IMLebanon

المنتفضون يتحدّون العاصفة والساحة تختــصر مشهد الوطن

يُواصل الشارع اللبناني انتفاضته على الواقع المزري الذي وصلت إليه البلاد، على رغم كلّ العوائق السياسيّة والأمنية والمناخيّة التي عرقلت المشاركة الشاملة. وبعد إثبات اللبنانيّين رغبتهم في التغيير، يبقى الأساس النظر في قيادة هذا الحراك وتوحيد المطالب وعدم الدخول في مغامرة إسقاط النظام، لأنّ الثورة تأكل أبناءها.

لم تَمنع الظروف المناخية الصعبة والإستثنائيّة التي تعصف بلبنان، آلاف اللبنانيين من المشاركة في التظاهرة التي دعا إليها الحراك المدني في ساحة الشهداء، إحتجاجاً على الحوار الذي انطلق ظهراً، ورفضاً للفساد الذي ينخُر مؤسسات الدولة، وللمطالبة بحلّ أزمة النفايات.

سؤال واحد طرَحه المواطنون الذين وضعوا الكمّامات على وجوههم: «ممّ نخاف؟ ولماذا لا نشارك بكثافة؟ فهل العاصفة الرملية تخيفنا أو تضرّ بصحتنا أكثر من النفايات المتراكمة على الطرق وبين الأحياء؟».

إختصرت ساحة الشهداء المشهد اللبناني بتناقضاته كافة، حتّى وقف بعض المتظاهرين وجهاً لوجه يردّدون الشعارات المعادية بعضهم بعضاً. إنّه لبنان الصغير في الساحة الكبيرة التي كانت خطوط تماس أيام الحرب الاهلية، وتحوّلت رمزاً للحرية والتحرّر عام 2005.

يحمل عجوزان يافطة كتب عليها «نرفض قانون الإيجارات الجائر الذي يهجّر أكثر من نصف مليون لبناني من بيروت والضواحي»، وتصرخ إحدى المستأجرات بأعلى صوتها على مكبّر للصوت: «لن تُخرجونا من المنازل وترمونا في الشارع الممتلئ بالنفايات».

على بعد متر ليس أكثر، يقِف المالكون معلنين رفضهم القوانين اللبنانية «الداعشيّة» التي حرَمتهم الإستفادة من إيجارات منازلهم، في وقت يصرخ أحد المتظاهرين: «توحّدوا ضدّ الطبقة الحاكمة، ولا تتقاتلوا في الساحة، جميعكم مظلومون».

تعدّدت المطالب وتنوّعت، من سلسلة رتب ورواتب، الى تصحيح الأجور، ودفع أموال البلديات، فمحاربة الفساد وتأمين المياه والكهرباء وإيجاد فرَص عمل، لكنّ المطلب الرئيس كان إقرار قانون انتخاب عادل على أساس النسبي، وإجراء انتخابات مبكرة لانتخاب رئيس للجمهورية يمثّل إرادة الشعب المنتفِض والثائر ضدّ فساد الطبقة الحاكمة.

تماوَجت الأعلام اللبنانية واليافطات والشعارات على وقع أغنيات الثورة، خصوصاً «قوم تحدّى الظلم تمرَّد كَسِّر هالصمت اللي فيك»، و»بالشوارع صَوت الشعب الطالع»، وكان لافتاً غياب الأغنيات اليسارية، بلّ إن إحدى الأغنيات الجديدة التي صدرت تماشِياً مع الحراك شَتمت اليمين واليسار معاً في دلالة الى أنّ التظاهرات تحاول الخروج من الصبغة التي أُلبِست لها، فهناك جزء كبير من اللبنانيين يَنفر من الحركات اليسارية التي سقطت في بلاد المَنشأ، فكيف الحال بالنسبة الى لبنان؟

الثورة المطلبية محقّة، والجيش الذي انتشر على جسر الرينغ ومداخل الأشرفية، للتدخّل تحسّباً لأيّ طارئ، أكّد مراراً وتكراراً أنه سيحمي المؤسسات والمتظاهرين ومطالب الناس.

لذلك، إلتزم المتظاهرون السلميّة، في وقت تعاطَت القوى الامنية بسلاسة مع الحشود، وأزالت العوائق الحديدية أثناء التظاهرة، وفتحت طريق وسط بيروت، لكنّ الشريط الشائك بقيَ لوقت وسط الطريق، فحاول أحد الشبّان سَحبه، في مشهد يدلّ على أنّ البعض يرى الحائط أمامه فيصطدم به محاولاً افتعال إشكالات.

كانت الحشود تتدفّق تلقائياً وبشكل غير منظّم، حيث بلغ التجمّع الذروة قرابة السادسة والنصف مساء، وغابَ الخطاب السياسيّ الموحّد، لكنّ الجميع هتف: «ثورة، ثورة»، على رغم عدم وضوح الرؤية ومعرفة المدى الذي ستبلغه هذه الثورة، بسبب عدم قدرة قيادتها على إقناع الناس بالبديل، وطرحها مطالب خياليّة، تضرب الملفات الحياتية وتزيد أزمة الناس أزمات.

هواء بيروت المحمّل بالرمال، لفَح المتظاهرين الذين صبّوا غضبهم على الحكومة ومجلس النوّاب. وحده تمثال الشهداء الذي تكوّنت عليه طبقات الرمل شَاهد المشهد من الأعالي، وتمنى ألّا يزاحمه لبنانيون جدد على وَقفته في هذه الساحة، لأنّ سقوط آلاف الشهداء لم يوصلنا الى بناء الدولة العادلة، بل ذهبنا الى حكم المزرعة المتمترسة خلف النفايات.

توزّعت الكلمات على الشباب، ومناطق البقاع والجنوب، الى كلمة طرابلس التي دعت الطرابلسيّين الى وضع أيديهم بأيدي بعض ضد نواب المدنية لأنهم لا يمثلوننا. وطالبت كلمة النبطية المسؤولين بـ«الرحيل»، أمّا كلمة إقليم الخروب فغمزت من قناة النائب وليد جنبلاط، حيث أكد مازن المعوش أنه «يتحدث باسم أهالي بلدته برجا، وأنهم يقفون ضد الفساد، وأنّ النساء مريضات بالسرطان بسبب مطمر النفايات ومن دخان شركة سبلين»، وأعلن أنّ «برجا ستثور، ولم تعد تقبل أن تكون تحت أمرة شخص إقطاعي».

وبَدا الهجوم مركّزاً على جنبلاط، وألقت كلمة الجبل ميرا أبو فخر الدين، متوعّدة بـ»عدم السكوت». ودعت أهالي الجبل الى «كسر حاجز الخوف وأن يتحركوا». وتوجّهت خنساء الزين الى نواب عكار بالقول: «إنّ عكار ليست مزبلة، ونحن المحرومون ولستم أنتم، وأنتم لا تمثلوننا».

وألقى الممثلان ريتا حايك وبديع أبو شقرا كلمة لجنة الدعم الفني، فوجّها التحية الى الحضور قائلَين: «ضَلّو حلوين».

ثم توقف المشاركون عن إلقاء الكلمات احتراماً لرفع أذان المغرب، ليدقّ بعدها المتظاهرون المسامير في نَعشٍ رمزيّ، سَمّوه «نعش النظام الطائفي»، ثم توجهوا الى أمام مقر وزارة البيئة للتضامن مع الشبّان المُضربين عن الطعام منذ 8 ايام، بعدما أنشدوا النشيد الوطني اللبناني. وتحدث باسم المُضربين عن الطعام وارف سليمان، فأكّد «الاستمرار في الاضراب عن الطعام حتى تحقيق المطالب، وهي استقالة وزير البيئة».

إنتهت التظاهرات سلمياً، وبدأ التحضير للغد وما بعده. لكن على رغم الحراك والتظاهرات وجلسات الحوار ومجلس الوزراء، هناك حقيقة راسخة أنّ النفايات ما زالت مكدّسة ولبنان بلا رئيس للجمهورية ومؤسّساته مشلولة، فمتى تندلع الثورة الحقيقية؟