IMLebanon

المسيحيون والدروز: الحربُ بين الضحايا!

من المؤكد أنّ هناك أهدافاً سياسية آنية سعى النائب وليد جنبلاط إلى تحقيقها في “استذكار مصالحة الجبل” مع المسيحيين. لكنّ إعطاءَ المناسبة هذه السنة أهمية استثنائية، خلافاً للأعوام الـ14 السابقة، يؤشّر إلى ما هو أبعد من “التكتكة” الجنبلاطية المعتادة.

كان يمكن جنبلاط أن يمرِّر تدشين كنيسة السيّدة في المختارة في إطار ديني – اجتماعي، وليس في ذكرى المصالحة مع المسيحيين. لكنه تقصَّد الطابع السياسي – الوطني، في هذا التوقيت، لضرورات عدة تكتيكية واستراتيجية:

1 – هذه المناسبة هي الأولى من نوعها في المختارة، التي تجمع البطريرك الماروني وقادة المسيحيين أو ممثليهم، منذ أن اتخذ جنبلاط قراره بتسليم تيمور- تدريجاً- زعامة آل جنبلاط. وتالياً، هي مناسبة للتعارف ولتأسيس التعاون ما بين تيمور وقادة المسيحيين، وستكون لها نتائجها المستقبلية سياسياً.

2 – يتقرّب جنبلاط من المسيحيين فيما انطلقت خلوات حوارية تناقش ملفات حسّاسة، ولا سيما منها قانون الانتخاب ومجلس الشيوخ. وكلا الملفين حيويان للدروز وجنبلاط وزعامته.

3 – يُدرك جنبلاط أنّ لبنان واقع في خضم النزاع السنّي – الشيعي، وأنّ المسيحيين والدروز أقليّتان لا تحظيان بدعم المحاور الخارجية. ولذلك، عليهم أن يتوافقوا على رسم مستقبلهم وتقرير مصيرهم لئلّا تجتاحهم تداعيات النزاع المذهبي وتمحو دورهم، بل تمحوهم عن الخريطة.

4 – يعرف جنبلاط أنّ الفراغ الرئاسي والشلل في المؤسّسات هما نتيجة خلل عميق في النظام، وأنّ هناك شيئاً ما جذرياً يجب أن يتغيّر لإعادة تسيير الأمور في شكل طبيعي. ومن الأجدى للمسيحيين والدروز، الشركاء في الجبل، أن يتفاهموا ويتعاونوا ليحفظوا الحدّ الأدنى من الدور، فلا يكونون “فرق عملة” في النزاع المذهبي العنيف.

5 – الأهم، هو أنّ لبنان سيتغيّر كما كلّ كيانات الشرق الأوسط. واستحقاق التغيير وطبيعته يتحدّدان بما يفرضه مسار الحرب في سوريا والعراق. وعند تغيير الدول “إحفظْ رأسَك”. وعلى الفئات اللبنانية جميعاً أن “تَحفظ رأسَها” لأنّ كلاً منها مستهدَفٌ بمصيره بطريقة أو بأخرى.

لكنّ المجموعتين الأقليتين، المسيحيين والدروز، قد تكونان في حاجة إلى تدابير حماية أكبر. وهذا ما يقدّمه نموذج الأقليات الكردية والمسيحية واليزيدية والدرزية وسواها في سوريا والعراق.

في هذا المعنى، يمكن القول إنّ جنبلاط أراد من حدث المختارة أن يحمي نفسه وزعامته وطائفته بالمسيحيين، وهو لطالما اتّبع هذه القاعدة، بالمعنيَين السياسي والأمني. وعلى طاولة المفاوضات بين زعماء الطوائف، وفيما المسيحيون يميلون أكثر فأكثر للكفّ عن أن يكونوا ورقة يستثمرها السنّة أو الشيعة ليستقووا بها في مواجهة بعضهم بعضاً، يميل جنبلاط إلى تقارب أكبر مع المسيحيين.

وسيكون على المسيحيين أن يختاروا: إما أن يستمرّوا في لعبة “التبعية المزدوجة” للسنّة والشيعة، وإما أن يتخلّوا عن هذه التبعية و”يستقلّوا” ويفاوضوا بناءً على ما تقتضيه مصالحهم. وسيكون الدروز في وضعية مماثلة. فهل يبقى جنبلاط متأرجحاً، واضعاً رِجلاً في “الفلاحة” مع الشيعة وأخرى في “البور” مع السنّة لحماية نفسه؟

في العمق، يتشارك المسيحيون والدروز وضعية “توزُّع الأوراق” ما بين الشيعة والسنّة، من أجل الحفاظ على النفس. فالأقليات تعجز عن ضمان نتائج النزاع، وهي تخشى المراهنة على طرف دون آخر، فيما هي تجهل مَن سيكون المنتصر ومَن المهزوم في النزاع المذهبي؟

إذاً، الفكرة التي يشجعها احتفال المختارة هي أنّ المسيحيين والدروز معاً يستطيعون أن يثبتوا حضورهم الفاعل في المفاوضات المتوقعة على مستقبل لبنان، أي “المؤتمر التأسيسي”، أيّاً كان شكله والتسميات التي ستُطلق عليه.

بل إنّ تفاهم المسيحيين والدروز يمكن أن يكون الحلقة التي يفتقدها الشيعة والسنّة في لبنان، أي الرابط المفقود في الكيان اللبناني بين محورَين مذهبيَّين يتنازعان من الشاطئ الشرقي للمتوسّط إلى حدود الهند. فهل يستطيع المسيحيون والدروز أن يصيغوا لأنفسهم هذا الدور الخلاّق؟

حتى اليوم، لم يُثبت المسيحيون والدروز أنهم على قدر الاستحقاق الذي تفرضه عليهم دروس التاريخ. ويقول أحد الذين واكبوا احتفال المختارة: منذ 150 عاماً، يتشاطر المسيحيون والدروز، بعضهم على بعض، ويتبادلون الاتهامات، وينتقم كلٌّ من الآخَر عبثاً، ولا يهتدون إلى التوافق الذي يصونهم ويصون الجبل، قلب لبنان:

– مَن أخطأ قبل 1860، ومَن أخطأ فيها وبَعدها، المسيحيون أم الدروز؟

– مَن مِنهم أخطأ في المرحلة اللاحقة، من 1943 إلى 1975؟

– في العام 1977، انتقم الدروز من المسيحيين لأنّ كمال جنبلاط قد اغتيل… مع أنّ دمشق هي التي اغتالته!

– في العام 1982، ذهب المسيحيون إلى الجبل، مع إسرائيل، فانتقموا، ولكن ممَّن ولماذا؟

– في العام 1983، انتقم الدروز من المسيحيين في الجبل. ولكن ممّن ولماذا؟

– في مرحلة الوصاية السورية، بعد “إتفاق الطائف”، وفي غياب القوى المسيحية، بقيَ جنبلاط يسيطر على الجبل ومسيحييه، وشارك في الانتقام من زعمائهم.

– بعد عودة عون وخروج جعجع من السجن عام 2005، خاف جنبلاط من “تسونامي” عون في الجبل إلى حدّ التلويح بالحرب الأهلية.

– اليوم، يحاول كلّ من الطرفين، المسيحيين والدروز، أن ينقذ رأسه في أيّ تسوية آتية. فهل يأخذ في الاعتبار موقع الطرف الآخر ومصالحه؟

إنّ منطق الانتقامات المتبادَلة، بين طرفين أقليَّين يحاولان الحفاظ على الوجود في زمن التحوّلات الكبرى، ربما يقودهما مجدداً إلى الكوارث.

ولا أحد يعرف مَن المسؤول عن الكارثة الأولى ولا الكوارث التالية المتلاحقة، التي تنقاد إليها الأجيال، ما يجعل المسيحيين والدروز معاً “ضحايا قدَرية”، حيث الانتقام يجرّ الانتقام. ولذلك، أمام المسيحيين والدروز، بعد لقاء المختارة، استحقاق الانتصار على الذات أولاً، وفق قاعدة كمال جنبلاط الشهيرة “الحياة هي انتصار للأقوياء في نفوسهم، لا للضعفاء”. و”في نفوسهم” هنا هي مغزى الانتصار.

يمكن للقاء المختارة أن يفتح مساراً لتسوية تاريخية في الجبل، هي “المصالحة الثانية والثابتة” بين المسيحيين والدروز. فإذا كان آب 2001 شهد إنهاء الحرب بين الجماعتين، فإنّ آب 2016 يجب أن يكرّس السلام الحقيقي. ويمكن لجنبلاط والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي أن يعمّرا المستقبل الآمن الدائم، بناءً على الركيزة التي أرستها مصالحة جنبلاط والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير.

ومناسبة هذا الكلام هي الآتية: “عند النقاش في مصير لبنان، قد يعتقد المسيحيون أنّ الفرصة التاريخية متاحة لهم لتسجيل انتقام سياسي في الجبل. وقد يقع الدروز في اعتقاد مماثل. لكنّ انقيادَ أيٍّ من المجموعتين إلى هذا الوهم سيوقِع في كارثة أو يؤسس لها. وعلى الجميع أن يدرك أنّ الجبل يكون سليماً إذا كانت سليمة إرادات أهله”.

إنّ مسلسل الانتقامات التاريخية، الغامضة وغير المبرّرة، يؤشّر إلى أنّ المسيحيين والدروز هم “ضحايا أغبياء”، لأنهم ضحايا أنفسهم على أيدي أنفسهم. وقد آن الوقت لنهاية المهزلة.

قد يعترض كثيرون على هذا التوصيف، وقد يكون قاسياً على المسيحيين والدروز كمجموعتين، لكنه بالتأكيد عادلٌ جداً لمعظم زعمائهم الوارثين والمورِّثين!