IMLebanon

بين جيش للحرية وجيش للاستعباد

لم تأت أفكار «داعش» وأحلامه بجديد قط، عندما أعد من يخططون له في المنطقة العربية وامتداداً حتى الوصول إلى أقاصي الدنيا بما فيها العالم الإسلامي المترامي الأطراف برنامجه التدميري الخطير: جيش من طراز جديد. فالفكرة الرئيسية الأم التي شكلت الركائز الأولى التي ولد «تنظيم الدولة» من رحمها والتي كان للغزو الأميركي للعراق (2003) دوره الحاسم والأحمق عندما عمد إلى حل الجيش العراقي مرسلاً إلى بيوتهم مئات الألوف من الضباط والجنود من ذوي الخبرات الطويلة في ساحات القتال تمحورت حول خلق جيش جديد لم تعرف البشرية مثيلاً له من قبل، من المقاتلين الأشداء الذين لم يعد لهم لا مكان ولا مورد رزق ولا مأوى ليلجأون إليه في العراق «الجديد». وأن ينضم إلى صفوفهم في ما بعد من تمكن من الفرار من سجن «أبو غريب» أي ما سمي لاحقاً «الهروب الكبير» الملتبس الذي حمل بصمات رئيس الحكومة العراقية السابق «نوري المالكي» قد أمد «داعش» بالمزيد من هؤلاء الجنود الشرسين اليائسين من الحياة. وأن يلتحق بدورهم بعض عناصر المعارضة السورية ممن شجعتهم الأجهزة الأمنية الأسدية لمضاعفة عديده وقدرته القتالية وذلك في سياق خطة مدروسة متقنة لتشتيت صفوف المعارضة وكيل الطعنات لها من الخلف يندرج هو أيضاً ضمن هذا الاتجاه.

ليس هذا فحسب بل راح «داعش» في قدرة مذهلة للوحش أو المرض أو لعنة العصور بالتكيف مع تقنيات التواصل الاجتماعي والإنترنت، يستقطب ويستهوي حتى داخل البلدان الصناعية الأكثر تقدماً نفسها العديد من المهمشين واليائسين والشاذين والمثليين ومن أولئك الذين يستهويهم أفلام العنف المجاني والجنس الجنوني، بل أولئك الذين لا يرف لهم جفن لدى مشاهدتهم ذبح رجل بريء أو اغتصاب فتاة والتناوب عليها حتى الموت… بل مشاركتهم هم أنفسهم في هذه الجرائم الوحشية.

فتصوّر المحصلة خصوصاً بعد تمكن هذا الجيش الأكابوليبتي من السيطرة على بعض آبار النفط والاتجار بالبترول في السوق السوداء. ليس هذا فحسب بل الالتحاف (بالفاء) بالإسلام وتنصيب خليفة مزعوم يتسرّى بالفتيات القاصرات، شأنه في ذلك شأن «المحظيين» من حاشيته من الرجال. وقد بثت لنا قناة «سي.أن.أن.« CNN شهادات إحدى الفتيات الأميركيات حول اغتصاب الخليفة البغدادي المزعوم لها مرات عدة. كما تم عرض فيديو حي لعرس جماعي لمقاتلين داعشيين أنعهم عليهم بعدد من النساء الرهائن من مختلف الأعمار والجنسيات.

إلا ان التاريخ ينبئنا ان نقيضاً ناصعاً ساطعاً قد جسد هذه الفكرة نفسها، منذ حوالى ألفي سنة ونيف في قلب ايطاليا الرومانية عشية الصراع على السلطة بين كراسوس وبومبيوس ويوليوس قيصر والثلاثة كانوا من كبار جنرالات العصر الذي مهد لديكتاتورية يوليوس قيصر (101 ـ 49 ق.م.) وحكم الفرد بل القضاء على الجمهورية وسلب مجلس الشيوخ صلاحياته لمصلحة القيصر. فعام 73 قبل الميلاد قاد المدعو «سبارتاكوس» وهو عبد رقيق يوناني الاصل من تراقيا، قوي الشيمة، ذو قوة جسدية مذهلة، كان راعياً للغنم قد وقع في الاسر. وقد اختاره يومها اسياده مع عدد من امثاله القساة الأشداء ليجري تدريبهم على المصارعة حتى الموت في مدرسة للمصارعين النخبة في «بادوا» Padoue. يومها قاد سبارتاكوس انتفاضة هائلة داخل سجنه التدريبي ادت الى فراره مع 73 مصارعاً آخر حيث صعدوا الى قمة بركان «فيزوف» Vesuve فتقاصوا من هناك ينادون بتحرير جميع العبيد الأسرى ممن هم في قبضة الاسياد الرومان، فراح يلتحق بصفوفهم عشرات الألوف من العبيد التواقين الى الحرية. لا بل راحوا ينزلون الهزائم الساحقة بجميع الفرق الرومانية (Las cohortas) التي ارسلتها روما لاخضاعهم. اجتاح سبارتكوس المزارع والقرى والبلدات، مطلقاً الحرية والمساواة لاخوته من رجال ونساء وأطفال. اما الغنائم من معادن ثمينة ومجوهرات وتحف نادرة فقد جرى تجميعها في معسكر واحد تحت رقابته المحكمة جاعلاً منها «صندوق الحرية» حرز حريز لدفع اثمان ايجار السفن الليدية (ليدياني آسيا الصغرى) لإقلال العبيد وقد اصبحوا احراراً، كل الى بلاده. ولم تقم انتفاضته آنذاك قط بذبح او قتل احد من النبلاء الرومان الذي وقعوا في الاسر بل اطلقهم محملين برسالة واحدة: مطلبنا الحرية.

لم يسقط في يد «روما» آنذاك ان تضيع من ايديها المعادن الثمينة والمجوهرات.. فتلك اشياء بامكان روما الاستيلاء على بدائل عنها، بل انصب همها وهاجسها الطاغي على استعادة الانسان، اي العبيد انفسهم الذين استطابوا طعم الحرية والانعتاق فعمدت الى رشوة قادة الاسطول الليدي الذي نكس بوعوده لسبارتاكوس لموافاته وعبيده المحررين الى مرفأ «برنديزي» في جنوب شرقي ايطاليا. حينئذ ادرك سبارتاكوس ان الحل الوحيد المتبقي هو احتلال «روما» نفسها حيث نبلاء مجلس الشيوخ وأعيان البلاد والقادة العسكريين الظامئين للاستيلاء على السلطة. استدعت روما ثلاثة جيوش لمواجهة سبارتكوس: كراسوس ذو الثروة الخيالية، بومبيوس من البر الافريقي ويوليوس قيصر من «غاليا» (فرنسا الحالية) الذي راح يتلكأ.

في «سيلاري« على الطريق المؤدي الى روما هزم التفوق الروماني العددي الجيش الشعبي من العبيد المنعتقين، اذ وافى قوات كراسوس جيش بومبيوس، حيث وقعت مجزرة العصر فاستعاد الاسياد عبيدهم وصلب سبارتكوس عام 71 ق.م. وعدد من رفاقه الشجعان على ابواب روما.

وبعد، أي مقارنة مذهلة مريعة بل عبثية بالإمكان إجراؤها بين مأثرة سبارتكوس ورفاقه من المصارعين المقاتلين الشجعان ومن لبى نداءه فالتحق بانتفاضته الهائلة الساطعة التي ظل أريجها الناصع تردده الأجيال، أولئك الساعون للانعتاق وتذوق طعم الحرية وتحطيم سلاسل العبودية والعودة كل منهم إلى وطنه وأرضه وقريته من جهة، ومن جهة أخرى بين جيش القتلة المجرمين أولئك الذين زوراً ونفاقاً وبانتحال متعمد للإسلام وتحت راياتهم الظلامية التكفيرية قاموا وما زالوا بذبح الأبرياء وتدمير الحضارة واسترقاق النساء سبايا وباغتصاب النساء وإحراق الأسرى الأحياء وأسر مدن وبلدات بأكملها؟ أي دراسة مقارنة ممكنة جائزة يا ترى بين أولئك الذين صلبوا أحياء على أبواب روما عقاباً لهم وأمثولة بين الذين تفانوا لتحرير الإنسان رافضين الذل والعبودية وبين لعنة الدهور تنظيم الدولة داعش، عدو الإنسان والإنسانية، نقيض الحضارة والرقي والتمدن الذي تمتد أيديه الملطخة بالدماء لتشويه الإسلام وتعاليمه ولكل ما هو سمح طيب معطاء فيه؟

والآن وقد امتدت شروره لتطاول أوروبا وأميركا وأقاصي الهند والفيليبين، أليس هو الخادم الأكثر تسويغاً وتبريراً وتشجيعاً وتحريضاً للجريمة في العالم، الخادم الأكثر تفانيًا وامتثالاً للفاشية الجديدة التي تهدد البشرية؟

لقد سمعنا الفاشي «دونالد ترامب» بالأمس بعد مجزرة أورلاندو الرهيبة يصفق طرباً إذ جاءه من حيث لا يدري من يصب الماء وفيراً في ماكينته وطاحونة آرائه السوداء.

إن البشرية قاطبة في هلع، وها هي تعلن النفير العام، إذ لا بد من حل لهذه الظاهرة المرضية الكارثية. والحل لا بد له أن يبدأ أولاً في بلداننا. فبالإصلاح الديني ووقف الصراعات المذهبية واستئصال المعوقات التي تشكل البيئة الحاضنة لنشوء الإرهاب ونموّه من جهل وأمية وتعصّب واستشراء روح الكراهية والانغلاق وبالحداثة والعصرنة والانفتاح وقبول الآخر، تبدأ الخطوات الأولى في طريق الصواب. سيرورة تاريخية دونها الكثير من الجرأة والمبادرات ومما لا يثمن من تضحيات.