IMLebanon

تقرير تشيكولت.. وماذا بعد؟

في السادس من تموز الحالي صدر تقرير لجنة تشيلكوت الذي يطلق عليه أحياناً تحقيق تشيلكوت Chilcot Inguiry، أما اسمه الرسمي فهو The Iraq Inquiry، وهو عبارة عن لجنة تحقيق بريطانية مستقلة منوطة بالتحقيق حول المشاركة البريطانية بالحرب على العراق العام 2003، وكان قد تم الإعلان في لندن يوم 15 حزيران العام 2009 من قبل رئيس الوزراء السابق غولدون براون عن إطلاق التحقيقات الخاصة بالحرب على العراق. وضمّت اللجنة إضافة إلى تشيلكوت، السير لورنس فريدمان، والسير مارتن غيلبرت، والسير روديك لين، والبارونة أوشا بارشر.

ويغطّي التقرير كما أعلن عنه السير جون تشيلكوت رئيس اللجنة، الفترة الواقعة بين صيف العام 2001، وحتى نهاية يوليو (تموز) من العام 2009. وقد تمّ اختيار أعضاء اللجنة من قبل رئيس الوزراء البريطاني السابق، لتضمّ عدداً من الخبراء بينهم كبار موظفي الخدمة المدنية ومؤرخين عسكريين ودبلوماسيين وأعضاء في لجنة حقوق الإنسان. واللافت أنه لم يكن أي محامٍ أو قاضٍ أو رجل قانون بين اللجنة التي تم اختيارها للتحقيق، فضلاً عن تبعية اللجنة لمجلس اللوردات، ناهيك عن محدودية صلاحيتها وعدم قدرتها على الاطلاع على الوثائق والتقارير السرّية، وظلّت جميع جلساتها سرّية باستثناء جلسات الاستماع إلى شهادات بعض الأشخاص مثل رئيس الوزراء الأسبق توني بلير.

وتستهدف اللجنة كشف الملابسات والأسرار التي وقفت وراء اتخاذ القرار البريطاني المشاركة في احتلال العراق، علماً بأن تشكيلها جاء في أعقاب ضغوط واحتجاجات مارسها ذوو الجنود البريطانيين الضحايا الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية التي قام بها التحالف الدولي عند غزو العراق وما بعده، أي منذ الاحتلال وحتى الانسحاب.

استمعت اللجنة إلى 150 شاهداً من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين البريطانيين، وفي مقدمتهم توني بلير وخلفه غولدن براون. وكان من المفترض أن ينشر التقرير في العام 2012، ولكنه تأخّر حتى العام الحالي، وفي العام 2014، طالب ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الحالي، اللجنة بنشر تقريرها قبل نهاية العام لعدم وجود مبرّر لتأخيره، لكنه لم ينشر حتى تم الإعلان عن نشره في ظرف عصيب تعيشه بريطانيا التي انقسمت بين مؤيّدي ومعارضي، الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما ترتّب على نتائج الاستفتاء الذي أجري في 23 حزيران 2016، لصالح الانسحاب.

جدير بالذكر أن التقرير كلّف أكثر من 10 ملايين باوند استرليني (ما يعادل: 13.5 مليون دولار)، وقد أحيل إلى الأمن الوطني لفحصه، خصوصاً ما له علاقة بالمراسلات بين بوش وبلير، لا سيّما ما جاء في تقارير الاستخبارات بين البلدين. وقد أثار ردود فعل متباينة، على الرغم من أن ما ورد فيه لم يكن جديداً بالكامل، وخصوصاً على المتابعين والمهتمين بمسألة غزو العراق، لكن ما جاء فيه وعلى الرغم من لغته الدبلوماسية الناعمة، فإنه يشكّل إدانة كاملة للمسؤولين عن رسم خطط الحرب والمنفذين لها والمشاركين فيها.

وأهم ما جاء في لجنة تشيلكوت، أن العراق (في عهد نظام صدام حسين) لم يشكّل خطراً على بريطانيا ومصالحها، وأن مسألة امتلاكه أسلحة دمار شامل غير صحيحة، ومبنية على معلومات استخبارية مغلوطة، وأن قرار الحرب كان مستعجلاً وأن الخيارات الدبلوماسية مع بغداد كانت متاحة.

وإذا كانت بعض الأدلّة تنشر لأول مرّة، من قبيل فشل الأجهزة الاستخبارية وفشل الحكومة البريطانية، التي كان يديرها توني بلير بطريقة تشير إلى العواقب المحتملة والممكنة للتدخل العسكري في العراق الذي لم يدرس على نحو مناسب على الإطلاق، فإن السلوك الذي اتبعه رئيس الوزراء توني بلير لإمرار وجهة نظره ودفاعه عن عدم الحاجة إلى قرار دولي جديد بخصوص غزو العراق، بزعم أن صدام حسين لا يتعاون مع لجنة التفتيش الدولية، يكشف النوايا المبيّتة مسبقاً منذ العام 2001 على شن الحرب لفرض نظام عالمي جديد حسب زعم بلير وبوش، وهو ما ذهبت إليه كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة خلال الحرب على لبنان في تموز العام 2006 عندما تحدثت عن شرق أوسط جديد بعد الشرق الأوسط الكبير.

وكان أول ردّ فعل من بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق 13 أيار 2003 / 28 حزيران 2004 قوله «ولكن بالرغم من موافقتي على كثير مما كتبه تشيكلوت إلاّ أنني أختلف معه في نقطتين…». الأولى زعمه بخطأ حل الجيش العراقي، وبسبب ذلك حصل التمرّد (المقاومة)، وينتقد تشيلكوت بتأكيده أنه يقلل من وحشية تاريخ الجيش في عهد صدام حسين، ومن الآثار المدمّرة التي كان سيسبّبها استخدامه (لو لم يُحل). والثاني أنه لا يُشارك تشيلكوت حول افتراض أن «استراتيجية الاحتواء» كانت كافية لمواجهة التحديّات التي طرحها عراق صدام حسين، وبناء على هذا الاستنتاج، فإن الحرب غير ضرورية، ويعيد بريمر المزاعم نفسها التي كانت تتكرّر قبل الحرب من احتمال امتلاك الإرهابيين أسلحة الدمار الشامل واستخدامها ضد الولايات المتحدة (لا سيّما ما أثارته أحداث 11 أيلول2001)، وأن العراق دولة راعية للإرهاب، وكانت لديها برامج للأسلحة النووية والبيولوجية والكيمياوية، وأن صدام حسين على الرغم من سياسة الاحتواء وقرارات مجلس الأمن استمر في التملّص من تأثيراتها، وهو الإصرار ذاته الذي ظلّ توني بلير يتبنّاه حتى بعد اعتذاره عن بعض الأخطاء التي ارتكبت بسبب التقارير الاستخبارية، لكنه بكل عنجهية وعدم الشعور بالمسؤولية إزاء الضحايا والكارثة المستمرة، قال: لو أعيد الزمن، فإنني سأكرر نفس التجربة.

التقرير سيوفر الأدلّة الظاهرية التي تسمح لعوائل الجنود البريطانيين بإقامة الدعاوى المدنية، لأن القرار خاطىء ومضلل أساساً، وسيسمح لهم بالتقاضي بعد ذلك من جانب القضاء الدولي وإقامة دعاوى جنائية في حالة توفر أدلّة وقرائن وشهادات عن ارتكابات، الأمر الذي قد يسمح بالبدء بتحقيق جنائي، وكان رئيس حزب العمال جيريمي كوربين، قد اعتذر من الشعب العراقي نيابة عن الحزب، علماً بأنه تعرّض إلى انتقادات شديدة من فريق الصقور المؤيّد للحرب على العراق.

وأشار التقرير إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة لم تكونا تمتلكان رؤية حقيقية لعراق ما بعد صدام، ما فاقم من تكاليف الحرب، وكان بلير قد أكّد لبوش أنه سيكون معه مهما كلّف الأمر، أي أن القرار بالمشاركة بالحرب والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، كان قد اتخذ سواء بوجود مبررات مشروعة أم بعدم وجودها، بما فيها التعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصاً عدم تفويض ما يسمى بالشرعية الدولية لواشنطن ولندن بشن الحرب، بعد القرار رقم 1441 الذي صدر في العام 2002، ولم تنتظر العاصمتان صدور قرار جديد، حيث كان من المتعذر صدوره بدون موقف روسيا والصين وفرنسا، أعضاء مجلس الأمن الدائمين، إضافة إلى ألمانيا ودول أخرى، الأمر الذي دفعهما إلى شنّ الحرب بقرار خاص لما يسمّى بالتحالف الدولي بقيادة واشنطن.

وقد قتل في الحرب وبعد الاحتلال نحو 200 جندي بريطاني، إضافة إلى وجود مئات من المعوّقين والمرضى نفسياً، ناهيك عن أن سمعة بريطانيا نزلت إلى الحضيض، كما أن مزاعم قيام ديمقراطية على أعقاب الدكتاتورية، ما باءت بالفشل فحسب، بل تحوّلت إلى كوابيس عراقية حقيقية، حيث قتل نحو 150 ألف عراقي حتى العام 2009، إضافة إلى نزوح الملايين داخل العراق واللاجئين خارج العراق بسبب الفتنة الطائفية أعوام 2006 2007، وهي الفترة التي يغطيها التقرير، علماً بأن الهجرة والنزوح تضاعفا، خصوصاً بعد هيمنة «داعش» واحتلالها الموصل وأجزاء من العراق، الذي تحوّل إلى دولة رخوة وكيان هش.

تزامن صدور التقرير مع التفجيرات المروّعة التي وقعت في حي الكرادة ببغداد عشية عيد الفطر والتي تعتبر الأشد هولاً منذ الاحتلال إلى اليوم، الأمر الذي يؤكد أن كل ما قيل عن مبرّرات شن الحرب بهدف الإطاحة بالدكتاتورية، وإقامة نظام جديد بدلاً عنها، لم يكن سوى أضاليل لم تصمد أمام الحقائق، فالنظام السابق استبدل بنظام آخر وضع أركانه المحتلّ عبر صيغة مجلس الحكم الانتقالي، حتى وصلت البلاد إلى حافة الهاوية، وتحوّلت الدولة الشديدة الصرامة والمركزية إلى دولة فاشلة ومفكّكة تضرب الفوضى أطنابها، ويسودها الفساد الذي يتغذى على نظام المحاصصة، وهكذا أصبح نظام الغنائم الذي يقوم على الزبائنية الطائفية والإثنية المتقابلة والمتبادلة هو السائد، ولعلّه الأسوء فيما عرفه العراق، الذي أصبح حاضنة للإرهاب، حيث اندلع العنف والتطهير الطائفي والإثني على نحو لا مثيل لهما، وزاد الأمر التدخل الإقليمي وارتفاع نفوذ إيران بعد الانسحاب الأمريكي نهاية العام 2011.

التوقيت الذي صدر فيه التقرير يثير أكثر من علامة استفهام، فبريطانيا لا تزال غارقة في همومها ومشاكلها وخلافاتها، نتيجة الاستفتاء بالخروج من الاتحاد الأوروبي، لا سيّما الصراع داخل حزب المحافظين لانتخاب زعيم جديد بعد استقالة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، إضافة إلى المشاكل والتعارضات داخل حزب العمال، خصوصاً الاتجاه لإطاحة رئيسه جيريمي كوربين. وقد احتوى التقرير على 12 مجلداً، وضمّ مليونين وستمائة ألف كلمة، وتتطلب قراءته أياماً، أما دراسته فتحتاج إلى أسابيع، وكان قد حصل على إذن بنشر وثائق عن مكاتبات واتصالات هاتفية بين بلير وبوش.

لم يوجّه تشيلكوت أي إدانات «قضائية»، وليس من وظيفته ذلك، وسيكون دوره توجيه انتقادات وتشخيص أخطاء وتحديد الدروس التي يراها للإفادة منها في أي قرار قد تتّخذه حكومة مستقبلية للمشاركة في أي حرب، وهي بمثابة إدانة أدبية ومعنوية وأخلاقية. وعلى الرغم من أن التقرير لا يرتّب أي حكم قضائي، إلاّ أنه بالتأكيد يفتح الباب لمن يُحسن استخدامه في المجال القضائي والسياسي، وخصوصاً في بريطانيا سواء من المعارضة السياسية، أو من عوائل الجنود البريطانيين القتلى والمعوّقين وعموم ضحايا الحرب.

أما الضحايا من العراق، فيمكن مطالبة واشنطن ولندن بدفع تعويضات مادية ومعنوية بسبب عدوانهما على العراق، طبقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 الصادر في 22 أيار 2003، الذي اعتبر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دولتي احتلال، وكان عليهما تطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقها لعام 1977، وهو ما أكّده قرار مجلس الأمن رقم (1546) الصادر في 8 حزيران العام 2004، وبهذين القرارين يصبح لزاماً عليهما دفع تعويض للعراق مادياً ومعنوياً، لأن مسوّغاتهما وتبريراتهما للحرب لم تكن قانونية، وهي ليست مشروعة بالطبع، وتتعارض مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، لأنهما شنّا حرباً وعدواناً ضد دولة مستقلة، بما أدى إلى تهديد خطير للسلم والأمن الدوليين، وفتح الباب على مصراعيه لتفشي ظاهرة الإرهاب الدولي.

الأمر يتطلّب أيضاً من القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني والمراكز البحثية والأكاديمية والنقابات والاتحادات وغيرها، التعاون ليس لفضح الرياء والتضليل فحسب، وإدانة المسؤولين عنه والمتسبّبين في الكارثة، بل لتحضير ملفّات وتوكيل محامين والاستعانة بقضاة دوليين سابقين ومن أصحاب الخبرة، للمطالبة بالتعويضات، وكذلك التعاون مع جهات عربية وإقليمية ودولية على هذا الصعيد استناداً إلى تقرير تشيلكوت، فعراق ما بعد الحرب هو أسوء من عراق ما قبله.