IMLebanon

الديموقراطية عبر العالم تعيش الإرهاق.. ورصيدنا قليل منها

القليل من الديموقراطية يزداد تقلّصاً في هذا البلد، بفعل تعطل آلية الاحتكام الرئيسية في نظامه الدستوري الى الناس، الانتخابات النيابية، كما بفعل انتفاخة جسم متحكم بأحوال البلد، يستند الى آلة السلاح الخارجة عن أمرة الدولة وكنفها، «حزب الله»، كما بفعل تخلّع تجربة الأحزاب اللبنانية بشكل عام، وظهور خطاب أكثر سوءاً من أسوأ ما حملته هذه التجربة، خطاب تبخيسي لأهمية الأحزاب في الديموقراطيات الحديثة.

هذا القليل من الديموقراطية عندنا، الكثير المشاكل والعثرات، الهش والمتآكل والمتداعي، يبقى مع ذلك الزاوية التي ننظر من خلالها الى «العالم وانتخاباته واستفتاءاته». زاوية النظر هذه مختلفة عن الموقع الذي ينظر من خلاله الناس في بلدان معدومة الديموقراطية، او في بلدان متطورة قدماً في مساراتها المؤسسية والديموقراطية. انها زاوية لا يمكن ان نعطيها حقها اذا نحن استرسلنا في موال «اين نحن من الديموقراطيات القائمة بالفعل»، او اذا اعتبرنا ان الأَولى هو الانكباب على المحلي والداخلي حصراً، من دون مشاهدة احوال العالم، ومسارات الديموقراطية والتجارب الانتخابية فيها.

يعيش لبنان أزمة تآكل القليل من الديموقراطية، المعوجة أساساً والهشة، فيه، لكن الديموقراطيات في البلدان الرأسمالية المتطورة تعيش هي أيضاً أزمة في ديموقراطيتها مختلفة عن التحديات التي واجهتها الديموقراطية الغربية في القرن الأخير.

ما يواجه الديموقراطيات الغربية اليوم ليس خطراً توتاليتارياً. ليست تيارات معادية للديموقراطية التمثيلية او ساعية لتفجيرها من الداخل او تقويضها. ليس هناك أجندات خفية تريد فعل ذلك عند الشعبويين في هذه الديموقراطيات.

ما يواجهها هو اندماج مشكلتين. مشكلة التمثيل السياسي من ناحية، ومشكلة القرار السياسي من ناحية. مشكلة مزدوجة: كيف توسع مقدار المشاركة الى اوسع حد من دون ان تحول المشاركة الى نادٍ تلفزيوني للثرثرة، ونادي مواقع تواصل اجتماعي للثرثرة، ونادٍ برلماني او حكومي للثرثرة.

هل يعوق توسيع المشاركة بلورة سلطة تقريرية، يمكن ان تأخذ على عاتقها مسؤوليات، وان تنال فترة سماح لمعرفة ما اذا كانت قراراتها مناسبة او لا، حتى لو ظهرت هذه القرارات غير شعبية في البداية، او ان المشكلة هي العكس تماماً: بمعنى ان الطابع الفوقي لعمليات صنع القرار هو الذي يؤدي الى التردد في اتخاذ القرارات، وإيثار المسؤولين تأجيل اتخاذها او اتخاذها مبتورة.

هذه المشكلة المزدوجة (المشاركة والقرار) تطرح نفسها في سياقات مختلفة في معظم الاستحقاقات الانتخابية التي تجري في عالمنا. والطروح لمعالجة هذه المشكلة تجيء مختلفة: بين من يدعو لاعادة الاعتبار لسلطة القرار، من خلال منح المقرر هالة المفوض من الشعب، وعلى حساب منطق «الفصل بين السلطات»، وبين من يبحث في المقابل عن حل المشكلة بتوسيع مساحة المشاركة وتوسيع مساحة المقررين في نفس الوقت، الامر الذي يطرح هو الآخر معنى «الفصل بين السلطات» اليوم.

من هنا، لا يبدو الاختلاف بين ازمة تآكل القليل من الديموقراطية الذي عندنا، وبين ازمة ارهاق الديموقراطية في بلدان الغرب، اختلافاً مطلقاً، بل هو اختلاف في اطار مشتركات كونية تعني الجميع.

في لبنان ايضاً، المسألة مزدوجة: كيفية اعطاء معنى واسع ومتوازن للمشاركة السياسية وكيفية اعطاء معنى عملي لفكرة اتخاذ القرار.

الديموقراطية الغربية تعبت لانها تعبت من اتخاذ القرارات. كما لو ان المؤسسات والمداولات والرأي والرأي الآخر يمكنها ان تعوض عن الاحجام عن اتخاذ القرارات. كما انها تعبت لانها وهي توسع المشاركة سأمت قطاعات واسعة من «تكرار المشهد»، ومن تداول السلطة بين من اعتبرتهم هذه القطاعات شخصيات متشابهة، تقول ما لا تفعل، وتحاول ان تفعل من دون ان «تقرر».

في الشعبويات الراهنة الكثير من الجنون او العنصرية او الشطط. لكن فيها حيوية ايضاً. فيها اشارة الى هذه المشكلة المزدوجة بشكل اعمق مما يشير اليه «أهل المؤسسات الحاكمة». تختلف الشعبوية من بلد غربي الى آخر، لكن ما يجمعها هو طبيعة عصرنا: عصر يبدو فيه العالم مفككاً، عائلياً واجتماعياً ووطنياً واقليمياً، وقريباً بين بعضه البعض، بأشكال فورية وافتراضية ما كانت تخطر على بال. ما يجمعها هو «الاشتياق» لفكرة الحدود، لفكرة «الفرز»، في عصر صار فيه الفرز مستحيلاً.