IMLebanon

مسيحيّو الأطراف… «تعلّموا كيف تصمدون في أرضكم»

لم يكن أحدٌ يتوقّع أنّ تُستهدف بلدةُ القاع الحدودية بهذا الكمّ من الإنتحاريّين الذين بلغ عددهم ثمانية دفعة واحدة، أي ما يقارب مجملَ عدد الإنتحاريّين الذين فجّروا أنفسهم في الضاحية الجنوبية على مدى عام، ما دفَع الأهالي الى حَمل السلاح بالتنسيق مع الجيش اللبناني لمواجهة الأحداث الطارئة.

عادت قضية الوجود المسيحي في الأطراف لتُطرح بعد الانفجارات الإنتحارية التي هزًّت القاع، خصوصاً أنّ المسيحيّين يرفضون حَملَ السلاح مجدّداً ويتّكلون على الجيش، مع العلم أنّ للضرورة أحكاماً.

وبعدما كثُر الكلام عن أنّ المسيحي يترك أرضه ويهاجر بسرعة، وجّه القاعيون رسالة قاسية الى الإرهابيّين، أولاً بالتأكيد «أننا باقون في أرضنا مهما اشتدّ إجرامكم»، والى كلّ مَن يفكّر بدخول لبنان ثانياً، أما الرسالة الثالثة والأهم فهي الى مسيحيّي الجبل والمدن بـ«أننا نقاوم ونصمد على رغم صعوبة الحياة».

من العاصمة بيروت الى القاع، تحتاج الطريق نحو 4 ساعات في حال لم تكن هناك زحمةُ سير في ضهر البيدر ومدينة زحلة، وأقرب مستشفى يحتاح الى نصف ساعة تقريباً، فيما تغيب المنتجعاتُ السياحية والوسائلُ الترفيهية أو كلُّ متطلبات «الفخفخة» والراحة التي يتذمّر المسيحيّ من عدم وجودها دائماً ليقول إنه يهاجر لبنان.

في القاع أيضاً، لا مجالَ للسماسرة وتجار الأرض والصفقات الضخمة (باستثناء قضية المشاريع) لتحقيق الأرباح الخيالية، لأنّ مترَ الأرض قد لا يصل إلى بضعة دولارات، ومَن يعيش أو يزور المنطقة يكتشف أنّ مناخها صحراويٌّ جاف حيث تحرق الشمس زنودَ القاعيين ولا ترحم الحجارة، ومع هذا كلّه يصمد المسيحي هناك في آخر نقطة من لبنان، ويعطي دروساً في التمسّك بالأرض، ويحمل سلاحاً متى دعت الحاجة.

يستغني القاعي عن المنتجعات السياحية، وعن البحر وعن الجبال الجميلة في السلسلة الغربية المكسوَّة بالخضار وبرودة الطقس، ويتحصَّن بالسلسلة الشرقية القاحلة، الجافة، الصحراوية. ويستغني أيضاً عن التفاخر بأنه يعيش في العاصمة أو في مناطق الضواحي «الكلاس»، فلا تمرّ عطلة نهاية اسبوع إلّا ويمضيها في بلدته قاطعاً المسافات والخطر بإرادة صلبة وعزيمة، مؤكّداً أنّ الارض له، فهي غالية عليه على رغم رخص ثمنها المادي.

ففي القاع لا يصل مترُ الأرض الى آلاف الدولارات ومع ذلك لا تتلهّى الرابطة المارونية أو المؤسسات المسيحية باسترداد أراضي المسيحين التي بيعت كما حصل في مناطق عدة في جبل لبنان، وأبرزها في عاصمة الموارنة كسروان، وفي مناطق بعبدا والشوف وبقية الأقضية المسيحية الصرف، مع أنّ حاجة القاعيّين لبيع أرضهم أكثر بكثير من مسيحيّي الجبل وبيروت.

أمس انتفض القاعيون دفاعاً عن بلدتهم، حملوا السلاح رجالاً ونساءً، تشبّثوا بالوجود، غير آبهين لشيء، وإذا كانت التفجيراتُ الإرهابية قد أدمَت قلوبَهم، فإنها فتحت أعين المسيحيين على هذه البلدة وجعلت بعضهم يشعر بالخجل لتركه أرضه ووطنه لأسباب غير مبرَّرة.

حالاتُ حَمل السلاح في القاع حصلت بطريقة عفوية بعد الإنفجارات الثمانية، لكنّ الاستفاقة المسيحية وتوجّه القيادات الى البلدة لا يكفي، إذ إنّ الدعم يكون على الصعد كافة مع أنّ الأهالي لا يطالبون بشيء، فالقاعيون أظهروا أنهم أبناء المقاومة، لكنّهم يحتاجون الى أن تعود الدولة أمنياً وخدماتياً الى ربوعهم ليصمدوا ويستمرّوا.

وفي رأس بعلبك

مع تفاقم الوضع في القاع، شعَر شبابُ رأس بعلبك المسيحية بالمسؤولية مثل كلّ أهالي المنطقة على إختلاف إنتماءاتهم المذهبية والسياسية، فقصَد عددٌ منهم البلدة عارضاً المساعدة، وهم تركوا أشغالهم في بيروت وعادوا الى بلدتهم.

فالوضع في رأس بعلبك لا يختلف عن القاع، تلك البلدة المسيحية الصامدة أيضاً على مقربةٍ من «داعش» التي تحتلُّ قسماً من جرودها، وقد تردّد ما حصل في القاع في شوارعها وعلى تلالها، ففي الجرود عزّز فوجُ الحدود البَرّي المنتشر أساساً تدابيره، خصوصاً أنّ أحداث القاع لم تكن عابرة.

وضعت القيادةُ العسكرية في رأس بعلبك والبقاع كلَّ الاحتمالات أمامها، ومنها أن تكون «داعش» والمنظماتُ الإرهابية تُخطّطان لهجومٍ كبير من أجل تحقيق خرقٍ ما في أيّ منطقة حدودية، ونتيجة ترابط مراكز الجيش بعضها ببعض على طول السلسلة الشرقية، فقد كان الاستنفارُ سيّدَ الموقف والجهوزية على أتمّها.

أما داخل البلدة، فقد سيطَر الحذر والترقب مثل كلِّ مناطق البقاع، لأنّ الإنتحاريَّ قنبلة حيّة ومتنقّلة من الصعب رصدها، ولذلك كان شباب رأس بعلبك العين الساهرة ليلاً، أخرجوا سلاحهم من المخازن وانتشروا مستعدّين لأيّ طارئٍ أو مواجهةٍ محتملة. وبما أنّ المسيحيين هناك ليس لهم فصيل مسلَّح، فإنّ الاتكالَ على الجيش والتنسيق معه كانا الأساس في ظلّ إستعداد لتقديم كلّ ما يطلبه من عون.

والجدير ذكره أنّ راعي أبرشية بعلبك للروم الكاثوليك المطران الياس رحال كان الى جانب الأهالي لرفع المعنويات والتأكيد أنهم لن يستطيعوا ترحيلَ المسيحيين من أرضهم، و»تحت كلّ فرشة هناك قطعة سلاح».

أما قرى شرق زحلة المسيحية المحاذية للحدود، فقد عاشت هاجساً أمنياً في السابق نتيجة اقتراب المسلّحين منها. في تلك المنطقة ترتفع الصلبان ويؤكّد الأهالي أنّ شيئاً لن يخيفهم، أما بالنسبة الى التدابير الأمنية فهم قد جرّبوا الأمنَ الذاتي وفشل، وبالتالي تغيّبت عن القرى المظاهر غير الشرعية، فيما ينسّق الأهالي يومياً مع الجيش الذي يسيطر بالنار على كلّ المنطقة، والاتصالات مع قائد الجيش ومسارَعة الجيش الى التدخل عند وقوع أيّ حادث، طمأنهم.

لا يختلفُ إثنان على أنّ الوضع في كلّ البقاع ولبنان متوتّر، لكنّ الخوف أن يلحق بمسيحيّي لبنان ما أصاب مسيحيّي الشرق، مع إستبعاد هذا الإحتمال لأنّهم أظهروا تمسّكاً ومقاومة صلبة، حاملين الصليب ومدافعين عن بلداتهم ووطنهم.