IMLebanon

قصّة الفدرالية والخطوط الحُمر الجديدة

خلال زيارة الرئيس السابق ميشال سليمان إلى الإليزيه خلال عهده الرئاسي، قبل نحو عامين، سَمع من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وفقَ ما سرَّبه آنذاك أحد المقرّبين من قصر بعبدا، كلاماً واضحاً بأنّ لبنان ذاهبٌ إلى نظام فدرالي، والأفضل أن يذهب اللبنانيون إليه على نحو سَلِس وهادئ، بدلاً مِن بلوغه بعد دفعِ كلفةٍ كبيرة.

تسَرَّبت هذه المحادثة حينها إلى مسامع الرئيس نبيه برّي، وخلال لقاء لاحق جمعَه بسليمان سأله عن صحّتها، وقال برّي آنذاك إنّ الأخير نفى له أن يكون الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد قالها له.

والواقع أنّه خلال تلك الفترة ما بين نهايات العام 2013 وبدايات 2014، كانت جعبة الكواليس السياسية اللبنانية مليئة بشائعات تتحدّث عن وجود تفكير غربي بإنشاء فيدراليات من العراق مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان.

آنذاك تحَدّثت معلومات عن أنّ أميركا جَسّت عبر قناة خاصة نبضَ إمكانية قبول الرئيس بشّار الأسد بحلّ للأزمة السورية على أساس كونفدرالي. تلك الواقعة كشفَتها حينها شخصية يُكلّفها الأسد عادةً مهمّات سياسية خارجية. وردَّ الأسد بأنّه يَقبل التفاوض على فيدرالية في سوريا وليس كونفدرالية، شرط أن تتشكّل المناطق الفيدرالية على أساس جهويّ وجغرافي وتنموي وأن تكون مختلطة ديموغرافياً، وليس على أساس ديني وقومي ومذهبي.

واعتبَر المصدر حينَها أنّ الأسد يقبل في سوريا بنظام شبيه بما هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية، مذَكّراً بالصراع بين تيّاري الفيدراليين والكونفدرالين في أميركا عشية انتهاء الحرب الأهلية فيها، وكيف انتهى لمصلحة التيار الأوّل.

ورأى أنّه ضمن أجواء هذه المقاربة وإسقاطها على الصراع الراهن لإنتاج سوريا الجديدة، يصبح الأسد موجوداً في الموقع عينه الذي دافعَ منه الفيدراليون الأميركيون عشية إنشاء الدولة الاميركية، عن وحدةِ بلدهم في وجه الكونفدراليين.

والواقع أنّ تلك المرحلة اتّسَمت، حسبَ مرجع سياسي لبناني، برَواج «إشاعات كثيرة» في لبنان عن أنّ الدوليين قرّروا أخذَ كلّ دوَل المشرق – وضمنها لبنان – لتقسيمات فيدرالية وكونفدرالية في نهاية المطاف؛ علماً أنّ طفرةَ الإشاعات هذه نتجَت آنذاك عن سوء فهم لمقاصد حوارات جرت بين مسؤولين لبنانيين وغربيين.

وزير لبناني سابق مطِلّ على التفكير الغربي، روى حينَها لمرجع سياسي لبناني كبير، حقيقة الخلفيات التي جعلت الكواليس السياسية اللبنانية تعتقد بأنّ الدوليين يريدون فيدرالية في لبنان. وقال له إنّ السفراء الأميركيين والأوروبيين في بيروت لفَتهم آنذاك (عام 2014) انتشارٌ مُلفِت لشعارات على جدران أحياء مسيحية في العاصمة وغيرها من المدن، تطالب بالفيدرالية.

حاوَلوا معرفة خلفيات هذه الشعارات ومدى اتّساع مروحة القوى المسيحية التي ترفَعها، لذلك عَمدوا خلال لقاءاتهم بسياسيين لبنانيين، وخصوصاً المسيحيين منهم، إلى توجيه أسئلة لهم عن رأيهم بالفيدرالية، وما إذا كان هذا خيارهم الخَفي كبديل للطائف أو كمُتمّم له.

وفسَّر السياسيون اللبنانيون هذه الاستفسارات، بأنّها تُعبّر عن اهتمام غربي مستجدّ بإنشاء فيدرالية في لبنان على نحو يُحاكي ما يحضَّر للعراق وسوريا.

ونقلَ الوزير عينُه حينها عن محافل غربية قناعتَها بأنّه عَملياً لا يمكن تطبيق الفيدرالية السياسية في لبنان؛ ذلك أنّ تجسيدَها يحتاج أن تسبقَه عمليات «فرز قسري وترانسفير» سكّاني، الأمر الذي لا يتمّ إلّا بعد حرب دموية، عِلماً أنّ القرار الدولي بحماية استقرار الحدّ الأدنى في لبنان وتحييده عن حريق المنطقة، هو أكثر من جدّي.

الفدرالية مجدّداً

وأخيراً، وعلى خلفية «تسَرّع» رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون في الكلام عن الفيدرالية كحَلّ قد يذهب إليه مسيحيّو لبنان فيما لو استمرّ إهمال «حقوق المسيحيين»!، أعيدَ إنتاج النقاش عن الفيدرالية في لبنان ولكنْ من زاوية تكرار تأكيد عدمِ صلاحيتها خياراً لحماية المسيحيين، أو لتجاوُز أزمةِ شَلل الدولة المتفاقم حاليّاً.

وركّزت خلاصات هذا النقاش على إظهار أنّ الفيدرالية لا تقدّم حلّاً لمشكلة المسيحيين في لبنان، (بصَرف النظر عن السجال حول وجود هذه المشكلة من عدمِه)، واعتبَرت أنّ الذين يَرَوْن أنّ طرحَها في لبنان يُسهم في ملاقاة ما هو مطروح لسوريا والعراق، يَفوتهم عاملٌ مهمّ، وهو أنّ الهدف الأساس والوحيد من وراء طرح تطبيقها في البلدين الأخيرين، هو إنشاء فصل جغرافي بين الشيعة والسنّة لإنهاء احترابهما الدامي، وليس حماية الأقلّيات المسيحية. وجوهر الفكرة هنا، هو أنّ الوظيفية التقليدية السابقة لتبرير طرح الفيدرالية في الشرق تغيّرَت الآن. فهدفُها لم يعد حماية مسيحيّيه بل الفصل بين الشيعة والسُنّة.

ويسجّل هذا النقاش أخطاء عدّة يرتكبها المعتقدون بأنّ الفيدرالية لا تزال تمثّل حلّاً لحماية الأقلّيات المسيحية في الشرق أو في لبنان:

– يُبيّن أوَّلها أنّ الفيدرالية لم تعُد صالحة لاعتمادها في هذه المرحلة كنظام يُسيّج مناطق المسيحيين بجدارات حماية في وجه الطفرة الإسلامية الجهادية. فالفيدرالية كنظام لفصلِ الاشتباك العسكري والديني والثقافي بين بيئات متباينة، انتهى.

والسبب أنّ «داعش» و«الجهاديين الإسلاميين»، لا يعترفون بالحدود الوطنية، وهم نجَحوا في تحطيمها وتجاوزِ حدود «سايكس – بيكو» المشَرعَنة دولياً، فكيف سيكون الحال مع حدود هشّة كالتي تنتج عن الفيدراليات أو حتى الكونفدراليات.

– ثانياً، فضلاً عن أنّ طاولة التسويات الكبرى التي تُحضَّر للمنطقة، ترَكّز همَّها الاستراتيجي الأوّل والوحيد على البعد المتعلق بالاحتراب السنّي – الشيعي فيها، فإنّها أيضاً، وعلى فرض أنّها تضمَّنت خرائط فيدرالية أو كونفدرالية، فإنّ هذه الخرائط ستوضَع لتلبّي الحاجة الدولية للفصل بين المتحاربين وحمَلة البنادق، وهم الشيعة والسنّة حصراً، خصوصاً أنّ هذا الصراع يُغذّي نموَّ الحالات الإسلامية الجهادية التكفيرية.

ويقدّم مثلُ ما حدث في العراق وسوريا من تهجير للمسيحيين، عبرةً لاستنتاج موقع المسيحيين داخل نظرة الغرب للأحداث المستجدة في المنطقة. وعلى رغم أنّ المثل الكردي في العراق هو حالة خاصة، إلّا أنّ الأكراد أدرَكوا خطورةَ المتغيّرات، بدليل أنّ مسعود البرزاني جمَّدَ الآن حديثَه عن استقلال إقليمه، لأنّه باتَ يعرف أنّ حدود «كردستان العراق» لم تعُد مع حكومة بغداد المركزية بل مع «داعش» وتسونامي طفرة التطرّف الإسلامي الذي لا يمكن التحسّب لخطواته التالية.

ويَتبع أكراد العراق اليوم سياسة السير تحت مظلّة حماية التحالف الدولي الناشط بشكل محسوب في محاربة «داعش»، ويَسمح لهم ذلك أحياناً بالوصول إلى مناطق متنازَع عليها مع بغداد كركوك الغنية بالنفط.

ولكنّ أكراد العراق كما أكراد سوريا يضعون أيديَهم على قلوبهم لأنّهم يعرفون أنّ لعبة الكرّ والفرّ العسكري الحاليّة فوق جغرافيا المشرق هي أمرٌ موَقّت، وأنّ تثبيتَ المواقع وحدود الكونفدراليات أو الفيدراليات النهائية سَواءٌ في العراق أو سوريا سيُقرّ في التسوية الكبرى التي سيكون محورها الأساس تلبية موجبات نزع فتيل الفتنة الشيعية – السنّية الكبرى في دوَل المشرق، وأيضاً احتواء استتباعاته الإقليمية.

والواقع أنّ تراجعَ أهمّية مسيحيّي المشرق داخل البحث الدولي عن حلول لحريق المنطقة، بسَبب اكتساب عامل إنهاء الصراع الشيعي – السنّي الأولوية القصوى فيها، لا يعني أنّ مسيحيّي المشرق يواجهون حكمَ الإعدام، بل يَعني أنّ عليهم ابتداع مقاربةٍ جديدة لدَورهم ووجودهم في المنطقة تتناسَب مع ما استجدّ مِن تطوّرات مزلزلة.

ويَعني أيضاً – وهنا بيت القصيد – أنّ مشهد لبنان بحسب نظامه الحالي، يبقى في ظلّ حريق المنطقة وانهيار الفيدرالية كمفهوم لحماية الأقلّيات وتحوّله مفهوماً يفصل بين الأكثريتين الإسلاميتين المقتتلتين، هو الأفضل لجهة أنّه يَحمي تنَوّعَه.

ثلاثة خطوط حُمر أميركية

ويَختم أصحاب هذا الرأي المنسوب لاتّجاهات التفكير في الغرب، أنّ آخر نصيحة أميركية للبنان تحدّثَت عن ثلاثة خطوط حُمر دولية على اللبنانيين عدم تجاوزِها في المدى المنظور أو خلال الفترة الانتقالية في المنطقة:

الأوّل، الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار. وضمن هذا الهدف الإصرار على عدم السماح بحصول فراغ داخل المؤسسات الأمنية.

الثاني، ممنوع المسّ بالليرة اللبنانية لضمان عدم المسّ بالأمن الاجتماعي والاقتصادي اللبناني. وضمن هذه الجزئية هناك إشادة دولية بالوضع المالي اللبناني، حيث يَبلغ احتياطي المصارف اللبنانية – غير احتياط الذهب في المصرف المركزي – 160 مليار دولار، وهو حجم احتياط يقارب ما تملكه أقوى دوَل المنطقة. وهذا يُفسّر أنّ المشكلة الاجتماعية في لبنان ليست نتاجَ وهنِه المالي بل فساده السياسي.

الثالث يُحَذّر من المسّ ببقاء حكومة الرئيس تمّام سلام طالما إنّ مقامَ الرئاسة الأولى لا يزال شاغراً.

وتَجزم المصادر الناقلة لأجواء خطوط واشنطن الحُمر الثلاثة في لبنان، بأنّ هذه الرسالة وصَلت إلى كلّ الأطراف اللبنانية، وليس في نيّة أيّ منها تحَدّيها.