IMLebanon

أردوغان وخياراته «الدونكيشوتية»

أظهر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان شخصية مثيرة للجدل منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة التركية في 28 آب 2014. فهو أوّل رئيس تركي يختاره الشعب بطريقة الاقتراع المباشر من جهة، وأوّل من جمع في يده السلطة على رغم نزاعه مع الجيش من جهة ثانية. هذا ما أعطاه القدرة على اتّخاذ مجموعة من القرارات، أحدثت تحوّلاً داخلياً وخارجياً في مسار تركيا الحديث.

سعى الرئيس أردوغان إلى إعادة الدور التركي إلى الساحة الإقليمية بعد ان فشل في اللعب دولياً. هذا ما دفعه إلى اعتماد سلسلة من الخيارات شبيهة بحركات دونكيشوتية، وضعت بلاده أمام مصير مجهول وسط منطقة تبحر في صراعات دولية على أرضها.

إنّ فشل تركيا في الدخول في الإتحاد الأوروبي، وتنامي الدور الفعّال لإيران في المنطقة، وغياب الدور المصري، واشتعال المنطقة في حروب قاتلة، إضافة إلى ظهور روسيا كلاعب عالمي، كلّها عوامل شكّلت الدافع الأساسي عند أردوغان للمضي في خياراته.

حيث عمد أولاً إلى قلب النظام الأتاتوركي -العلماني واستبداله بنظام إسلامي الطابع يحمل راية الدفاع عن حقوق المسلمين في العالم، حسبما جاء في تصريحه في افتتاح مسجد في ولاية كاريلاند الأميركية عام 2016.

وسط تخبّطات تركيا الداخلية والخارجية، برزت خيارات الدونكيشوتية التي سار بها اردوغان:

– الإنغماس التركي في الحرب السورية، مع دخول أرتال من دباباتها وناقلات الجند إلى الأراضي السورية ضمن عملية «درع الفرات» لدعم مقاتلي المعارضة السورية في 24 آب 2016. هدف من خلالها إلى تحقيق انتصارات يتّخذها لاحقاً ورقة للتفاوض عليها. لكنها على ما يبدو في الواقع ليست سوى انتصارات وهمية ينزلق بها جيشه في نيران الحرب الدائرة في المنطقة.

– دخوله أراض عراقية لإبعاد الأكراد وداعش عن حدوده، بحسب ما ذكرت صحيفة «كوميرسانت» في عام 2015 عن غزو القوات التركية للأراضي العراقية، حيث وصلت إلى مقربة من مدينة الموصل. لكن سرعان ما وضع بلاده أمام سلسلة من التفجيرات الارهابية كنتيجة لأعماله هذه.

– إسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24 في عام 2015. حادثة وجّه من خلالها اردوغان رسالة تهديد للتدخّل الروسي في المنطقة. لكنّه علم مدى دونكيشوتيّة تصرّفه هذا بعدما أدرك أنّ السياسة الأميركية تعتمد المهادنة والحوار مع القيادة الروسية. لذا، سارع بعدها لمصالحة روسيا ومن ثمّ الاعتذار منها، وصولاً إلى التنسيق التام معها.

يبدو أنّ الحلم التركي – الأردوغاني بإعادة نفوذ الإمبراطورية العثمانية بات من المستحيل تحقيقه. وإنّ التاريخ لن يعود يوماً إلى الوراء، لأنّ بدايات الغزو العثماني لسوريا والمنطقة بقيادة «سليم الأول»، ترافقت مع ظروف هيّأت له تحقيق الانتصارات.

فسلطنة المماليك كانت مرتبكة وغير مؤهلة للحرب، والصفويون كانوا مهزومين، فكان الانتصار للعثمانيين سهلاً في معركة «مرج دابق»، ليتحوّل بعدها الشرق الأوسط تماماً تحت السيطرة العثمانية.

بينما الظروف السياسية اليوم ليست إلى جانب قرارات الرئيس اردوغان التي باتت أشبه بمغامرات دونكيشوتية لن توصل إلاّ إلى انحسار الدور التركي في المنطقة.

فمشروعه يحيط به عقبات أبرزها:

– عدم التماسك الداخلي للشعب التركي، إذ يواجه اردوغان وحزبه «التنمية والعدالة» عقائد مترسّخة في عقول ضباط الجيش وقياداته، منها الأفكار الأتاتوركية. وأفكار الداعية الاسلامية فتح الله غولن الذي اتّهمه اردوغان بتحضيره لعملية الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز 2016. إضافة إلى العدائية الكبيرة مع حزب العمال الكردستاني الذي يتنازع معه.

– الدور الروسي العسكري في سوريا الذي يسعى لتثبيت نفوذه في المنطقة، ما يعني التأثير المباشر على المدّ التركي وضرب نفوذه.

– النفوذ الإيراني المتجذّر في المنطقة، والذي يسعى لقيام الهلال الشيعي من خلال دعمه للنظام السوري والأحزاب الشيعية الأخرى.

– الدولة الإسلامية التي تعمل على بناء خلافتها، والتي بدأت عملياتها تطال العمق التركي.

– الدور الأميركي الذي يعمل في الشرق لكسب أصواته في الداخل الأميركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، من دون أن يراعي مصالح شركائه في المنطقة.

صحيح أنّ الأحداث وسرعة تطورها في المنطقة لم تكن يوماً لصالح النفوذ التركي، ولكنّنا لا نستطيع أن ننكر مدى الهالة التي رسمها اردوغان لبلاده. فتركية تلعب دوراً في رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وهي مفتاح لجميع الحلول في المنطقة. هذا ما عبّر عنه الرئيس أوباما في القمة العشرين التي انعقدت في الصين مؤخراً، من خلال إصراره على التنسيق الأمني مع تركيا.

يبقى أن نستنتج، أنّ قرارات الرئيس أردوغان ستكون قاتلة لمصير تركيا ومستقبلها في المنطقة، في حال لم يعمل على ضبط الساحة الداخلية وحلّ قضية الأكراد والأقليات على أرضه.