IMLebanon

لكَ حبّي!

شيئان، كنتُ، حتى الأمس القريب، أواظب عليهما. شيئان يتعلقان بريمون جبارة، الفنان الذي أحببتُه من كلّ قلبي وعقلي: قراءة مقاله الأسبوعي في “ملحق النهار”، واتصاله الهاتفي اليومي، بجدّته الراحلة، “آلو ستّي”، عبر إذاعة “صوت لبنان”.

الألم كلّه، لكن من دون صوت. اليأس كلّه، لكن من دون ركوع. السخرية الألمعية الفريدة من نوعها، لكنْ ممزوجةً بالنكتة والضحك والابتسام والعبث.

زرته في بدايات عملي في “النهار”، بصحبة عقل العويط، في قرنة شهوان، فشربنا الويسكي على البلكون. وأكلنا البزورات، مبهَّرةً بحضوره المطواع، اللذيذ، الخفيف، المهضوم، والسكران من غير سكر.

زارني لدى توقيع كتابي، “عودة ليليت”، وقبّلني على جبيني.

هذا الرجل الموهوب، القارص، اللاذع، الليّن، الصريح، الملتبس، الريفي، المديني، العادي، المتواضع، الفقير، العامّي، التراجيدي، عرف كيف يغمس هذه الكيمياء المركّبة، والمتداخلة، بالعبث، وعرف كيف يذوّبها، مثلما يُذوَّب المعدن على نار حامية. أما ناره، هو، فكانت سينيكية، ذكية، لئيمة، هادئة، عابثة، هازئة، ساخرة، سوداء، تأكل الأخضر واليابس، لكنْ من دون أن يهرع رجال الإطفاء لإهمادها. أكثرُ الوجع عنده، اعتقاده أن لا جدوى من الإنسان، وأن الشرّ متأصل، وأن الله “أخطأ” في مسألة الخلق. لم يترك سؤالاً إلاّ طرحه. ولا أحداً إلاّ قرصه. ولا نقداً إلاّ صوّبه على مطرح القلب والجبين والنخاع. صدقه الجارح وصل به إلى حدّ الانقضاض على جروحه، وامتصاص دمائها، والتهامها، التهاماً مخيفاً، حتى النفس الأخير.

في هذا المعنى، كان هو بطل أعماله، وضحيتها، في الآن نفسه. الممثلون والممثلات، الذين تحلّقوا حوله، وصاروا جزءاً من حياته، لا المسرحية فحسب، بل الواقعية أيضاً، هم شخصياته، ومراياه، برضى الطرفين، هو، هم وهنّ، على السواء. لهذا السبب بالذات، سمح لقلمه ولرؤيته الإخراجية، بأن يذهبا بعيداً في التنكيل والحفر والالتهام، من دون أي حساب، ومن دون خطٍّ للرجوع. لأجل ذلك، أرى أنه تراجيدي، على الرغم من أنه ليس تراجيدياً، بل عبثي مطلقاً. وهذا يظهر جلياً، كلما بلغ عملٌ من أعماله الخطوط المأسوية الحمر، حيث كان يستنجد بالسخرية السوداء، نكتةً أكانت، أم ضحكة، أم قفشة، أم زعرنة خفيفة، وذلك من أجل أن ينقذ التراجيديا من براثن اليأس، فيُرجعها صاغرةً إلى ملعبه الأعزّ، ملعب العبث الأسود.

إذا كان على أحد أن يكرّمه، فليعمل على نشر كتاباته الفذة في “ملحق النهار”، وتسجيل رسائله الهاتفية إلى جدّته على مدمّجات، وإعادة إنتاج أعماله المسرحية برمّتها.

ريمون جبارة، لكَ حبّي!