IMLebanon

مسؤولية المدني عن تحركاته

 


ما قام به التجمع المدني الذي رفع شعار «طلعت ريحتكم» لم يكن عفوياً لجهة الدعوة والشعار والتجميع، لكنه كان تخبطاً واستنسابياً وتائهاً لجهة الإمساك بقيادة التحرك والاستحواذ على زمام المبادرة، عندما تطور وجود المحتجين صوب الخروج على سمة الحملة التي قال منظموها أنها تعبير ديموقراطي وسلمي ضمن الأطر التي يرعاها القانون.

قاربت تعبيرات المسؤولين عن الحملة حد العشوائية والتخبط عندما وضعوا في عين كاميرات الإعلام، فبان الكلام عن هشاشة سياسية ومطلبية، وصار الصوت عالياً في وجه الحكومة والمجلس النيابي، وبات الشعار الفوري إسقاط الحكومة وحل المجلس التشريعي، وعندما ارتفعت نبرة الحماسة علت الأصوات بالثورة استجابة للشعب الذي يريد إسقاط النظام.

لازمت قلة الخبرة السياسية وغياب الدراية والتجربة أداء المسؤولين عن التحرك الاحتجاجي، وغلب على التصرفات تطلب اللمسات العنفية، لأن رغبة الإعلام الفاقع راودت القيمين على المسلك العام للمجتمعين، وقد حدس بعضهم أن اللحظة الجاذبة لا تتوافر إلا من خلال مشهد عنفي قمعي، يظهر فيه أبناء النظام حقيقة موقفهم، ويبرز أبناء الثورة الجديدة في طيات المشهد إياه، ملامح ثوريتهم المتقدة. واحد يحضر إعلامياً من موقع الجلاد القديم، وآخر يحتل صورة الضحية الجديدة الوافدة على محمول اجتماعي جديد هو الآخر. ما يحمل على هذا الاعتقاد، أو ما يرجح هذا السلوك الإعلامي والإعلاني، هو خروج التحرك المدني على الصفة التي حددها لذاته، أي الصفة السلمية. في التفاصيل السلمية، يجب القول إن الرسالة «الحضارية» التي أراد أبناؤها إيصالها إلى الجميع قد وصلت، وساعي البريد كان في نقطة الاعتصام الأصوات العالية والخطب الواضحة والقبضات الغاضبة، والناقل كان موجوداً، فوصلت الصور إلى كل الأرجاء من خلال المؤسسات الإعلامية التي تولت الإبهار البصري والسمعي، عليه وإذا كان المقصود بالرسالة المتحركة قد وصل، فما هو مشكل المجتمعين مع الأسلاك الشائكة التي فصلت بينهم وبين القوى الأمنية؟ ولماذا الإصرار على نزعها وعلى تخطيها؟ وماذا كان سيضيف ذلك إلى تطوير التحرك، فيما لو نجح المتظاهرون في اجتياز الأسلاك الشائكة وفي الإفلات من سدّ القوى الأمنية؟ الجواب البديهي لا شيء إضافياً، ولعل إمكانية حصول ذلك لم تراود مخيلة أحد من المنظمين، إذاً لماذا الإصرار على التحرش بالحاجز الأمني الشائك، إن لم يكن المقصود جر الموقف إلى مساحة إعلانية مدهشة؟ الإدهاش هذا ليس جديداً على التحركات المدنية، ما كان منها مطلبياً فقط، وما كان منها سياسياً بوضوح بالغ. لقد جرى التحرش بالأسلاك الشائكة في كل مرّة قصد فيها المحتجون السفارة الأميركية في عوكر، ولم يغب عن بعض من المشاركين في «حملة الغضب» هناك، هاجس أن النجاح لا يكون كاملاً إلا عندما يختتم التحرك بالحجارة وبالقنابل المسيلة للدموع وبرش المياه الملونة والساخنة.

أول ما يمكن تسجيله على منظمي الاحتجاج تحت عنوان «النفايات»، أنهم تصرفوا وكأن الساحة خالية أمام تحركهم، وأن لهم الحرية الكاملة لملئها بالكلمات المناسبة، وبالأفعال العادية وغير المناسبة. هذه مراهقة سياسية لا يغطيها قول القائمين بالتحرك أن لا علاقة لهم بالسياسة، لأن قولاً كهذا هو سذاجة سياسية إضافية. إذاً يفرض التحرك مسؤولية على من يبادر إليه، والمسؤولية الملقاة على عاتق المعنيين تبدأ من كيفية التحرك وتنظيم اجتماعه، إلى كيفية تأمين غايته النهائية وسبل فضّ الاجتماع والتعامل مع كل جديد طارئ، بما يكفل عدم إجهاض الحركة وعدم جلب الإساءات والتشويه إليها، وعدم السماح باستغلالها وصرفها عن مسارها المحدد لها.

ما حصل في ساحة رياض الصلح خالف كل ما ورد أعلاه، فمن جمع الناس ضد الذين «طلعت ريحتهم» عجز عن تفريقهم كما يجب، وكان بعض المسؤولين في موقع التطرف الذي رفض بعض مبادرات التسوية، وعمد إلى رفع سقف المطالب فجرَّ إلى التحرك قوى شارعية أخذت المشهد إلى فوضى عارمة، واختلط فيها أمر السلم بأمر الثورة، وخرج المعنيون السلميون بخسائر صافية كان ممكناً تفاديها.

من الخلاصات السريعة، أن مسائل السياسة في لبنان أعقد من أن توكل إلى العفوية، وأن الحضور الإعلامي مهم لإيصال المطالب، لكنه لا يصنع ثورات، وأن الربيع اللبناني الحقيقي جرت أحداثه في السبعينات من القرن الماضي، فأجهض على رغم اتساع قاعدته الشعبية، وأن النظام الطائفي اللبناني أظهر رسوخاً وعتواً فاق كل أقرانه العرب. هذه عناوين للتذكير، وهي مسائل للتفكير للمقبل من الأيام.

يبقى التنويه بأن مناقشة كل تحرك تنطلق من الاهتمام به، ومن الانحياز له، ومن الحرص على نجاحه، واعتبار قضاياه من المسائل المشتركة التي تخص كل طالب للتغيير. أما مسألة النظام اللبناني فقد قيل فيها الكثير، وما زال المطلوب القول النقدي الجديد فيها، ودائماً على طريق الطموح إلى الخلاص اللبناني من قيود الطائفية السياسية ونظامها البالي.