IMLebanon

المسيحية المشرقية مهددة وجودياً وكيانياً

ألا يستحقّ خطف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم ثورة أرثوذكسيّة بل ثورة مسيحيّة صارخة؟ سؤال طرحه مرجع أرثوذكسيّ كبير بألم كبير. ويجيء سؤاله تعبيراً حقيقيّاً عمّا يعتمر القلوب والعقول من أسئلة وقلق ومخاوف بعد مضيّ أربع سنوات على خطفهما وعدم معرفة مصيرهما. ليس الخطف مصدر القلق، القلق ناتج من صمت يشبه إلى حدّ كبير صمت القبور المكتنف لمصير مجهول، فليس من معلومات تدلّ حول ما إذا كانا قد توفيا أو لا يزالان على قيد الحياة. وعدم وجود معلومة أخطر من وجودها في الحالتين، والسبب أنّ ثمّة ترتيبات إدارية ورعائيّة، تعود لأبرشية حلب الأرثوذكسيّة أو السريانيّة، والأعمال في الأبرشيتين جامدة بسبب عدم وجود المطران على رأسها ووجود وكيل عنه، وبحال اتضحت الوفاة يصار إلى دعوة المجمع المقدّس لانتخاب مطران خلف له.

حتمًا لا تنحصر المسألة في هذا الحجم، فالهدف ليس البحث عن أسقف يرعى حلب المحرّرة، فيما مطراناها لم يحررا. يتجلّى الهدف وبحسب هذا المرجع بمعرفة مصير المسيحيّة المشرقيّة برمتها، فالاختطاف ليس لشخصيّ المطرانين بل هو لمسيحيّة تشاركت والإسلام في بناء هذه الحضارة وهذا العالم، وبشهادة كثيرين فإنّ العالم العربيّ يفقد توازنه حين يخلو من الوجود المسيحيّ.

هذا المرجع استذكر حراك البطريرك يوحنّا العاشر وهو شقيق المطران بولس، لقد زار بلدانًا عديدة كموسكو وسواها من دون معرفة أجوبة واضحة، المسألة غائبة كليّة عن ضمير العرب كلّ العرب، ويقول ثمّة استلذاذ بتجهيل المصير ليغدو المسيحيون ورقة ابتزاز. المشكلة بأنّنا نعيش في عالم يعرف ويدرك بأنّ المسيحيين مهدّدون وجوديّاً وكيانيّاً في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر… الهجمات تشنّ عليهم بنسب مرتفعة، ولا أحد يقف ويصرخ ويواجه. حتى أنّ المسيحيين بصورة عامة بدأوا يشعرون بالإحباط الكبير وليس عندهم من حراك موضوعيّ استراتيجيّ وجماعيّ يقودهم بالدرجة الأولى إلى المسلمين، يتحاورون معهم لتأليف جبهة وطنيّة وعربيّة واحدة غايتها معرفة مصير المطرانين وتحريرهما بحال بقيا على قيد الحياة، وللأسف لم نعد نسمع أصواتاً إسلاميّة متصاعدة ليس في الإدانة بل في التواصل والضغط بغية كشف الحقيقة ومعرفة واقعهما.

وبحسب المرجع ليس المسألة مسيحيّة وأرثوذكسيّة وسريانيّة. إنها تندرج في المدى الميثاقيّ اللبنانيّ من حيث التعبير المشترك، وفي المدى العربيّ بخلق جبهة ضاغطة. ويذكر، بأنّه حين تمّ اختطاف الإمام موسى الصدر ورفيقيه، هبّ المسيحيون كما هبّ الشيعة والمسلمون، وقد ألفت جبهة وطنية كانت تجتمع لبحث مصيره مع رفاقه، لتتوقف أعمالها بعد حين، ومن المعروف بأنّ الإمام المغيّب له مساهمات فعّالة في المسيحيّة المشرقيّة برؤى مشتركة جمعته إلى المطران جورج خضر والمطران غريغوار حداد والأب يواكيم مبارك والمطران يوسف خوري… ولا يزال كثيرون يذوقون الأدبيات الصادرة عن المطران جورج خضر في استذكاره للإمام المغيّب. ليس اختطاف المطرانين مختلفاً بالشكل عن اختطاف الإمام ورفيقيه فالاختطاف تمّ خلال بداية الحرب السوريّة كما اختطاف الإمام تمّ مع بداية الحرب اللبنانيّة، الفرق بين الحادثين في المعنى والمدلول بأنّ المطرانين يمثلاّن بيئة تستبدّ بها مشاعر القلق والخوف حول المصير والبقاء من سوريا إلى العراق. وبرأي هذا المرجع لا يعاني الشيعة بصورة عامّة هذا القلق فقد تحوّلوا مع الزمن إلى قوّة فاعلة وهائلة على المستوى الإقليميّ بفضل سلاح حزب الله، في حين أن المسيحيين عزّل هجّروا من العراق وما عنى تهجيرهم شيئًا للضمير العالميّ الذي ظلّ صامتًا على تلك المأساة، تمّ التعدّي على أديرتهم وكنائسهم في سوريا وذبح الناس هناك وما عنى هذا الأمر شيئًا للضمير العالميّ، ويأتي خطف بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم ولم يتحرّك العالم.

يشير هذا المرجع بأنّ هذه القضيّة لم تعد مقلقة بل تثير الغضب والسخط، فهي مادّة للابتزاز والمقايضة، وتختلط المعلومات بصورة جليّة بحيث ثمّة من يعلن بأنهما على قيد الحياة، وآخرون يأتون ويقولون بأن واحداً منهم بقي على قيد الحياة. لكنّ الحقيقة التي ينبغي التدقيق بها هي أنهما لو بقيا على قيد الحياة لكانا ظهرا وتمّت الدعوة إلى المفاوضات والاتجاه نحو المقايضات. حتّى الآن لا أحد يملك معلومة دقيقة بالمعنى الرسميّ، المعلومة الثابتة هي أنّ المطرانين قتلا في اللحظات الأولى من مجموعة شيشانيّة خطفتهما وبتسهيل من الأتراك وبقيا فترة طويلة ضمن الأراضي السوريّة وتحديداً بالقرب من باب الهوى، وخطفا بخلفيّة الضغط على الحكومة الروسيّة من أجل إطلاق أحد المجرمين الشيانيين من موسكو، ولما رفضت موسكو ذلك تمّ الاغتيال. هذا الموضوع برأي هذا المرجع وإن برأيه احتاج لتدقيق ولكنّه واقع قائم بذاته.

يقول هذا المرجع الأرثوذكسيّ، بأنّه جرت محاولات عديدة، لتأمين الغطاء لحراك كبير، يتخطّى مفهوم إنارة الشموع والصلاة، بل حراك يساهم في الضغط الميدانيّ كما الضغط السياسيّ والأمنيّ بهدف معرفة مصيرهما والوصول إلى التفاوض وتأمين عملية الإطلاق السريع، وفي المقابل ظهر أحدهم يبشر بالعكس تماماً، ويلوّح امام البطريرك بضرورة اعتماد الدبلوماسيّة الناعمة في المعالجة حتى لا يتم الانتقام من المطرانين ولا من الأرثوذكس في المناطق المختلطة. وقد اتضح فيما بعد بأنّ مفهوم الدبلوماسيّة الناعمة قد تمّ تحويره بعد تجويفه من أي معنى خاص به لكونه قد غدا أسلوباً تضليليّاً مخالفاً لأبسط قواعد الحقّ الإنسانيّ في المطالبة بالإفراج عن مخطوف له.

إلى أين من هنا؟

يشير المرجع بأنّ المسيحية على المستوى البنيويّ في مأزق الوجود، فلا الكنائس متلمّسة بالعمق لهذه المسألة، وثمّة كنائس تصوّب سهامها على كنائس أخرى، في مناطق وادي النصارى في سوريا، وقد تمّ هذا البفعل من خلال بناء كنيسة إنجيليّة في بلدة مرمريتا في وادي النصارى ومحاولة وضع حجر أساس لكنيسة لاتينيّة ومعروف بأنّ أهل الوادي مسيحيون وينتمون إلى المذهب الأرثوذكسيّ وبعضهم روم كاثوليك. ليس من تلمّس حقيقيّ لما يعنيه خطف المطرانين أو لما يعنيه تهجير المسيحيين من الموصل وما إليها. التلمّس يكون بأن يقف المسيحيون وقفة واحدة وجذوريّة تعني تراثهم تجيء من مشرقيتهم وإحساسهم بأنّهم هم أهل الأرض.

المطلوب وبحسب هذا المرجع بأن يهبّ بالدرجة الأولى البطريرك الأرثوذكسيّ يوحنا العاشر وهو في فترة نقاهة كما هو بطريرك عظيم، بصوت عال وصارخ، ويضع النقاط على الحروف بشأن مسألة الاختطاف، هناك موقف يجب أن يؤخذ ويتجسّد من خلال تأليف وفد موحّد من بطاركة المشرق يذهبون معاً إلى موسكو والفاتيكان وواشنطن والأمم المتحدة، يهبون ضمن وفد واحد ويهزّون العروش بصرخة واحدة تعنى بإطلاق المطرانين وبالكفّ عن كيد المؤامرات في سبيل إفراغ المشرق من مسيحييه، وهذا هو الخطر الكبير، إفراغ المشرق من مسيحييه خطر كبير على الأمن العالميّ برمّته، إذ بانسلاخهم تهتز المعادلات.

إن لم يقف البطاركة وقفة واحدة ويهبوا معاً فباطلاً نحاول، المسألة ليست عند السياسيين، لم يعد في مصر وسوريا والأردن والعراق من نخب مسيحيّة فاعلة ومؤثّرة. ويعتقد هذا المرجع بأنّ رئيس جمهوريّة لبنان العماد ميشال عون هو القادر على فتح هذا الملفّ على مصراعيه وإلى جانبه أصحاب الغبطة، فالرئيس يتكلم لا كرئيس للجمهورية بل كزعيم مسيحيّ لمسيحيي المشرق العربيّ.

الرجاء مع اقتراب الأسبوع العظيم والفصح المقدّس أن يبصر مسيحيو هذه الديار نور القيامة حين يبشرون بأنّ المطرانين على قيد الحياة. هذا أمل، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.