IMLebanon

البعد «الطائفي» في السياسة الإيرانية

< أشارت معلومات صحافية استناداً إلى مراسلات بين السفارتين الأميركية والبريطانية في العراق، إلى خطة إيرانية لتقسيم العراق وسورية بهدف استمرار هيمنتها، وتضمنت المعلومات المتداولة أن إيران تؤيد الفيديرالية، وطالبت بإدخال تعديلات دستورية «تثبت» مبدأ الفيديرالية القائمة على الطائفية وليس على أساس الإقليم، كما هو معمول به في العالم، ويتصل بهذه «التسريبات» الصحافية أن إيران وضعت خطة لما بعد تحرير الموصل من التنظيم الإرهابي «داعش»، بحيث تخطط لدخول الحشد الشعبي سورية، ويتولى إدارة الأمور على امتداد الحدود بين البلدين، ويظهر اسم مستشار الأمن الوطني العراقي فالح فياض في هذا السياق، وهو المعروف بأنه يحمل ملف «المشروع الإيراني».

والحقيقة أن «البعد الطائفي» في السياسة الإيرانية بات جلياً مهما حاول المجادلون إخفاء ملامحه أو تبريره، وغالباً ما تستند مجادلاتهم على أن إيران رفعت – منذ بداية ثورتها 1979- شعار مواجهة «قوى الاستكبار»، وإزالة الحواجز بين الشعوب المسلمة، وإحياء العوامل المشتركة، وتجاوز الخلافات من أجل «نهضة تجمع ولا تفرق». وهذا صحيح، ونزيد عليه أن هذه الشعارات «البراقة» تفاعلت معها الملايين من المحبطين في العالم الإسلامي، المتطلعين إلى «مشروع» يستنهض الهمم، ويستثمر طاقات الدول والمجتمعات، ويعظم مفهوم التعاون بينها بعد نكسات المشاريع «القومية» وتناقص طاقاتها ودافعيتها القادرة على تفعيل الحراك المطلوب. وكانت الشعارات الإيرانية جاذبة للكثيرين، خصوصاً من شعوب الدول البعيدة عنها، جغرافياً وثقافياً وطائفياً، على رغم تحذيرات باكرة صدرت عن سياسيين ومفكرين قريبين مما يجري في «المطبخ السياسي» الإيراني، والأهداف الحقيقية المتخفية وراء شعارات «المشتركات» المرفوع من طهران وقادتها الجدد، وقد تمكنت إيران، طوال سنوات الثمانينات والتسعينات وبدرجات متفاوتة، من أن تتوغل في مناطق لم تعرف أطروحتها من قبل، كالقارة الأفريقية وبعض المناطق الآسيوية، وتمددت شبكاتها في الخريطة مستغلة أحداثاً سياسية وتغيرات أمنية وانتفاضات شعبية، لتشكل من أتباعها ووكلائها بؤراً مقلقة لاستقرار جيرانها.

ومن الموضوعية أن يعترف المراقب بأن إيران حققت نجاحاً ملحوظاً في سياستها بأسلوب «مزدوج»، يقوم على واقعية سياسية مع الدول الكبرى، وتحرك «عقائدي» في علاقاتها مع الشعوب والمجموعات المستهدفة، وقد مكّنها هذا المنهج «الثنائي» من مقاومة الضغوط الإقليمية والدولية، والاستمرار في تمددها في المناطق الجديدة. وعلى رغم الحرص الشديد والخطاب الدعائي، الذي يعمل على توصيف السياسة بأنها تتحرك في إطار العلاقات الدولية والمصالح، إلا أنها لم تستطع إخفاء «البعد الطائفي»، الذي يسعى لتجييش الموالين وإثارة مشاعرهم وزيادة حساسيتهم تجاه سياسات أوطانهم، ولا يخفى على المتابع وجود خطابين متمايزين في السياسة الإيرانية: خطاب تتحرك تحت مظلته السياسة الخارجية، يتسلح بأقوال وتصريحات وبعض مواقف الخميني المعتدلة ومن يجاريه من القادة الدينيين الموصوفين بالاعتدال، وهو خطاب يوظف فاعلية وتأثير شعار «وحدة الأمة» الذي – على رغم النكسات والعثرات – لم يفقد تأثيره لدى الكثيرين من الشعوب المسلمة. وخطاب داخلي «يكرّس» الطائفية في الدستور والقوانين والحياة الثقافية والإعلامية والدينية، حتى لتبدو إيران دولة شيعية صافية تخلو من طوائف المسلمين الأخرى، وهو الأمر المنافي للواقع، إذ تشكل الطوائف والأعراق الأخرى نسبة لا تتفق مع حضورهم الدستوري والإعلامي والثقافي.

ومع تطور الأحداث لم تعد إيران قادرة على إخفاء وجهها الطائفي، خصوصاً بعد «سقوط بغداد»، إذ انكشفت السياسة الإيرانية وأصبحت في مواجهة الواقع، فإذا ارتباطاتها مع الجماعات المسلمة تقوم على «مبدأ طائفي» في العراق وسورية ولبنان واليمن وحتى في نيجيريا، حيث الحضور الإيراني الملحوظ في القارة الأفريقية. هذا الواقع لم تستطع أن تخفيه محاولات بناء علاقات مع الفصائل الفلسطينية المقاومة للهيمنة الصهيونية، فقد فضحت الثورة السورية حقيقة تلك العلاقة بعد أن تعارضت مع المشروع الإيراني الطائفي، الذي يعد هدفاً استراتيجياً في المنطقة العربية. والمتأمل في السياسة الإيرانية الخارجية لا يكاد يجد أثراً للعامل الديني في علاقاتها مع الدول الكبرى، إلا بالقدر الذي «توظفه» في الشعارات الدعائية، فهي تعقد الصفقات مع «الشيطان الأكبر»، وتدخل في تحالفات مع «عاصمة الإلحاد»، وتنشط في علاقات وتبادلات المنافع مع المجموعة الأوروبية، وتتجه شرقاً لتطوير علاقات مصالح متنامية مع الصين، حتى أصبحت بكين من المدافعين عن بشار في مجلس الأمن.

هذه السياسة «الواقعية» في العلاقات الدولية، ترافقها سياسة عقائدية طائفية في اتجاه الأحزاب والميليشيا في المنطقة العربية، واستطاعت التركيبة السياسية في طهران أن تشكل «فرقاً» تتوزع الأدوار، ففي الوقت الذي تتحرك السياسة الخارجية في إطار الأعراف والعلاقات الدولية، تنشط خلايا الحرس الثوري والمؤسسات التابعة للمراجع العليا في سياسة طائفية، تعمل على توسيع دائرة الأتباع والوكلاء، وتحركها في سورية يكشف هذه «الازدواجية» بوضوح، فهي تتعامل مع المجتمع الدولي، وتنسّق مع الدول الكبرى في المجالات السياسية، وينشط حرسها الثوري في تجنيد وجلب المقاتلين من الطوائف الموالية في باكستان وأفغانستان وغيرهما للدفاع عن نظام بشار. ولم يعد خافياً على أحد أن هذه السياسة أدخلت المنطقة في «انحيازات طائفية» تهدد النسيج الاجتماعي، وتخلق واقعاً خطيراً على الحاضر والمستقبل.

وفي السنوات الأخيرة، زادت «شهية» الطائفيين بعد الانهيارات التي حدثت في العراق وسورية، وما صاحبها من تبدل لموازين القوى في لبنان، وصعود الحوثيين إلى الواجهة في الخريطة السياسية اليمنية، وأدى هذا «الاندفاع» والرغبة في حرق المراحل إلى تصاعد منسوب الخطاب الطائفي، بهدف رفع معنويات الوكلاء المحليين، وتشويه صورة القوى العربية المناهضة للتوسع الإيراني في المنطقة، حتى إن وزير خارجيتها «تورط» في الدعوة إلى التخلص من السعودية في مقالة مشهورة في صحيفة «نيويورك تايمز» في أيلول (سبتمبر) 2016.

إذاً، «المجادلة» لنفي البعد الطائفي في السياسة الإيرانية لم يعد مقبولاً ولا مقنعاً ولا مجدياً، في زيادة مساحة فهم ما يجري في منطقتنا.. والسؤال: هل تدرك إيران أنها لن تستطيع «ابتلاع» الرافضين لهيمنتها، وأن هذا الإدراك هو الخطوة الأولى في اتجاه إيقاف حال الاضطراب السائدة والمدمرة؟