IMLebanon

«كرنفال» في نيويورك… و إشتباكات في عرمون

هل المخاوف في مكانها؟ هل مكتوب أن يسلك النزوح السوري إلى لبنان مساراً سلكه النزوح الفلسطيني؟ بعض اللبنانيين يصرُّ على أن لا شيء يوحي بالخطر، ويعتقد أنّ العنصرية هي التي تقود إلى «التخويف». ولكن، وإن تكن العنصرية أمراً مَقيتاً ومرفوضاً، لماذا يصمت «اللاعنصريون» عندما تُطرَح عليهم الأسئلة المصيرية في ملف النازحين؟

إنتهى مؤتمرا نيويورك للاجئين بفشل ذريع كان متوقعاً. صرخ الرئيس تمام سلام باسم لبنان: «نحن بلد معرَّض للانهيار». تبادل الذين في القاعة نظرات الأسف والاستغراب، وكأنهم اكتشفوا البارود. فهل كان أحد منهم تنقصه المعلومات عن أنّ لبنان سينهار تحت ثقّالة النازحين؟

بعض العائدين من نيويورك يصفون ما جرى فيها بـ«الكرنفال» الذي ارتدى فيه الكثيرون أقنعة. فالذين أبدوا التعاطف مع سلام، بعد إلقائه كلمته، من أوروبيين وعرب، هم أنفسهم الذين يقومون بالضغط المتواصل على لبنان منذ سنوات لكي يستوعب النازحين، ويعمدون إلى ابتزازه بالمساعدات.

ولاحظ العائدون أنّ هاجس اجتماعات نيويورك لم يكن إنقاذ اللاجئين ودعم الدول المضيفة، بل إنقاذ الدول الغربية من مأزق اللاجئين بتثبيتهم في دول الجوار السوري، بحيث تكون هذه الدول، ولبنان في الطليعة، حاجزاً واقياً لمنع انتقالهم إلى أوروبا، خصوصاً بعد تنامي موجة العداء ضدهم هناك، وبدء الخطط الواضحة والخفية في العديد من الدول الأوروبية لإخراجهم منها.

وبالتزامن مع مؤتمري نيويورك، كان الأوروبيون قد أنهوا قمتهم السنوية في براتسلافا وخلصوا إلى توصيات تتعاطى مع اللاجئين في بلدانهم بوصفهم مهاجرين، شرعيين أو غير شرعيين. وهذا التوجه يناقض قمة العام الفائت التي فتحت الذراعين لاستقبال اللاجئين بلا تحفظات.

وفي مقابل استعداد أنجيلا ميركل لاستقبال مليون لاجئ سوري تستثمرهم في تجديد شباب المجتمع الهرِم وإيجاد يدٍ عاملة رخيصة، تطغى اليوم توجهات معاكسة.

لذلك، سيتم إهمال الكلام الذي أورده سلام في نيويورك. والمنطق الذي تستمر الدول المانحة في اعتماده لن يتغيّر، ولن يُمنَحَ لبنان أيّ دعم دولي يحتاج إليه، ما دام يرفض التبرّع بأن يكون كبش محرقة في معضلة النزوح السوري.

قبل ذلك، استضاف لبنان مئات الآلاف من الفلسطينيين بعد نكبتي 1948 و1967. وإذا كانت المبررات الإنسانية والقومية هي الأساس، فإنّ النزوح الفلسطيني تحوَّل تدريجاً إلى حالة أمنية- عسكرية- سياسية- إجتماعية معقّدة، يرعاها اتفاق القاهرة.

وفي مطلع السبعينات، بدأت هذه الحالة تصطدم بالجيش اللبناني وزعزعت استقرار لبنان. وعام 1975، إصطدمت بالشعب اللبناني وتسبّبت باندلاع الحرب الأهلية. وما زال لبنان يعاني مأزق الجزر الأمنية الفلسطينية: اليوم عين الحلوة، وقبل سنوات قليلة نهر البارد. وباتت المخيمات أيضاً عبئاً على السلطة الفلسطينية التي تواجه تحدّي السيطرة على عين الحلوة.

البعض في لبنان يقول، عن حسن النيّة أو عن سوئها، إنّ ظروف النزوح الفلسطيني من أرض محتلة تختلف عن ظروف النزوح السوري من وطن ما زال موجوداً، ولذلك، لا خوف أن تتكرّر مع النازحين السوريين تجربة النزوح الفلسطيني. لكنّ الوقائع والمعطيات تُظهِر خطأ هذا التحليل:

1 – ليس هناك أفق لعودة السوريين إلى بلادهم لأن لا أفق للحرب فيها، فهي قد تستمر سنوات أخرى. والجميع يذكر أنّ هناك لبنانيين تهجّروا من قراهم، داخل وطنهم، قبل 33 عاماً أو 40 أو أكثر، وكانوا يعتقدون أنهم سيعودون بعد ساعات أو أيام، لكنهم لم يعودوا حتى اليوم لأنهم رسّخوا أقدامهم في مناطق النزوح وباتت تربطهم بها المصالح. وكل الهجرات التاريخية كانت حاسمة في تحقيق المتغيرات الديموغرافية.

في هذا المعنى، يصبح خطر النزوح السوري موازياً لخطر النزوح الفلسطيني على لبنان، خصوصاً إذا تقاطعت مصالح قوى إقليمية ودولية على استخدام النازحين لإحداث التبدلات في سوريا، واللعب بالتوازنات الديموغرافية.

2 – هناك تَداخُل اجتماعي واضح بين النازحين الفلسطينيين والسوريين في المخيمات، كما في عين الحلوة، خصوصاً مع نزوح الفلسطينيين من مخيم اليرموك خلال الحرب السورية. كما هناك تداخل أمني – سياسي. فتركيبات بعض الجماعات، كـ«داعش» ورديفاتها، عابرة للجنسيات السورية والعراقية والفلسطينية وغيرها.

3 – قد تستثمر قوى إقليمية ورقة النزوح الفلسطيني والسوري معاً في صراعها الإقليمي.

4 – ستعمد إسرائيل إلى تكريس «تذويب» الهوية الوطنية الفلسطينية بدمج مصائر النازحين الفلسطينيين والسوريين. وهناك سيناريوهات متداولة في هذا السياق.

5 – سيكون عامل النزوح أساسياً في إحداث المتغيرات الديموغرافية في دول «الربيع العربي»، ويستحيل أن يكون لبنان في منأى عن التحوّلات الآتية.

المشهد الحقيقي، «من فوق»، خلال مؤتمري نيويورك للاجئين، كان الآتي: «الكرنفال» الخطابي كان «ماشياً» هناك، فيما كانت تدور أحداث «كرنفال» آخر أكثر واقعية هنا، في دوحة عرمون، بعد صربا- جونية.

فالنازحون السوريون قدّموا في عرمون النماذج الأولى من أحداث ستأتي، كما سبق للنازحين الفلسطينيين أن فعلوا قبلهم بعشرات السنين، إلى أن استقلّوا اليوم بالجزر الأمنية المدجّجة بالسلاح والمالكة قرارها العسكري والأمني والسياسي.

ومن علامات الخطر في ملف النزوح أنّ الاشتباك اللبناني – السوري قائم. فملفات المواجهة في عرسال والقاع ومخطوفي الجيش والقوى الأمنية هي ملفات لبنانية – سورية في شكل من الأشكال، وكذلك هي الحرب التي يخوضها «حزب الله» في الداخل السوري. وهذه العلامات قد تتكفَّل بإشعال فتنة لبنانية – سورية على أرض لبنان، يكون النازحون أدوات فيها وضحايا.

وتحذّر مرجعيات خبيرة بالأمن من مواجهة سورية – سورية في لبنان، بين النازحين الموالين للرئيس بشّار الأسد والمعارضين له، يتورّط فيها لبنانيون في مقلب الموالاة والمعارضة، فيتحوّل الاشتباك لبنانياً – سورياً شاملاً وقد يتخذ طابعاً مذهبياً. واشتباك عرمون المسلّح جَرت فيه مواجهة بين سوريين ولبنانيين هنا في مقابل سوريين ولبنانيين هناك.

إذاً، الاستحقاق يقترب وسط عجز رسمي لبناني يذكّر بالعجز في ملف النازحين الفلسطينيين. وبعيداً عن الكلام الملتبس – على الطريقة اللبنانية – والمزايدات السخيفة، إنّ الذين يقودون حملة التحذير من المخاطر الكيانية للنزوح هم المسيحيون في الدرجة الأولى. وهؤلاء يتعرّضون للاتهام بالعنصرية، كما تعرّضوا للتهمة إيّاها عندما واجهوا تجاوزات النزوح الفلسطيني.

لكنّ أصواتاً سنّية تعترف اليوم بخطأ المراهنة على الفلسطينيين في اللعبة اللبنانية الداخلية، كما يعترف المسيحيون بخطأ المراهنة يوماً على إسرائيل. وقد يأتي اليوم الذي يُسمَع فيه صوت الشيعة يعترفون بخطأ المراهنة على إيران. لكنّ هذه الاعترافات تأتي دوماً متأخرة، وبعد دفع الأثمان الباهظة.

سيقود فشل لبنان الرسمي في نيويورك إلى تأكيد الاقتناع بأنّ أحداً في العالم ليس مستعدّاً لمساعدة لبنان في ملفات النزوح، وأنّ كل طرف إقليمي ودولي يبحث عن إنقاذ رأسه أولاً، ولو على حساب لبنان.

وهذا ما يجعل اللبنانيين أمام تحدّي الاتفاق على موقف واحد، واضح وصادق، في ملف النزوح السوري والفلسطيني، لئلّا تنجح المخططات الآيلة إلى جعل لعبة النزوح والنازحين جزءاً من مشهد الكيانات المنهارة في الشرق الأوسط، ومنها لبنان. فهل يتحقّق اتفاق اللبنانيين قبل فوات الأوان؟