IMLebanon

من الإليزيه إلى جبل الدروز… لهذا أرجَأ جنبلاط تقاعدَه السياسي!

ممنوع على وليد جنبلاط أن يتقاعد سياسياً. إنّه وقتُ الشغل لا الاستراحة. وثَمَّة مَن يتأمّل في مهمّاته، مِن الزواريب المذهبية في بيروت إلى جبل لبنان فجبل الدروز… في ظلّ صراعٍ شرق أوسَطي بلا أفق، فيقول: إذاً، بالنسبة إلى وليد، «العمر بيخلَص والشِغل ما بيخلص»!

في آذار الفائت، زار جنبلاط باريس وأبلغَ الرفيق في الاشتراكية الدولية، الرئيس فرنسوا هولاند، أنّه سيتقاعد سياسياً تاركاً لنجلِه تيمور قيادة الحزب.

سأله هولاند عن تيمور، وأبدى كلَّ اهتمام باستمرار العلاقة التاريخية بين باريس وقصر المختارة، ورحَّبَ بوليد وبتقاعدِه في أحضان العاصمة الفرنسية التي يحبّها كثيراً، حتى إنّه يقول أحياناً: نتمنّى لو تستعيد فرنسا انتدابَها على لبنان لفترة، لعلّنا نستعيد انتظامَنا المفقود…

في تلك الفترة، كان وليد يفكِّر في الاستقالة من النيابة وإتاحة المجال لانتخابات فرعية تأتي بتيمور. لكنّ صديقه الرئيس نبيه برّي لم يكن راغباً في ذلك لسببَين:

– سياسي، وهو اقتناعُه بأنّ بقاءَ جنبلاط الفاعل في البرلمان والحياة السياسية ما زال ضرورياً.

– إجرائيّ، ويتمثَّل بعدمِ تحَمُّل البلد انتخابات فرعية. وإلّا فما المبرِّر لبقاء المقعد شاغراً في جزّين؟ وما المبرِّر أساساً للتمديد للمجلس؟ ومَن يضمن أَلّا «تتفتَّح العيون» على الانتخابات الفرعية فيستقيل آخرون لتسليم أبنائهم؟

وكان الرئيس سعد الحريري أيضاً، وآخرون، يحَبّذون استمرارَ «البيك الكبير» في المختارة إلى أن تزولَ الظروف الضاغطة فتتيحَ عملية تسليم وتسَلُّم أكثر ملاءمة. فدورُه محوريّ بين القوى المتصارعة مذهبياً. وليس سَهلاً على وريث شاب للزعامة أن يضطلعَ بهذا الدور.

التقاعد «على تويتر»!

لم يستمع جنبلاط إلى النصائح، ومضى في قراره. فالتوقيت العائلي للتوريث ليس غريباً: كمال جنبلاط كان عمره 26 عندما ورثَ الزعامة بعد اغتيال فؤاد، ووليد كان عمره 29 عندما ورثَ الزعامة بعد اغتيال كمال. أمّا تيمور فعمرُه 33، وهو يَحظى برعاية والدِه في التوريث.

وهكذا، في أيار، بدأ تيمور يَجلس في كرسي والدِه مستقبِلاً الوفود. وانصرَف وليد إلى «تويتر» حيث أقامَ شبكةً واسعة من العلاقات مع الناس، وتحوَّلَ بتغريداته الذكية والطريفة أكبرَ نجمٍ لبنانيّ على مواقع التواصل. وسألَ البعضُ: هل هذا فعلاً تقاعُدٌ سياسيّ؟

تسَلّمَ تيمور جانباً إجرائياً في دارةِ المختارة: التعاطي مع الناس. لكنّ وليد بقيَ رئيس الحزب والكتلة النيابية. وتمَّ إرجاء المناسبات الحزبية التي قد تشَكِّل مناسبة لنقلِ المسؤوليات الحزبية رسمياً إلى تيمور، ولا سيّما الجمعية العمومية التي تَوَقَّع البعض انعقادَها في ذكرى تأسيس الحزب، أوّل أيار. وأساساً، يكرَه وليد جنبلاط المناسبات، وفي السنوات الأخيرة باتَ يفَضِّل عليها إحياءَ الذكريات بصمت: وردة على ضريح كمال جنبلاط في ذكرى استشهاده، وتأمُّلٌ في ذكرى ولادته…

رأى كثيرون أنّ وليد تركَ تيمور في أيدٍ أمينة واطمأنّ إلى أنّه يستطيع الابتعاد: الرعاية الكبرى من رفيقه القديم مروان حمادة، والمعاونة المباشَرة من رفيقه الشاب وائل أبو فاعور الذي اكتسبَ ثقةً عميقة في دارة المختارة، بعد تراجُع نجم غازي العريضي. ولكن، في الواقع، لم يتخَلَّ وليد عن دوره السياسي. فالتحدِّيات كبيرة ولا تتيحُ له التقاعد.

هولاند يفَضِّل استمرار وليد

وقبل شهر، قامَ وليد بزيارة «عائلية» للإليزيه بدعوةٍ مِن هولاند للتعرُّف إلى تيمور. وأراد وليد من الزيارة أن يكرِّس الارتباط التقليدي بين باريس و«البيك» الشاب. ويقول جنبلاط إنّ هولاند أبلغَ تيمور تمسُّكَه بالصداقة والدعم.

ويتحفَّظ القريبون من جنبلاط عن الدخول في تفاصيل حول رأي هولاند في تقاعد وليد السياسي في هذه الظروف. لكن ثمَّة مَن يقول إنّ هولاند، على رغم ارتياحه إلى شخصية تيمور، بقيَ عند تمنّيه لوليد بالتريّث في التنَحّي السياسي.

وتمنّيات هولاند، ومثله الكثير من حلفاء وليد وأصدقائه، يبدو أنّها دفعَته إلى التريّث فعلاً. وفي تعبير أدقّ، هو لم يوقِف عملية التوريث السياسي، لكنّه أعطى روزنامتَه الزمنية مزيداً من الوقت. فهو سيستغرق أشهراً أخرى، بل سنوات إذا اقتضى الأمر. والمسألة تتعلّق بمسار الصراع في سوريا. فالأزمة تبدأ هناك وتنتهي.

«الإرث ليس عملية أوتوماتيكية»

المصادر الحزبية الرسمية تحاذِر الدخولَ في تفاصيل كثيرة حول تأجيل التقاعد السياسي. ويقول مفوَّض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريّس لـ«الجمهورية»: «كعادته كان جنبلاط سَبّاقاً، وهو كان أوّلَ مَن فكَّرَ فعلياً في تسليم الدفَّة، معتبِراً أنّ تأمين الاستمرارية السياسية مسألة مهمَّة وحسّاسة.

وهو الذي دأبَ على مدى سنوات على تجديد شباب الحزب وتطعيمه بعناصر شابّة وتسليمها مواقع قيادية متقدّمة». ويضيف: «لقد انطلقَ تيمور جنبلاط بالعمل الفعلي من خلال الملف الاجتماعي والخدماتي، وهو ملف صعب وشائك.

وهذه الخطوة تأتي بعد سَنوات من المتابعة لكلّ الملفات السياسية وغير السياسية. وللتذكير، إنّ دار المختارة ربّما تكون البيت السياسي الوحيد المفتوح للناس من دون وسيط، وهو تقليد قديم واظَبَ على تطبيقه آل جنبلاط وكرَّسه النائب وليد جنبلاط ويحافظ عليه الآن تيمور جنبلاط.

أمّا مسألة التقاعد السياسي، فهي لم تكن مطبَّقة يوماً في لبنان، ولكنّنا بدأنا نشهد تحَوُّلاً في هذا الأمر. وصحيحٌ أنّ هناك ما يسمّى زعامات تقليدية أو بيوتاً سياسية لعبَت أدواراً كبيرة في تاريخ لبنان المعاصر، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ هناك عائلات سياسية انتهى عملها السياسي. وهذا يعني أنّ الحفاظ على الإرث السياسي يتطلّب جهداً ومتابعة ومثابرة، وهو لا يتحقّق بصورة آليّة أو أوتوماتيكية».

العارفون يقولون: بالتأكيد، ليس لدى وليد أيّ اهتزاز في الثقة في نجلِه. فهو أظهرَ مرونةً وقدرة جيِّدة على استيعاب المعطيات، وإنْ تَمايَزَ بأسلوبه عن والده. وبالتأكيد، لم يشعر وليد بأنّه قامَ بخطوة ناقصة عند تسليمِه تيمور جزءاً من الزعامة، وهو لم يتراجَع عنها نادماً. لكنّه أعاد البرمجَة الزمنية لروزنامة التوريث.

مسؤولية «الوسيط» المذهبي

ويقول العارفون: إستجابَ جنبلاط للتمنّيات بعدم التقاعد لأنّ الوضع ما زال يحتاج إليه. فالتحَدّيات الآتية كبيرة. والوضع في سوريا مفتوح على التصعيد إلى أجلٍ غيرِ مسَمّى، وهو سيترك مفاعيله القاسية لبنانياً. ويَقتضي على اللاعبين المحَلّيين أن يتمتّعوا بكثير من البراعة في إدارة اللعبة.

فجنبلاط يَضطلع بدور الوسيط بين «حزب الله» و»المستقبل»، أي بين السُنّة والشيعة. وينَسِّق المبادرات مع الرئيس برّي، حفاظاً على شعرة معاوية بين القوى المذهبية منعاً للفتنة. وهذه المهمّة مطلوب استمرارُها ما دامت الحرب مستمرّة في سوريا.

«الغلط ممنوع»!

وعلى خلفية الصراع في سوريا، تَبرز الحاجة الدرزية إلى وليد جنبلاط. ففي حزيران، تعرّضَ دروز السويداء لتجربة قاسية، بالمواجهة مع «النصرة». وشهدَت الساحة الدرزية في لبنان اضطراباً عنيفاً في مواجهة الملف. وإذ حرصَ جنبلاط على التهدئة والمرونة لتمرير «القطوع»، دعا الوزير السابق وئام وهاب إلى تسليح الدروز ليحاربوا «النصرة»، وأصَرَّ النائب طلال إرسلان على تحالف الدروز مع الرئيس بشّار الأسد.

هذا الواقع أقلقَ وليد. فـ«الغَلط ممنوع»، وأيّ «تخبيص» في تموضع الدروز السوريّين قد يكلِّفهم الكثير. ومن الضروري أن يحافظوا على الحكمة ومداراة الواقع. وهذا التحدّي يَستلزم حضورَه شخصياً في المختارة. وإذا استمرّ نهج إرسلان، في غياب هالة وليد جنبلاط، فذلك قد يثير انطباعاً بأنّ دروز لبنان إنحازوا إلى الأسد. وهذا مكلِفٌ للدروز في سوريا ولبنان.

إرسلان «العائد» إلى عاليه

واستطراداً، تتحدّث أوساط درزية مواكِبة عن قيام إرسلان أخيراً بجولات في قرى عاليه. وبدأ يَجتذب الوفود إلى قصر آل إرسلان التاريخي في عاليه، وليس إلى دارة خلدة. وهذا ما يثير الحفيظةَ الجنبلاطية من قيام إرسلان بالاستفادة من تقاعد وليد السياسي.

طلال يقاطِع وليد… ويغازل غازي

ومِن النماذج ما جرى أخيراً في بيصور. فقد حضَر جنبلاط احتفالاً هناك، وألقى فيه كلمةً، بمشاركة النوّاب وممثلين عن إرسلان والأحزاب الحليفة له، ومنها «أمل» و«حزب الله». لكنّ إرسلان الذي لم يشارك شخصياً، حضَر إلى مائدةٍ أقامَها النائب غازي العريضي في البلدة.

وهذا الأمر تركَ انطباعاً سَلبياً. وازداد اقتناع جنبلاط الأب بأنّ الوضع الدرزيّ ما زال يحتاج إليه، خصوصاً إذا عمدَ البعض، لغايات معيّنة، إلى اللعب على التناقضات الدرزية، وحتى في ملفّ مشيَخة العقل.

تيمور سيكبُر ويتدرّب بهدوء

إذاً، وجَد جنبلاط نفسَه محكوماً باعتبارات بالغة الدقَّة تمنَعه من تحقيق الحلم الذي عبَّر عنه ذات يوم: التقاعد والعيش خارج المتاعب اللبنانية. وهي الصورة التي عبَّر عنها كاريكاتورياً بالقول: «زبّال في نيويورك أفضل من سياسي في بيروت».

وكشفَ جنبلاط قبل أيام، مغرِّداً عبر «تويتر»، أنّ مشروعه للتقاعد «ما زبَط معي». وقال ممازحاً: «كنتُ أريد الذهاب إلى مهمّتي التي صرَّحتُ عنها، بأن أكون زبّالاً في نيويورك، لكنّني أصبحت الزبّال الأوّل في لبنان». وربّما يتقصَّد جنبلاط وصفَ نفسِه بـ»الزبّال الأوّل». فهو يأخذ فِعلاً على عاتقه تنظيف الجوّ المذهبي لئلّا تتسَبَّبَ «النفايات المذهبية» بكارثة.

لن يتركَ جنبلاط بندقيته ويتخلّى عن المتراس، وعلى الأرجح حتى انتهاء الصراع في سوريا. وفي الأثناء، سيُتاح لتيمور أن يكبر سياسياً بهدوء ويتدرّب، فلا يتعرَّض لخَضّات ربّما تكون مفتعَلة، وهو طريّ العود. وليس في الأفق ما يوحي بانتخابات نيابية تفرض التبادل المبكِر بين الأب والابن، ولا انتخابات حزبية.