IMLebanon

المطرانية: ليست القوات أهون الشرَّين

في القرون الوسطى، انتشرت في أوروبا ظاهرة صكوك الغفران، بحيث أمكن من يشاء الحصول على صك من الكاهن بغفران كل خطاياه مقابل مبلغ من المال. وبدأ سباق الأغنياء لحجز مقاعد أمامية لآخرتهم في الجنة. كانت هذه الظاهرة جزءاً من الأسباب التي ولّدت انتفاضة مارتن لوثر وانبثاق الكنيسة البروتستانتية من الكنيسة الكاثوليكية.

مطران زحلة للكاثوليك عصام درويش أقدم، بعد أكثر من خمسة قرون، على خطوة شبيهة بخطوات أسلافه حين قرر تشييد بضعة قبور فخمة في حديقة ملاصقة للمطرانية ومنحها للأثرياء، حتى يشعر من يحصل عليها بالاطمئنان الأبديّ. إلا أن أعضاء المجلس البلدي المحسوبين على الكتلة الشعبية عارضوا تحويل الحديقة ــــ التي تملكها البلدية لا المطرانية ــــ إلى مقبرة. عبثاً حاول المطران إكمال العمل بمشروعه بعد تدخل شرطة المجلس البلديّ والقوى الأمنية، فتراجع في النهاية بانتظار انتخاب مجلس بلدي جديد يسمح له باستئناف العمل، خصوصاً أن مهندس المشروع مرشح هذه المرة.

والمطران، بصرف النظر عن قصة المقابر، لاعب مؤثر في انتخابات زحلة البلدية. إلا أن تأثيره أقل من تأثير أسلافه لأسباب تتعلق بشخصه وبعلاقة القوى السياسية في المدينة به. فحال مطرانية زحلة للكاثوليك عادة من حال مطرانية بيروت للأرثوذكس: كلمتها لا تصبح اثنتين، وفي يدها كل المفاتيح الاستشفائية والتربوية الخاصة بالطائفة. إلا أن المطران درويش لم ينجح في الحفاظ على وزنات النفوذ التي توارثها المطارنة المتعاقبون وضاعفوا أعدادها. أولى الحملات عليه اتخذت منحىً عنصرياً ــــ سياسياً حين جن فرقاء 14 آذار من تعيين مطران سوريّ الجنسية (لا يخفي أبداً حبه لرئيس بلده ولا يخجل من زيارة سفيره)، وبدأوا التحريض عليه واستثارة الغرائز. وكانت الحملة تتجدد، بوقاحة أكبر، كلما رسم شماساً جديداً في المطرانية أو عين ناطوراً. وبلغ أنصار القوات في حملتهم على المطران حد وصف المطرانية بـ “مفرزة الاستخبارات”. وبعد استنفاد التحريض العنصري والسياسي بدأت القوى نفسها حملة تشهير شعبية بالمطران مبنية على مجموعة أكاذيب تتعلق بمهمته السابقة في أوستراليا.

خلاف المطران مع سكاف لن يدفعه إلى خطأ استراتيجي يسمح للقوات بالسيطرة على زحلة

لاحقاً، دخلت القوات المعركة علناً، تحت عنوان فضح الفساد في ما يخص مستشفى تل شيحا. ولم يكن ينقص المطران وسط هذا كله سوى موقف ملتبس من معمل آل فتوش، في عزّ التحريض داخل المدينة وخارجها على المعمل، وهروع المطران من مكتبه إلى باحة المطرانية لصفع سائق الوزير الراحل الياس سكاف بعد خلاف السائق مع أحد موظفي المطرانية على أحقية الوقوف. واكتمل نصاب الخلاف بين المطران ومكونات المدينة بالأزمة المفتوحة بينه وبين السيدة ميريام سكاف التي فوجئت به يعدّد الصعوبات التي تحول دون تكريس كاثوليكيتها بعد وفاة زوجها، فما كان منها إلا أن اتجهت فور خروجها مباشرة إلى مطرانية بيروت لتنهي الإجراءات الدينية خلال بضع دقائق فقط. هذا كله أضعف المطرانية وحدّ من تأثيرها الانتخابي. لكن دور المطران ونفوذه لم يتراجعا بالكامل. وفي ظل افتقاد لائحة القوات اللبنانية للغطاء الكاثوليكي الضروري في مدينة مثل زحلة، يبدو أن المطران هو حبل الإنقاذ الوحيد على هذا الصعيد. ويلعب بعض حلفاء القوات ــ يتقدمهم التيار الوطني الحر ــــ دوراً رئيسياً على هذا الصعيد، معولين على علاقة المطران الوطيدة بالعماد ميشال عون. ويكاد أحد وزراء عون السابقين ينقل مكان إقامته إلى المطرانية، مبشراً بالتفاهم مع القوات ومنتقداً البيوتات السياسية التي يتقدمها آل سكاف في المدينة. لكن المطران لا يجد، كما هو واضح من أدائه، أن خلافه التكتيكي مع سكاف على تفاصيل صغيرة يمكن أن يدفعه إلى خطأ استراتيجي يسمح للقوات بالسيطرة أكثر فأكثر في عاصمة البقاع. وفي هذا السياق يمكن القول إن لدى مطران زحلة الكاثوليكي ما يكفي من الوعي السياسي لأهمية موقعه وموقع زحلة، وعدم القول بأي شكل إن الاقتراع للائحة القوات إنما هو أهون الشرين. ولذلك تواصل المطرانية ــــ رغم كل الضغوط ــــ رفع راية الوقوف على الحياد في هذا الاستحقاق.