IMLebanon

خلفَ كلِّ شهيد حكاية…

مرّةً جديدة يدفع أبناء بلدة القاع غالياً ثمنَ قضية الدفاع عن وجودهم، ثمنٌ ستتوارثه الأجيال على مدى الأعوام. هم أكثر مِن مندفعين وأشدُّ مِن مقاتلين، تشرَّبوا القضية وناضَلوا من أجلها، واستشهدوا باسِمي الوجوه فداءً لبلدة أحبّوها حتى الموت.

باتَ شهر حزيران شهرَ شؤمٍ بالنسبة إلى القاعيّين. فأمس استيقَظ أهالي البلدة على المأساة نفسِها التي استيقظوا عليها في 28 حزيران 1978. تَغيّر القتَلة، تَبدّل الشهداء، وبقيَت النتيجة واحدة: أبناء القاع لم يستكثروا أرواحهم ليفدوا الوطن.

خلف كلّ شهيد حكاية لم تكن خواتيمها سعيدة، ولكلّ حكاية أبطالها الذين تشارَكوا مع الشهداء حياتَهم بحلوها ومرّها. هم اليوم أيتام، أرامل، بلا أخ، بلا قريب، أو بلا صديق، كُتِب لهم أن يكمِلوا المسيرة وحيدين، علماً أنّ قرعة شبَح الإرهاب قد تقع عليهم في الغد.

جوزيف ليّوس أحد الشهداء الخمسة، كان يقود بوسطة طلّاب القاع ذهاباً وإياباً، من بيروت وإليها، وبشهادة كلّ مَن تعرّفَ إليه، تمتّع ليّوس بروح الدعابة والمرَح.

يتذكّر أحد التلاميذ والذي كان يرافقه بشكلٍ دائم، أنّه لم يكن يردّ على المكالمات الهاتفية أثناء نقلِه التلاميذَ، تفادياً لتعريض حياتهم للخطر، وهو ما يَشهد عليه العديد من أهالي البلدة، وتقول إحدى قريباته: «نجحَت ابنتُه أخيراً في شهادة البريفيه ولم يتسنَّ له الاحتفالَ بنجاحها، وهو عبَّر عن فرحته على الفايسبوك وكأنّه شعرَ بأنّه لن يتمكّن مِن التعبير في مكانٍ أو وقتٍ آخَر، وقد رفضَ الاحتفالَ قبل أن تمرّ ذكرى مجزرة القاع، كونه شخصاً مندفعاً للقضية، وهو ما يُبرّر مقاتلتَه للانتحاري قبل أن يُفجّر نفسَه».

ما يَجمع بقيّة شهداء يوم أمس هو انتماؤهم في وقتٍ سابق إلى مؤسّسة الجيش اللبناني، وقد تكون هذه المؤسسة هي من ولّدت في داخلهم هذا الاندفاع نحو حماية الآخرين ولو على حساب حياتهم.

بولس الأحمر، كان رقيباً أوّلاً متقاعداً في الجيش اللبناني، شاركَ في معارك كثيرة خلال حياته العسكرية، وفي فترة معيّنة كان يقود سيارة الإسعاف، لذلك عند تقاعدِه سَلّمته رعية البلدة سيارة الإسعاف التي تملكها، نظراً لخبرته في هذا المجال وتفانيه في العمل.

وفي يومِه الأخير توجَّه الأحمر إلى الكنيسة التي تَبعد عن بيته نحو 600 متر لإحضار سيارة الإسعاف بهدف إغاثة المصابين بعدما سمعَ صوتَ الانفجار الأوّل، وما إنْ وصَل حتى اتّجَه نحوَه الإرهابي الثالث الذي كان مختبئاً خلفَ الأشجار وفجّر نفسَه، ليصاب الأحمر في رجليه وصدرِه ورأسه قبل أن يُنقل إلى المستشفى ويلفظ أنفاسَه الأخيرة نتيجة نزيف حادّ، ويذهب تاركاً زوجتَه وأولاده الثلاثة، قبل أن يحتفلَ بقربانة أحدِهم يوم السبت المقبل.

شبحُ الإرهاب خطفَ شهداء من نخبةِ أبناء القاع، لم يرسِل لهم إشارات، جاء مباغتاً وخطفَهم وسط صدمةِ أقاربهم، لأنّهم سقطوا ضحايا جريمة لا يَدرون ما هي.

جورج فارس أحبَّ القاع لدرجة أنّه رفضَ مغادرتها، حماستُه واندفاعه لإغاثة أبناء بلدته دفعاه لاصطحاب زوجته وصِهره لمساعدة العدد الأكبر من المصابين، غيرَ مدركٍ أنّ الموتَ سيكون له بالمرصاد. هذا العسكري المتقاعد، سبقَ وشاركَ في معاركَ عدة وأصيب، لكنّ عمراً جديداً كان يُكتب له في كلّ مرّة.

إيمانه بمشيئة الله دفعَه لتحدّي الخطر والعمل في القطاع الزراعي في مشاريع القاع، وعلى رغم الخطر المستشري في هذه البقعة إلّا أنّ قدرَه كان الموت وسط بلدته، فيما يَرقد كلٌّ مِن زوجته وابنه وصهره في المستشفى غيرَ مدركين إذا كان يُفترض بهم أن يفرَحوا لخَلاصهم أو أن يبكوا معيلَ العائلة.

بدوره، ينتمي ماجد وهبي إلى المؤسسة نفسِها، وهو بعدما تقاعَد اختارَ القطاع الزراعي للعمل فيه، ما يفسِّر تعلّقَه بالأرض ودفاعَه عنها. اشتهرَ بنَخوته وشجاعته واستشهد في الأرض التي أحبّ، تاركاً أولادَه الأربعة أيتاماً يبكون والداً محبّاً وحنوناً رضَخ لقدرٍ حتّمَ عليه الوجودَ على أرضٍ اشتهاها الإرهابيون على مرّ السنين وحاربوا أهلها.

بعض الشهداء اختاروا بأنفسِهم المجازفة بحياتهم، وقد يكون فيصل عاد أحدَهم، فهذا الجندي الذي تقاعَد من الجيش أيضاً، اختارَ أن يكون جندياً في السماء.

فيصل عاد ألعازب، قرّر الاقترانَ بالقضية وتكريس حياته لها، رافضاً تركَ أرضِه، لدرجة أنّه بنى فيها معملاً لتصنيع المؤونة البلدية، وخدمَ ضمن مجموعة من الشباب القاعي. هذا الرَجل المناضل حاز أوسمةً عدة أثناء خدمتِه العسكرية.

وأكثر ما يثبتُ اندفاعَه وتوقَه لمساعدة أهل بلدته هو أنّ بيتَه بعيد جداً عن مكان «المجزرة»، لكنّه ما إن سمعَ صوتَ الانفجار حتى ركبَ سيارته وتوجّه للمكان، وتزامنَ وصولُه مع وصول شبح الموت الذي خطفَه إلى دنيا أخرى، قد تكون أكثرَ إنصافاً.

بعض الحكايات كُتبَت لها خواتيمُ حزينة، لكنّ أبناءَ القاع سيحوّلون حكايتَهم المؤلمة إلى عرسٍ جماعي، يزفّون فيه أبطالاً لم يَعرفوا الجبنَ يوماً، أبطالاً اختاروا الشهادة التي ستُخلّد أسماءَهم في التاريخ. أبناؤهم، زوجاتهم، وإخوانهم لن يبكوهم، بل سيفخَرون في قدَرٍ اختاره أبطالُهم، لإيمانهم بالقضية، وبأنّ الله يُمهل ولا يُهمل.