IMLebanon

جثث على ضفّتي دجلة

بدأت الجثث تظهر على ضفّتي دجلة. «هيومن رايتس واتش» قالت إن جريمة موازية تجري، ومسؤول الأمن في البيشمركة أشار إلى أن «داعش» سيولد من جديد. الموصل تختنق بوقائع لا سياق لها، ولا أحد ممسكاً بدفة المدينة. الشيعة غرباء فيها والسنة مهزومون، وأقليات السهل تستعد لهجرة أبدية، فيما الأكراد على وشك إعلان دولتهم والخروج من هذه التجربة.

لا شيء نهائياً في شمال العراق وفي وسطه سوى ذلك الطريق المُمهد أمام جنود الحرس الثوري الإيراني من بعقوبة إلى الحدود السورية العراقية مروراً بالشاطئ الأيمن من النهر، هناك حيث تظهر جثث مقاتلي «داعش» وقد قذفها النهر إلى ضفّتيه.

المعركة لم تنتهِ، قال الضابط الأميركي لصحافي زار المدينة. العالم يُكرر المعادلة نفسها منذ جيل الجهاديين الأول. للأخيرين وظيفة ما أن تُستنفد حتى يهب العالم لخنقهم، فيولدون من جديد. تسريع مذهل لدورة الزمن الخلدونية. يولد «المجاهدون»، ويدفعون إلى الجريمة ثم يهب العالم إلى قتلهم، فيولدون مجدداً في كهوف مجاورة أو على ضفّتي نهر يقذف جثث أسلافهم.

الجميع لا يريد أن يتعلم الدرس. فيوم باشر «المجاهدون» الأوروبيون قدومهم إلى العراق وإلى سورية، فعلوا ذلك ليس بعيداً من أنظار حكوماتهم، وهم كانوا يكررون ما فعله أسلافهم عندما «هاجروا» إلى أفغانستان وبعدها إلى دولة الزرقاوي في العراق، وكان واضحاً أن الرحلة غير الشاقة إلى «داعش» ستعقبها عودة، ولم يكن أحد مكترثاً بهذه العودة.

اليوم تولد جثث على ضفّتي دجلة، ويبدو أن ثمة قراراً قد اتخذ في أن لا مكان لعناصر «داعش» في السجون، ذاك أن السجون سبق أن حبلت بأجيال جديدة منهم، وحولت مئات من الجناة العاديين إلى مجاهدين. اذاً الإعدام الميداني هو الوسيلة لتفادي هذا الاحتمال، والنهر هو طريق الأهل إلى جثث أبنائهم. أما غرباء «المجاهدين» فستبقى جثثهم معلقة في صور يلتقطها عابرون من أمثالنا، وستتحلل تحت وطأة شمس الصحراء الحارقة.

ما يجري مخيف فعلاً. أن يتخيل المرء سيناريو الهزيمة، فذلك يضعه أمام حكاية مستحيلة، لا يمكن له أن يردها إلى تجربة وإلى خبرة. آلاف من عناصر «داعش» ينتظرهم حراس النهر الجدد والغرباء. نساء مفخخات يخرجن من تحت الأنقاض، وعائلات تقيم في مخيمات تمنع عليها المغادرة إلى قراها وبلداتها في أرياف نينوى الشاسعة. القدر أقوى من العدالة، ذاك أن الأخيرة ترف لا مكان له في معادلة التهلكة هذه. عليك أن تنظر إلى ما يجري بصفته قدراً لا مناص منه ولا قدرة لك على التأثير فيه. أن تكتب عنه يعني أن تصفه وتشرحه لا أن تبحث عن العدالة فيه. المشهد أكثر تعقيداً من أن تُعرِضه إلى تلك المعادلة المضجرة.

لا حق لأحد في هذه الحرب، والشر إذ يقيم في نفوس المتحاربين، لا يبحث عن غير نفسه في جريانه وفي تضخمه. الشر لا يبحث عن دولة للأشرار، ولا عن مستقبل له، على نحو ما كان يفعل صدام حسين مثلاً أو على نحو ما يفعل اليوم النظام في سورية. الشر في سهل نينوى يؤسس لشر أكبر منه، ولا يريد أكثر من نهرٍ جارٍ يدفع الجثث إلى أهلها ويكمل طريقه إلى بحار بعيدة.

ثمة أجيال سريعة النمو ينتظر أفرادها آباءهم على ضفاف النهر، وهذا الأخير لا يبخل على الفتيان، فيفصح لهم عن وجوه آبائهم. وفي العراق لن يبخل عليك أحد في القول إن الطفل الذي ولد لأب في «داعش» سيمضي إلى التنظيم من تلقائه، ذاك أن جرف النهر جثة والده لن يقيه من تلبس الشر بمستقبله. المخيف فعلاً هو أن ما يقوله هؤلاء، والذي يوازي في فظاعته الجريمة، صحيح وسبق أن اختبر، لا لأن الشر سابق على الولادة، بل لأن أحداً لا يريد لـ «داعش» أن يموت. فالخطأ ماثل أمام الجميع، والعالم مستسلم لهذا القدر، وجميع المؤسسات الأممية موجودة وتراقب وتدون وتنشر تقاريرها، ولا يبنى على الشيء مقتضاه. الجميع يعلم أن «داعش» ليس جثثاً تعبر النهر فقط، انما إرث وكتل وعشائر، لكن الجميع يريد أن يدير ظهره لهذه الحقيقة، وأن يقصر نظره على ما يقذف دجلة إلى ضفافه.

النهر يجرف الجثث، لكن آلاف الفتية يتأهبون للثأر. انه القدر الخلدوني.