IMLebanon

عين الحلوة: ما الحلّ؟

يتفلّت الوضع الأمني في مخيّم عين الحلوة من عقال توازنات ضبطه، وذلك تحت مرأى فصائله الوطنية أو الإسلامية المتّصفة بأنها معتدلة وأيضاً تحت مرأى الأجهزة الأمنية اللبنانية القلقة.

السؤال الراهن يتعلّق بماهيّة المعادلات التي تغيّرت داخل مخيم عين الحلوة والتي تُبرّر القلق من تزايد إمكانات انفجاره:

أولى هذه المعادلات تتَّصل ببدء انفراط عقد معادلة كانت أرسَتها الاجهزة الامنية منذ سنوات، ومفادها هندسة توازنات بين القوى في داخله تحول دون تمكّن فريق بعينه من السيطرة بمفرده على المخيم. هذا الوضع كان قاد الى نشوء توازن رعب بين الفصائل الاسلامية والوطنية في المخيم، اعتُبر كافياً لاستمرار استقراره النسبي بإشراف غير مباشر من الدولة عبر أجهزتها الامنية.

وتجدر الإشارة هنا الى أنّ «عصبة الانصار» كانت تشكل بيضة قبان معادلة «توازن الرعب»، بوصفها القوة المنظمة التي يُعتبر انحيازها إلى أحد طرفَي الصراع داخل المخيم، بمثابة الشرط الضروري لتحقيق غلبة أيّ منهما على الآخر. وطوال السنوات الماضية امتهنت العصبة لعبة «بيضة القبان» وأجرت تعديلات على خطابها الديني المتشدّد ليتلاءم مع دورها الجديد هذا.

وكانت العصبة خلال ظهورها الأول في المخيم، تعتبر جماعة سلفية جهادية متشددة، وأرسلت مقاتلين إلى العراق لقتال الاميركيين ونفّذت عمليّات ارهابية داخل المخيم وفي جواره اللبناني (مهاجمة محال بيع الخمور واغتيال مسؤول «الاحباش» وقتل قضاة لبنانيين).

ولكن في إطار نسختها الجديدة، أجرت تعديلات على خطابها العقائدي، أقلّه الخاص بمقاربتها لدورها داخل المخيم وموقفها من الوضع اللبناني. وبموجبه أصبح دور العصبة داخل المخيم اشبه بـ»مخفر» لضبط المجموعات المتطرّفة الخمس؛ وهو دور أفادت منه الاجهزة الامنية اللبنانية.

صحيح أنّ العصبة لها دالة على هذه المجموعات المتطرفة، كونها تؤمّن الحماية غير المباشرة لهم في وجه «فتح»، ولكنّ الصحيح أيضاً أنها باتت تشكل عنواناً تلجأ اليه الدولة لضبطها وإبقاء منسوب تصرفاتها تحت السيطرة.

ثمّة تعديلات أخرى مهمة أدخلتها العصبة على خطابها العقائدي، أبرزها تخلّيها عن سلوك تكفير بقية فصائل المخيم، وبدلاً من ذلك اندمجت في السعي معها لإرساء استقرار فيه. كما أنها لم تعد تعتبر وجود قوات «اليونيفيل» في لبنان بمثابة هدف احتلالي أجنبي يجب استهدافه كما حال موقفها من وجود الجيش الاميركي في العراق. وبحسب فتواها المعدَّلة فإنّ أيّ حضور أجنبي توافق عليه حكومة البلد الذي تستضيفه، هو حضور لا يستتبع إعلان الجهاد في وجهه، وحال «اليونيفيل» في لبنان مشمولة باستثناءات هذه الفتوى.

السؤال اليوم: هل لا تزال العصبة صالحة لأن تلعب دور بيضة قبان استقرار المخيم، وبالتالي هل لا تزال كلّ نظرية توازن الرعب صالحة لمنع الاقتتال داخله؟!

ثمّة تغيّرات استجدت في مخيم عين الحلوة لم يعد إنكارها يجدي لاستبعاد خطرها. أهمّها اشتداد عضد المجموعات التكفيرية الخمس داخله على نحو غير قليل. ويمكن لحظ هذا الامر من خلال:

أ – قبل فترة غير طويلة كانت هذه المجموعات غير موحّدة على رغم أنّها كانت تشكل بيئات متقاربة. أما اليوم فأصبحت كلّها تنضوي ضمن جماعة تنظيميّة واحدة تسمى «الشباب المسلم» التي يقودها الشيخ اسامة الشهابي المصنّف على أنّه له صلات بتنظيم «القاعدة». ويقدر عدد مقاتليها بخمسمئة عنصر بينهم نسبة ضئيلة من النازحين الفلسطينيين من سوريا.

ب- كان انتشار هذه المجوعات سابقاً محصوراً في حيّ الطوارئ – التعمير الكائن في جزء قصيّ من المخيم، وعليه كان تأثيرها في مجمل المناخ الامني للمخيم جزئياً، بحيث يمكن ضبطه عبر فرض حصار أمني من الفصائل الفلسطينية على هذا الحيّ. اليوم، باتت جماعة «الشباب المسلم» منتشرة في عمق المخيم وداخل أحياء رئيسة عدة، وأصبحت جزءاً أساسياً من مناخ معادلته الامنية.

وتفسّر مصادر أمنية هذا الانتشار بالقول إنّه في الاساس كان هناك حضور لجماعة «الشباب المسلم» في احياء المخيم، لكنه كان غير معلن وضئيلاً. وما استجد هو أنّه أصبح معلناً وذلك لأنّ أعدادهم ازدادت وبسبب انتشار مناخ «النصرة» و»داعش» إلى حدٍّ ما داخل عين الحلوة.

لا يزال هناك حتى اللحظة بقايا دالة لـ»عصبة الانصار» على جماعة «الشباب المسلم»، ولكن ليس مضموناً أنها كافية لردعها، او أنها ستستمرّ لفترة طويلة. وهذا الاستنتاج أكّده الاشتباك الاخير الذي حصل قبل نحو اسبوعين بين حركة «فتح» و«الشباب المسلم»، حيث أبرز أنّ المخيم دخل واقعاً عسكرياً جديداً سِمته الاساسية أنّ التكفيريين باتوا قوة اساسية فيه، إضافة إلى إبرازه أنّ المخيم بات مربعات أمنية يتوزع السيطرة عليها التكفيريون و»فتح»، ويوجد بينها خطوط تماس قابلة للاشتعال في أيّ لحظة. وكان لافتاً أنّ «الشباب المسلم» أدار اشتباكه الاخير من معقله المستجد في حيّ الطوارئ، فيما فتح واجهته انطلاقاً من حيّ البركسات، ما جعل الاشتباك يتحوّل قتالاً بين الأحياء الفلسطينية.

مناطق تماس

لعلّ هذا التطوّر هو أكثر ما توقف عنده مراقبون للوضع الفلسطيني. واعتبر احدهم وفق ما كشفه لـ»الجمهورية» أنّ المخيم بعد تعاظم انتشار «الشباب المسلم» داخله، اصبح عبارة عن مربعات بينها خطوط تماس، وهي تتشكل وفق الخريطة العسكرية الآتية:

– مربع حيّ حطين ويضمّ الأصوليين (الشباب المسلم).

– مربع حيّ الطوارئ والتعمير ويضمّ أيضاً «الشباب المسلم» و»عصبة الانصار».

– مربع حيّ البركسات ويضمّ «الامن الوطني – فتح» المنقاد من قائد الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان اللواء صبحي أبو عرب.

– مربع حيّ الصفوري ويضمّ عناصر «اللينو» الفتحاوية شبه المنشقة عن «فتح – رام الله».

– مربع حيّ المنشية حيث جامع النور ويضمّ خصوصاً الحركة الاسلامية المجاهدة (سلفية) المنقادة من أميرها الشيخ جمال خطاب.

– مربع حيّ الصفصاف ويُعتبر المعقل الاهم لـ«الشباب المسلم».

وتظهر الخريطة الآنفة للتوزيع العسكري المستجدّ داخل أحياء المخيم مدى الانتشار الذي أنجزته المجموعة التكفيرية في داخله. يُضاف الى ذلك أنه في حين تعاني حركة «فتح» من تشققات بداخلها، وفي حين تبدّد وجود الفصائل الفلسطينية الوطنية التاريخية فيه بالكامل تقريباً (الجبهة الشعبية والقيادة العامة والجبهة الديموقراطية)، فإنّ «الشباب المسلم» يمتازون بتماسكهم التنظيمي ولديهم عقائدياً تحالفات أوسع من «فتح»، مثل الحركة الاسلامية المجاهدة و»عصبة الانصار».

وأبرز ملاحظة في هذا المجال، أنه مع تعاظم قوّة «الشباب المسلم» عدداً وانتشاراً وتصاعد قوة المناخ السلفي الجهادي الواصل إلى المخيم من كلّ أرجاء المنطقة، فإنّه بات هناك شك في أن تستطيع «العصبة» في اللحظة الصعبة أن تنصِّب نفسها قوة مشاركة للفصائل الاخرى في قمع جماعة «الشباب المسلم» فيما لو قرّرت الاخيرة اكتساح مناطق جديدة في المخيم. وأسباب ذلك كثيرة، أهمّها أنّ العصبة لا يمكنها إقناع جزء كبير من قاعدتها بخوض حرب إلغاء ضدّ جهة سلفية تتقاسم معها في العمق المبادئ نفسها.

ما الحل؟!

الواقع أنّ الوضع الجديد في المخيم لا يُظهر فقط انهيار معادلة توازن الرعب بين تيارَيْه الاسلامي والوطني، وذلك لمصلحة اشتداد عضد الجماعات التكفيرية، ولا يظهر فقط بروز تآكل لمهمة «عصبة الانصار» كبيضة قبان قابلة للاستمرار طويلاً، بل يظهر أيضاً وفي الاساس انعدام جدوى الاعتماد على «القوة الفلسطينية المشتركة» (صيغة اعتمدتها المحادثات بين الدولة اللبنانية وفصائل عين الحلوة)، لتلعب دور ضبط الامن عندما يتحدّى التكفيريون الاستقرار في المخيم ويخرجون على ضوابط عدم نقل نماذج الارهاب التكفيري في المنطقة الى داخله.

فالاختبار الأخير لعمل القوة المشترَكة خلال الاشتباك الاخير بين «فتح» و»الشباب المسلم»، أظهر أنها اكثر من فاشلة، حيث ساد انقسام عناصرها، بين مؤيدين لـ»فتح» ومؤيدين للجماعات التكفيرية.

مرة اخرى ما الحل؟!

داخل كواليس سياسية وليس عسكرية، وفي كلّ مرة كان يسود فيها قلق على مستقبل أمن المخيم واتصالاً على امن جواره اللبناني، كانت تُطرح أفكار توصف بأنّها جذرية لمعالجة هذه الازمة التي قد تُهدّد في حال انفجارها مجمل الامن اللبناني وليس فقط امن مخيمات اللجوء الفلسطيني. ومن بين هذه الأفكار العودة الى مشروع انشاء «لواء فلسطيني» يخضع لإمرة الجيش اللبناني، وذلك على غرار «جيش التحرير الفلسطيني» الذي كان موجوداً في غير دولة عربية.

وتقول مصادر مواكبة إنّ هذا الاقتراح سبق وتمّ طرحه خلال عام 1982؛ وذلك عندما كان ياسر عرفات يهم بمغادرة لبنان، حيث وافق آنذاك على عرض قدمه إليه فيليب حبيب المبعوث الاميركي لهندسة إنهاء الحرب الاسرائيلية على لبنان، ومفاده تشكيل لواء فلسطيني يتألف من 2000 عنصر يخضع لقيادة الجيش اللبناني، وقد ووجه هذا الاقتراح حينها برفض إسرائيلي، ما قاد الى تعطيله.

بعض الجهات السياسية اللبنانية التي تظهر قلقاً دائماً من احتمال انهيار أمن عين الحلوة، كانت تداولت امكان اعادة احياء مثل هذا المشروع مع اضافة تعديلات عليه تناسب الامن اللبناني وتغيّر الظروف. وتتعلق الفكرة بإنشاء لواء فلسطيني يخضع لإمرة اليرزة وهكذا حال مخازن تسليحه، وأن تكون إمرة وحداته أيضاً معقودة لناصية ضباط لبنانيّين، ويباشر انتشاره بداية في عين الحلوة ومن ثم يعمّم على كل المخيمات.

ويقول مسؤول مخابرات الجيش اللبناني السابق في الجنوب العميد علي شحرور إنّ تجربته مع أمن مخيم عين الحلوة تجعله يعتقد بأنّ هذا الحلّ قد يكون الأفضل في ظلّ تردي اوضاع المخيم وتعاظم الشقاق السياسي بين فصائله المعتدلة، وأيضاً بروز مناخات متطرّفة جديدة فيه تحملها اليه أوضاع المنطقة. ولكنّ هذا الحل لا يزال يصطدم بوجود خشية لبنانية من أن يُفضي هذا الخيار الى إنشاء قوة عسكرية فلسطينية جديدة في لبنان، بدلاً من أن يفضي الى تقنين الانتشار العسكري في المخيمات.