IMLebanon

نضوب سياسي شامل .. فهل من مخرج؟

كثيراً ما يجري التداول ثقافياً بفكرة «موت السياسة». يتفاوت – بطبيعة الحال – نمط توظيف هذه الفكرة. تعود السياسة فتحضر، بشكل أو بآخر من خلال هذا التوظيف الذي يخبر عن موتها.

لبنان الذي بلا رئيس جمهورية من سنتين ونصف السنة، وبلا سلطة تشريعية طالما أن المجلس بعصيانه واجبه الدستوري الذي يقتضي منه انتخاب رئيس والحؤول دون فراغ السدّة ممنوع عليه التشريع، وبلا عجلة تنفيذية تعمل بالحد الأدنى الطبيعي، وبلا انتخابات تشريعية منذ سبع سنوات، وبلا حدّ أدنى من الطرح المتتابع في السياسة منذ تهلهل الانقسام الآذاري، وبلا اهتمام إقليمي ودولي به، حتى ولو كانت المجزرة اليومية في سوريا، بالقرب منه، وقسم من اللبنانيين يقاتل هناك، ولا يأبه بأي معيار أو موقف غير ذلك، هذا اللبنان المنكمش انتاجياً وإبداعياً أيضاً، والذي لا يكاد يخرج من أزمة النفايات حتى يعود اليها، هو حالة تجذب أكثر فأكثر عنوان «موت السياسة». 

انكماشة الحراك السيادي بوجه هيمنة السلاح الفئوي منذ أكثر من خمس سنوات، انسداد الأفق أمام الحراك المطلبي والاجتماعي منذ سنتين أو ثلاثة، تعثر الحراك المدني البيئي في العام الماضي، كل هذا يعني بشكل أو بآخر تعطّل يتعدى فراغ مؤسسة وشلل أخرى الى إصابة المولد الحيوي للمعاني والإشكاليات والتحديات ذات الطابع السياسي في البلد. 

وما ذُكر من حراكات لم يتصل بشكل وثيق ببعضه البعض، فاعتبر الحراك السيادي نفسه بمنأى عن القضية الاجتماعية، ويميني بالضرورة في الاقتصاد، واعتبر الحراك النقابي الاجتماعي نفسه بمنأى عن الحراك السيادي، يخاف كثير من أقطابه تضييع هويتهم كيسار، وحُمِل الحراك المدني البيئي إما على مغادرة السياسة من باب الانصراف للجزئيات، وإما لمغادرتها، من باب التبرؤ مما سمي «الطبقة السياسية» مأخوذة جملة، وغير واضح ما الذي يجمعها وما الذي يفرّقها عن معنى الطبقة الاجتماعية.

انتظارات كثيرة جذرت هذا الشعور بنضوب بمعنى السياسة، فبعد أن تحقق انتظار مزمن عام ألفين وخمسة، بجلاء الجيش السوري عن لبنان، لم يتحقق أي انتظار آخر، من أي نوع، من أي موقع، لا في لبنان ولا في سوريا. وكله صار قيد التأجيل والإرجاء كما لو أن الأيام المقبلة غير مضمونة الإقبال هي أيضاً. الانتظارات المتعلقة باستكمال عملية استعادة السيادة اللبنانية، انتظارية الحرب المفتوحة التي وعد بها «حزب الله»، انتظارية الحسم لصالح الثورة أو الحسم لصالح النظام في سوريا. وكأننا في عالم اتصالات سريعة، وانتظارات شقية دائمة. 

لكن لا شيء من كل ما يحصل أمامنا من وقائع معلقة، مؤجلة، يشبه انتظارية انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، أو بالنسبة لأي من المرشحين المطروحين للتداول واللذين جمعهما لأحد عشر عاماً تكتل نيابي واحد، انتظار وصوله هو. والمسيحيون تحديداً، الذين يفترض أن يعنيهم هذا الاستحقاق، ويستنفرهم أكثر عدم حصوله كل هذه المدة، لم يطلقوا حراكاً تصاعدياً باتجاهه، لا على صعيد مؤسساتهم أو تياراتهم أو قواعدهم أو نخبهم. هناك ميل للتصرف كما لو كانت الرئاسة مقيدة في الأمانات، وهذا الارتياح لما يفترض أنه أمر مقلق، جدير بأن يضاعف القلق.

لكن، بعد كل شيء السياسة لا تموت. تنضب بطاريتها، ثم يُعاد شحنها. هناك مواد حيوية مناسبة للشحن، كمطالبة الناس بحقوقهم، ومطالبتهم النواب بتحمل واجباتهم، وهناك أشكال خطيرة لشحن السياسة، كشحنها بالخوف أو التخويف من حدث أمني، أو شحنها بالحدث الأمني نفسه، أو شحنها بمسلسل الفضح والفضح المتبادل والردح، وهذا أسوأ أشكال عيش السياسة.

إفراغ السياسة من «الطرح» قد يريح هذا اللاعب السياسي أو ذاك مدة من الوقت، لكنه حين يمتد في الزمن فهو يؤذي الكل في الصورة بلا استثناء، وهذا ما هو حاصل اليوم. طبعاً، البلد يعاني من مشكلة كـ»حزب الله» لا تُقارن بأي مشكلة أخرى، لكن هذه الحقيقة الأساسية تحولت في كثير من الأحيان الى حقيقة «عزائية» أو «تبريرية»، من دون أن يلغي ذلك أنها حقيقية. 

لا سوء كسوء إفراغ السياسة من الطرح، حتى الوثائق السياسية التي كان يُخاض حولها نقاش ثقافي وسياسي في آن في السنوات الماضية، كم صارت نادرة الآن. وماذا حل بدل «الطرح السياسي»؟ الهزل في غير مطرحه، ومن دون شروطه. التكبر والصلف. ومعهما التوهم بأن كل هذا يمكنه أن يدوم ويدوم، وبأن ثمة «يداً خفية» تقي البلد سوء العاقبة. لكن تراكم الفراغ والتعطيل والاستهتار بالطرح في السياسة ليس إلا يداً خفية لسوء العاقبة. 

يرتاح هذا النضوب السياسي على وضعه، لكنه يكابر على ما يتجه اليه – نتجه – من سوء العاقبة، وخصوصاً بعد أن تمادت سوية كل هذه الانتظارات، وخسرت الواحدة بعد أخرى كل مظاهر الحراك.