IMLebanon

نداءُ العلمنةِ بين الفتوحاتِ والبلقَنة

انتابَتْني نزعةُ الكتابةِ عن العلمنة. وجدتُها ترفاً أدبياً. شعَرت بخجلٍ في عِزِّ التطرّفِ الديني. لكن، أليس حين يتفاقَمُ المرضُ تزدادُ الحاجةُ إلى الدواء؟ في منطقةٍ هي مهدُ الأديانِ الثلاثة، اليهوديةِ والمسيحيةِ والإسلام، اقتراحُ العلمنةِ يبدو، للوهلةِ الأولى، مستحيلاً من الناحيةِ العمليةِ وتحدياً لتراثِها من الناحيةِ المعنويةِ ومناقِضاً لهُوّيتِها من الناحيةِ التاريخية.

ويصبح الاقتراحُ أكثرَ استحالةً حين يَشمُلُ لبنان، «مركزَ تجمّعِ» نحو سبعَ عشْرةَ طائفةً أصيلةً أو مُجَنَّسةً، وأخرى مكتومةُ القيد… لكن، إنْ كانت في هذا العالمِ منطقةٌ تحتاجُ إلى علمنةٍ فهي منطقةُ العالمِ العربيّ، وإن كان في هذا المشرِقِ الكنعانيِّ ـ الفينيقيِّ ـ السرياني ــ العربيِّ بلدٌ يحتاجُ إلى علمنةٍ أكثرَ من سواه فهو لبنان. لم يَعد وطنُنا مُلتقى الأديانِ بل مَيدانَ طوائفَ ومذاهبَ أرضيةٍ تتقاتل خِلافاً لتعاليمِ الدياناتِ السماويّة. هنا تَقتلُ طوائفُنا ومذاهبُنا أديانَنا، «واعَلْمَنَتاه»!

اعتمادُ العلمنةِ في لبنان يُنقِذ الأديانَ من الطوائفِ والمذاهِب، ويُنقذُ هذه من السياسيين. أمهاتُنا لا يَلِدْنَنا للوطنِ بل للطوائف. إننا طائفيون ونحنُ بعدُ أجِنَّة. وحدَه اللقيطُ يولَدُ عَلمانيّاً. لبنانُ الموَحَّدُ تَقبّلَ وجودَ الدينين المسيحيِّ والإسلاميِّ فيه، لكنه لم يَتحمَّل صراعَ الطوائفِ والمذاهب.

الأديانُ رسالاتُ الله، أما الطوائفُ والمذاهبُ فخِلافاتُ البَشرِ ونزَواتِهم، ولا تَستَحقُّ الحياةَ أو الموتَ في سبيلها. إنها وجهٌ وَثَنيُّ يُشبِه تَعدّدَ الآلهةِ قبلَ معرفةِ الله.

في الشرقِ، وخاصةً في لبنان، يَدفعُ الإنسانُ ثمنَ عدمِ «ترسيمِ الحدودِ» بين الدينِ والدولة. الدولةُ تعترفُ بالدينِ كمَصْدرٍ يُشرِّعُ نظامَها، والدينُ يعترفُ بالدولةِ كسلطةٍ تُشَّرعُ طوائفَه. لكنَّ العلاقةَ بينهما نزاعيةٌ تتجاذبُها الهيمنةُ بين رجالِ الدينِ ورجالِ السلطة. وفي الحالتين يَظلُّ الإنسانُ ـ الموطنُ غائباً عن هذه الثنائيةِ المُلتَبِسةِ، فهو للإسلامِ «أداةٌ جِهاديّةٌ» وللمسيحيةِ «كائنٌ رسوليٌّ» وللدولةِ «قطيعٌ أليف».

لذا يَنحرِفُ مواطنون إلى التطرفِ الدينيِّ ثأراً من الدولة، أو إلى الإلحادِ انتقاماً من الدين. وسبيلُ تلافي هذا التطورِ المأسويِّ هو أن يَقتحِمَ الإنسانُ ـ المواطن الثنائيةَ القائمةَ، على حسابِه، بين الدينِ والدولة، إذ لا قيمةَ لأيِّ دينٍ أو دولةٍ ما لم يُفَعِّلا دورَ الإنسان، وإلا أصبحتِ الأديانُ كُتباً بدونِ مؤمنين، والدولُ أنظمةً بدونِ شعوب.

الآليّةُ الأساسيّةُ لتفعيلِ هذا التطورِ هي العلمنةُ، لأنها تَربُط المواطنَ بالدولةِ مباشرةً من دونِ المسِّ بعَلاقتِه الموازيةِ بالدين.

مشروعُ علمنةِ الدولةِ في لبنان يُواجِه ثلاثةَ عوائقَ متفاوتةِ المستويات من ناحيةِ سهولةِ أو صعوبةِ معالجتِها:

1. اعتقادُ المرجعيّاتِ الإسلاميّةِ، السُنيّةِ والشيعيّةِ، أنَّ العلمَنةَ تتناقضُ ومفهومِ الإسلام الذي، لدى نشوئِه سنةَ 622، مَزجَ الدينَ بالدولة. وتَفاقَم هذا المفهومُ مُجَّدداً مع تَفَشّي إسلامٍ متطرفٍ داعٍ إلى الدولةِ الدينيّةِ وبَعثِ الخِلافة، ومع تَراجُعِ طلائعِ الدولةِ المدنيّةِ في دولٍ عربيّةٍ (العراق، سوريا وتونس) وإسلاميّةٍ غيرِ عربية (تركيا).

2. حِرْصُ الكنيسةِ على لَعِبِ دورٍ في الحياةِ العامّةِ اللبنانيةِ خشيةَ ابتعادِ المسيحيّين اللبنانيّين، وهُمْ آخِرُ قَلعةٍ مسيحيّةٍ في هذا الشرق، عن الدينِ تحت ستارِ العَلْمنة. وازدادَت هذه الخِشْيةُ مع انحرافِ العَلْمنةِ في أوروبا، وانتشارِ الحضارةِ الماديّةِ، وتَحدّي العِلمِ الإيمانَ، وضُعفِ الضوابطِ الأخلاقيّة. ويَعتقدُ أطرافٌ مسيحيّون بأنَّ العَلمنةَ مع الوقتِ قد تُخْمِدُ العصَبَ المسيحيَّ فتضَعُفُ مناعةُ الكيانِ اللبنانيِّ المستقِل.

3. تَخَوّفُ سياسيّين لبنانيّين، بنَوْا زعامَتَهم على الطائفيّةِ السياسيّةِ، مِن انقراضِ دورِهِم إذا تَعلْمَنت الحياةُ السياسية في لبنان. واشْتدّت مخاوفُ هؤلاء مع بروزِ أجيالٍ لبنانيةٍ مُثقَّفةٍ ومُتحرِّرةٍ ومُتأثرةٍ بحركةِ العوْلمَةِ وبديمقراطيةِ المجتمعاتِ الغربيّة.

إذا كان العائقُ الثالثُ غيرَ جديرٍ بالتَوقّفِ عندَه لأنَّ استئصالَ هذا الفصيلِ السياسيِّ واجبٌ بعَلْمنةٍ وبدونِ عَلْمنةٍ، فالعائقان الأولُّ والثاني يَستحِقّان معالجةً حكيمةً بسببِ صيغةِ المجتمعِ اللبنانيِّ القائمةِ على أسسٍّ دينيةٍ وطائفية.

تَحَفّظُ المرجِعياتِ الدينيةِ المسيحيةِ، وهو غيرُ عقائديٍّ، سهلُ المعالجةِ في حالِ وُضِعَت للعلمنةِ ضوابطُ روحيةٌ وأخلاقيّة. أما الرفضُ الإسلاميُّ، وهو عقائديٌّ، فيَحتاجُ جُهداً مُضنياً لكنه ممكنٌّ ما دامَ مشروعُ العلمنةِ سيأخُذ بالاعتبارِ خصائصَ المجتمعِ اللبنانيّ.

لا قيمةَ للعلمنةِ في لبنانَ إلا إذا احتضَنت الدينَ، ورفعَتهُ إلى مَصافِّ الروحِ، ونَقلتْه من موقِعِ الفريقِ إلى مِثاليّةِ المرجِع، وأَبقَت تعاليمَه مَنهَلَ التمييزِ بين الخيرِ والشرّ. مثلُ هذهِ العلمنةِ تَنسَجمُ مع عُمقِ اللاهوتِ المسيحي. فالعهدُ الجديد «علْمَنَ» العهدَ القديم رُغمَ أنَّ اليهودَ عَصَوا المسيحَ وظلّوا مُوسَوّيينَ يُبرِّرون امتيازاتِهم الزمنيةَ بـ»حقٍ دينيٍّ».

المسيحُ وَصَلَ الإنسانَ بالدينِ من دونِ المرور بالدولةِ، وحَدّدَ التبشيرَ الرسوليَّ، لا القوةَ، طريقاً لنشرِ المسيحيّةِ، وفَصَلَ الدينَ عنِ الدولةِ كما ميّزَّ بين الروحِ والجسَد.

إذا كان يسيراً تمريرُ العلمنةِ لدى المسيحيّين، فهو عسيرٌ لدى المسلمين لأنهُم يَعتبِرون الإسلامَ ديناً ودولة. لكنَّ سُنّةَ التطورِ كفيلةٌ بحلِّ هذه الإشكاليةِ متى قرّرَ المسلمون التعايشَ مع العصرِ والحداثة، ونقْلَ الحالةِ الإسلاميةِ من جغرافيةٍ محدودةٍ وماضٍ جامدٍ إلى العالمِ كلِّه والمستقبَلِ المتجَدِّد. إنَّ نصَّ القرآنِ ثابتٌ لكنَّ تفسيرَه مُتحرك. النصُّ ابْنُ بيئتِه والتفسيرُ حاجةَ زمانِه.

الخوف أن تكون هناك تياراتٌ ودولٌ إسلاميةٌ تريد استئنافَ الفتحِ الإسلاميِّ وإحياءَ الخِلافةِ، فحينئذ لا تَعودُ العلمنةُ وحدَها مستحيلةً، بل علاقةُ الإسلامِ بالعالمِ أجمع. وتَندرجُ هذه الاستحالةُ أيضاً على الجوار العربي – الفارسي وعلى التعايشِ المسيحيِّ – الإسلاميِّ في كلِّ كِيانٍ مُختَلطٍ، وخصوصاً في لبنان.