذكر بشير الجميّل، هو الذي أشعل معركة زحلة في عام ١٩٨١، كي يجرّ إليها قوّات جيش العدوّ الإسرائيلي.

ثالثاً، ما ورد في الحلقة عن أرقام للضحايا في الدامور مُختلق من أساسه ولا يتوافق حتى مع الأرقام التي ذيعت في حينه في عام ١٩٧٦. ذكر المتحدّثون في البرنامج أن هناك أكثر من ٢٥٠ ضحيّة. لا تعني الحقائق والوقائع شيئاً لمحترفي الدعاية على الطريقة الصهيونيّة. لكن البيان الرسمي عن الدامور الذي صدر في ٣ شباط ١٩٧٦ أورد رقم ٨٠ ضحيّة (أضاف إلى الرقم للتهويل «ما يزيد» ــ راجع أنطوان خويري، «الحرب في لبنان: ١٩٧٦»، الجزء الأوّل، ص. ١٢١). ورقم ضحايا الدامور يكون في ازدياد يوماً بعد يوم في الدعاية الانعزاليّة. لكن المسؤول الكتائبي الذي ظهر في الحلقة، اعترف بوجود ٢٠٠ من المقاتلين في الدامور، وكان معظم الضحايا من هؤلاء المقاتلين الذين يتحمّلون المسؤوليّة الكبرى عمّا جرى في الدامور. لكن المنافسة في الأكاذيب عن الدامور على أشدّها، وكل طرف من الأطراف الانعزاليّة يدلي بدلوه: فقد أعطى الكاتب الإسرائيلي الليكودي موردخاي نيسان، في كتابه التبجيلي عن أبو أرز (سمّاه «ضمير لبنان») رقم ٥٨٢ ضحيّة بريئة (أي إن أحداً من المقاتلين لم يُصب بضرر في المعارك الطاحنة) (ص ٢٥). (طبعاً، إن الضحايا البريئة في الدامور، أو في أي حرب، لا تقاس بالعدد بل بالبراءة، وهناك أبرياء سقطوا بين قتيل وجريح، لكن العدد لم يكن أبداً كما يرد في الدعاية).

رابعاً، يتحمّل حزبا الكتائب والأحرار، اللذان قادا الحرب، المسؤوليّة عن سقوط الدامور. فقد بعثت قوّات الحركة الوطنيّة إلى المقاتلين في الدامور بقائمة من الشروط المنطقيّة والواقعيّة (عبر محافظ الجنوب آنذاك)، وتضمّنت الشروط: وقف إطلاق النار، والتمنّع عن قطع الطريق الساحليّة عند كل «طلوع خلق»، ومعارضة التقسيم، لكن الميليشيات الداموريّة أخلّت بوقف إطلاق النار.

خامساً، إن معركة الدامور لم تكن بريئة، وشاركت فيها قوى السلطة اللبنانيّة آنذاك، واستعان الجيش اللبناني بطائراته في المعارك. كانت قوات جيش سلطة سليمان فرنجيّة (الجدّ) مُشاركة بالكامل في معركة الدامور، وفي تأزيم المعارك. وقد أوضح كمال جنبلاط في حينه أن مساعي التهدئة التي حاولت الحركة الوطنيّة والثورة الفلسطينيّة بذلها جوبهت بالرفض، ليس فقط من قبل القوى الانعزاليّة، بل أيضاً من قبل وزير الدفاع الذي عارض فتح طريق الدامور بعد إقفالها لمدّة شهر كامل قبل سقوط الدامور (راجع فؤاد مطر، «سقوط الإمبراطوريّة اللبنانيّة»، الجزء الثاني، ص ٧٨).

سادساً، إن تهجير الدامور كان جزءاً من الخريطة التقسيميّة الطائفيّة التي كانت في صلب مشروع الكتائب والأحرار. ولقد وقف كمال جنبلاط والحركة الوطنيّة بحزم ضد التهجير، لكن الجيش اللبناني وقوى السلطة سارعا إلى تهجير الأهالي عبر البحر، وإيوائهم في ما بعد في المناطق الشرقيّة في قواعد الجيش اللبناني، قبل توزيعهم على الكنائس والمدارس. ولقد شارك بعض هؤلاء المهجّرين في القتال في ما بعد، وبوحشيّة، انتقاماً للدامور، مثل «كتيبة الدامور» التي ارتكبت مجازر في صبرا وشاتيلا (راجع البيان الذي وجّهه كمال جنبلاط إلى أهالي الدامور في ٢٢ كانون الثاني في جريدة «النهار» للبقاء، مقابل الشرط البديهي بانسحاب المُسلّحين).

سابعاً، لم تأتِ معركة الدامور في فراغ: كانت القوى الانعزاليّة هي التي قامت بعمليّات التهجير الطائفي والعرقي، ومجزرة الكرنتينا ــ المسلخ هي التي سبقت معركة الدامور، وكان عدد ضحاياها يفوق بكثير عدد الضحايا في الدامور. لكن الكرنتينا ــ المسلخ، ومجازر النبعة وبرج حمّود وتل الزعتر وجسر الباشا وضبيّة وحارة الغوارنة وحي بيضون وسبني، كلّها باتت نسياً منسيّاً في الذاكرة الكتائبيّة السائدة في الحرب: فقط الدامور هي التي ترد عند ذكر المجازر في الحرب. كان هناك مخّطط واضح من القوى الانعزاليّة لفرض فرز سكّاني بخطوط طائفيّة وعرقيّة. وقد تركت القوى الوطنيّة طريق السعديّات مفتوحاً قبل بدء المعركة، من أجل تسهيل نفاذ المدنيّين والمدنيّات، لكن القوى الانعزاليّة ــ على طريقة القوى الصهيونيّة ــ أرادت منع المدنيّين والمدنيّات من المغادرة.

ثامناً، إن القوى التي شاركت في معركة الدامور كانت في أكثريّتها من اللبنانيّين، لكن اللبنانيّين (من طرَفيْ النزاع) باتوا يستسهلون لوم السوريّين والفلسطينيّين على جرائمهم هم. صحيح أن منظمّة الصاعقة (وهذه المُنظمة تحوّلت على يد زهير محسن ورعاته في المخابرات السوريّة إلى عصابة قتل وسرقة وتشبيح في الحرب الأهليّة اللبنانيّة) شاركت في الدامور، لكن منظمّة حزب البعث العربي الاشتراكي (أي الفرع اللبناني للحزب الحاكم في سوريا) هي التي شاركت بقوّة في المعارك، إلى جانب أحزاب لبنانيّة أخرى، بما فيها الحزب التقدّمي الاشتراكي وغيره من الأحزاب اللبنانيّة. لم تكن منظمّة التحرير الفلسطينيّة في وارد المشاركة، لا بل إن ياسر عرفات أمر بوضع حواجز على مدخل خلدة من أجل منع عمليّات سرقة مزارع الدامور وبساتينها، التي قامت بها عائلات بيروتيّة (وأبو موسى الذي قاد القوى الفلسطينيّة لم يكن على وفاق مع عرفات). وقد أرسل عرفات ضابطيْن إلى منطقة الدامور لتهدئة الموقف، حتى بعد سقوط الدامور (كان كمال جنبلاط حريصاً من باب المؤازرة الإقطاعيّة الطائفيّة على حياة كميل شمعون وقصره، لا بل هو انتقد «الأميرال نلسون (مصطفى) سعد» لأنه لجأ إلى قصف السعديّات من البحر).

تاسعاً، يمكن المقارنة في أعداد التهجير الطائفي والعرقي في المرحلة الأولى من الحرب لتبيان الحقيقة. فقد أحصت المراسلة الأميركيّة، تابثا بتران، في كتابها «النضال من أجل لبنان» الصادر في منتصف الثمانينيات، عدد المُهجّرين قسراً فكانت النتيجة: نحو نصف مليون من المُهجّرين قسراً كانوا من المسلمين (اللبنانيّين والفلسطينيّين)، فيما كان عدد المُهجّرين قسراً من المسيحيّين نحو ١٠٠0٠٠ (بمن فيهم ٣٠,٠٠٠ من الروم الأرثوذكس الذين رحّلهم حزب الكتائب من منطقة الكورة، ونحو ٢٠,٠٠٠ من الدامور، والباقي رحلوا عن مناطقهم طوعاً هرباً من الحرب (ص ٢٢٧ من كتاب بتران). هذه هي حقائق ووقائع التهجير القسري في الحرب الأهليّة (لم يتضمّن التعداد هنا ضحايا حرب الجبل من المسيحيّين الأبرياء).

عاشراً، بالنسبة إلى لوم «الغرباء» ــ وهذا اللوم بات الرياضة المُستحبّة عند طرفيْ النزاع في لبنان، وليس هناك من رموز الحركة الوطنيّة اللبنانيّة كي يدافع عن برنامجها وخطّها، إذ إن أكثرهم بات مُلحقاً بقوى طائفيّة تعادي كل ما مثّلته الحركة الوطنيّة. ما يغيب عن السرد هو أن القوى اللبنانيّة (من الطرفيْن) هي التي كانت تستعين بالجيش السوري عندما يكون ذلك في مصلحتها، وكانت تستعين بقوى خارجيّة أخرى. كانت القوى الإسلاميّة الرجعيّة (من سنّة وشيعة) هي التي كانت تستنجد بياسر عرفات والنظام السوري عندما كانت تريد كسر شوكة القوى الانعزاليّة (راجع محاضر قمم عرمون في كتاب حسن خالد، «المسلمون في لبنان والحرب الأهليّة»). كذلك فإن الحركة الوطنيّة كانت هي أيضاً (خصوصاً الثلاثي وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي) تستعين بتلك القوى الخارجيّة وغيرها عندما يكون ذلك في مصلحتها السياسية (أو الانتخابية في حالة جنبلاط).

حادي عشر، تخفي السرديّة السائدة للكتائب والقوّات والأحرار جانباً بات مُخجلاً ومزعجاً لهم عن دورهم في الحرب الأهليّة. إن القوى الانعزاليّة لم تكن تشنّ حرباً ضد قوى المقاومة الفلسطينيّة لمنع التوطين (لم يكن ياسر عرفات ــ على علاّته الكثيرة ــ والقوى الفلسطينيّة في وارد التوطين في لبنان: هذه فزّاعة ابتدعتها القوى الشيعيّة الطائفيّة اليمينيّة في لبنان مع الانعزاليّة اللبنانيّة في بيروت الشرقيّة، وبالاشتراك مع محمد مهدي شمس الدين، لتوطئة الحرب على الفلسطينيّين من كمّاشة الجنوب والضاحية الجنوبيّة قبل الاجتياح الإسرائيلي وبعده في عام ١٩٨٢). كانت القوى الانعزاليّة تشنّ حرباً طائفيّة ضد كل المسلمين في لبنان للحفاظ على المكتسبات الطائفيّة لقوى الطائفيّة المارونيّة. لم يكن هناك مشروع توطين في النبعة وبرج حمّود والكرنتينا والمسلخ وحي بيضون. مجزرة السبت الأسود التي ابتدعها السيّئ الذكر بشير الجميّل، استهدفت المسلمين والمسلمات على الهويّة (كان جلاّدو القوّات اللبنانيّة المتخصّصون في التعذيب يتفنّون في تطبيق شتّى وسائل التعذيب على النساء: وروى سجين سابق من بعلبك لي عمّا تناهى إلى سمعه من أحد سجون القوّات في عام ١٩٨٢ من صراخ وبكاء وعويل لنساء في السجن الذي وُضع فيه، فقط لأن فرد من آل الموسوي مرّ على حاجز قوّاتي).

ثاني عشر، تستعين قوى الانعزال وشراذمها وبقاياها في وسائل الإعلام اللبنانيّة، مثل «أم. تي. في.»، بإسقاط الألقاب والحركات السياسيّة الراهنة على تلك المرحلة: فيقولون إن «الدواعش» قاموا باقتحام الدامور. أيّ «دواعش»؟ كانت الأحزاب والمنظّمات التي شاركت في معركة الدامور إما ماركسيّة أو ناصريّة قوميّة عربيّة أو علمانيّة مُشاركة في قوى الثورة الفلسطينيّة، ولم يكن الزعران الذين أساؤوا إلى الأبرياء من هؤلاء. هل تستعين دعاية القوّات والكتائب بمخزون التحريض الحالي لإعادة كتابة تاريخ تلك المرحلة؟

ثالث عشر، صحيح أن عودة المهجّرين إلى الدامور، كما إلى النبعة والكرنتينا وباقي المناطق التي هُجّر منها مسلمون (ومن أراضي تملكها الرهبانيّات المارونيّة التي شاركت في الحملات السياسيّة المُصاحبة للتهجير)، هي ضروريّة، لكن هل يمكن الحديث عن المهجّرين وتجاهل ما كنزه بيك المهجّرين في المختارة من أموال المهجّرين؟

رسّخ حزب الكتائب والقوّات وحرّاس الأرز والأحرار، وإذاعة العدوّ الإسرائيلي، أساطير وأكاذيب عن الحرب الأهليّة، وصار معظم اللبنانيّين يتناقلونها ويجترّونها بلا كيف. ومنظمّة التحرير غير موجودة لتدافع عن نفسها (محمود عبّاس مشغول بتقديم العون الأمني للعدوّ الذي يرعاه)، فيما تقاعد معظم أهل اليسار اللبناني عن يسارهم، ولحق معظم القوميّين العرب بركب آل سعود. لكن كتابة التاريخ اللبناني عمليّة مُستمرّة، والكل مدعوّ إلى المساهمة لدحض أكاذيب أعوان العدوّ الإسرائيلي في لبنان، حتى لا تحتكر شراذم احتلال إسرائيل في لبنان كتابة تاريخنا. ولنتذكّر أن الطريق إلى فلسطين مرّت ذات يوم من الدامور.